الروائيُّ السعوديُّ محمَّد حسن علوان
أشتهي الكتابة حتى لو لم يقرأ لي أحد!
حوار/ نهلة العربي
من خلال قراءتي لأعمالك الروائية الثلاثة (سقف الكفاية – صوفيا- طوق الطهارة) لاحظت أن بطل الخفي الحبكة الرئيسية لاشتغال السردي هو ”الفقدان“ فهل تعتقد أن الفقدان هو أكبر محرك للأحداث وللمشاعر الإنسانية؟ ولماذا تكرر في كل أعمالك بشكل أو بآخر؟
لا أجزم أنه المحرك الأكبر للمشاعر الإنسانية، ولكن ربما كان في حالتي أنا على الأقل. تكرره في أعمالي دون نية مسبقة من قبلي دليلٌ على هيمنته في داخلي، أما تفسير ذلك فقد لا أملك تفاصيله حتى الآن. ربما كانت روحي القلقة، أو حساسيتي المفرطة، أو ربما لفقدي والدي في السادسة من عمري بعد أن قضى شاباً بمرض لم يمهله، فكان لذلك أثر على ما أكتبه.
ظن البعض أنك أنت ”ناصر“ بطل رواية ”سقف الكفاية“ وهي عملك الروائي الأول ربما لأنك تتشارك معه في بعض التفاصيل. لماذا برأيك يلجأ الروائي دائماً أو في معظم الحالات إلى خلفيته الواقعية الذاتية في عمله الأول فيخرج العمل شديد الشبه به؟
مبرراتُ ذلك تختلف من كاتبٍ لآخر، ولكن بالنسبة لي فعلتُ ذلك لأني كتبتُ روايتي في عمرٍ مبكر، وتجاربي قليلة، ومعرفتي بالرواية قراءةً وكتابةً كانت محدودة جداً وربما لا تزال. ولذلك وجدتُ نفسي محصوراً في الشخصيات الشبيهة، والأحداث التي أعرف طعمها ورائحتها جيداً، وليس بوسع خيالي أن يخلق من العدم، أو يؤلف من شذرات متباعدة كينونة سردية متماسكة.
هل مازلت مخدراً بأفيون (طوق الطهارة) ولم تستفق منه بعد أم أنك بدأت تسعي لزرع حقول جديدة في كتاب جديد؟ حدثنا عن حقلك أن وجد؟
(طوق الطهارة) صدرت في العام 2007، وذلك بعد ثلاث سنوات من صدور (صوفيا). هذا هو الفارق الزمني المعتاد بين رواياتي. أعرف أن ذلك يفترض أن الوقت قد حان لرواية جديدة، ولكني أحاول جاهداً ألا أستجيب لضغوط الوقت أو أقلق من تأخر الإصدار. أحياناً نشتاق لوهج الإتيان بالجديد لنبقى بين حدود الإطار، فنهمل شرط الإجادة والاقتناع. وأنا شخصياً أستطيع أن أتحمل مشقة النسيان، ولكني لا أستطيع تحمل ندم الرداءة!
لديّ رواية قيد الكتابة الآن ولا أستطيع الكشف عن أجوائها، ليس من باب التحفيز.. ولكن خوفاً من أن أتورط فيما أعلنتُ عنه ثم لا أتمكن من كتابته!
حين بدأنا مشروع مجلة العين الثالثة تمنينا أن يكون لها طابع ساخر وللأسف لم نستطع لقلة الأقلام التي تهتم بالكتابة الساخرة. لماذا في رأيك ككاتب يكاد يختفي القلم الساخر العربي ولماذا لم نعد نهتم بالأدب الساخر؟
لا أدري. يبدو سؤالكِ محرضاً لدراسة تشترك فيها العلوم الثلاث: الاجتماع، والفن، والنفس. ولكني على كل حال أستطيع أن أتخرص الإجابة وأحيل السبب إلى ضعف جاذبية الكتابة في العالم العربي. الدوافع ضعيفة جداً إلى حد أن اتخاذ الكتابة مهنة صار يعدّ انتحاراً مادياً. لاحظي قلّة عدد الذين يمتهنون الكتابة، وكيف أنهم يضطرون أن يردفوا ذلك بالعمل الصحفي أو الأكاديمي حتى يقيموا الأود. والصحافة والكتابة مهنتان مختلفتان تماماً، قد تجتمعان في شخص واحد ولكن ليس بالضرورة. هناك مفكرون وموهوبون كثر اضطروا إلى صرف مواهبهم وقدراتهم المتفوقة في مجالات أخرى، حتى لو لم يتقنوها تماماً، ولكنها تعود عليهم بعوائد أجزى وأكثر أماناً من احتراف الكتابة التي يتقنونها.
ماذا تشكل ”سقف الكفاية“ في رصيدك الروائي؟
يكفي أنها منحتني دافعاً كافياً للاستمرار في الكتابة. بطبيعة الحال، كلما كبرتُ وتنوعت قراءاتي وازدادت تجاربي الكتابية، وتجاوزت الأفق العمريّ الذي كتبتُ فيه (سقف الكفاية) كلما قلّ رضاي عنها فنياً، ولكن يزداد رضاي المعنويّ عنها. لو أن (سقف الكفاية) لم تحقق لي عائداً قرائياً يرضي طموحي الصغير آنذاك لربما صرفتُ النظر عن الكتابة نهائياً، ولو أني فعلتُ لفاتني الكثير من متع التأمل، ودحرجة الكلمات، ومحاولات التبصر في شؤون الحياة.
هل أنت من متتبعي الأقلام الأدبية الليبية؟ من يعجبك من أدبائنا ولماذا؟
يعجبني (محمد زيدان)، القاصّ والروائي الليبي الذي لا يزال يحبس كتابته الكبيرة بين أصابعه ولم يأذن لها بالانفجار بعد.
أعتقد بعض النقاد أنك تعتمد علي أسلوب واحد في السرد وإن اختلفت الفكرة حيث مماطلة في وصف المشاعر الإنسانية أكثر من الأحداث نفسها.. ما وجه الصحة في هذا الكلام؟ وهل يمكن أن يصنف قلم محمد حسن علوان الروائي كقلم السرد الداخلي للشخوص الروائية فلا نجد في أي من أعماله القادمة ما يختلف عن هذا؟
عندما يتعلق الأمر بوجهة نظر نقدية فلا يمكن أن يكون هناك وجوه للصحة والخطأ. الحقيقة، أني لا أقلق كثيراً حول أسلوبي وما يجب أن يكون عليه، ولا حول التصنيف الذي قد يلتصق بي نقدياً. ما يهمني هو أن يكون عندي ذائقة حرّة أقيس بها ما أكتبه، ونشاط معرفيّ يضمن لي ألا أركن للكسل الثقافي، وبعد ذلك سيتطور أسلوبي حسب حدود قدرتي، واتجاهات عقلي، وسأكتب ما يمكنني كتابته، وأستمتع بقراءة ما لا يمكنني كتابته.
هل وصلت لسقف كفايتك؟
ليس بعد. هبي أني وصلت، ماذا سأفعل بقية عمري؟
هل سنري لك مجموعة قصصية قريبة؟ ولماذا لم تهتم بإصدار كتاب يجمع إنتاجك القصصي إلى الآن؟
لم أكتب عدداً كافياً من القصص يبرر جمعها في كتاب. كل ما كتبته في السنوات العشر الماضية لا يتجاوز ثلاث عشرة قصة فقط، وكلها يمكن للقراء قراءتها في مواقع القصة القصيرة دون حاجة إلى أن أضمها في مجموعة.
حدثني عن مراحل الكتابة الروائية لديك؟ فهل مثلا تكتب بطريقة الارتجال أم تنتظر حتى اختمار الفكرة؟ وهل تكتب الأحداث بطريقة التسلسل أم تكتبها بطريقة مخرج يصور المشاهد مبعثرة ثم يجمعها في نهاية الأمر في قالب واحد؟
استرسل في الكتابة حتى تندلق الفكرة كاملة أمامي، ثم أسعى إلى تشكيلها لتخرج في قالب يحقق متعة القراءة. المرحلة الأولى تتطلب وقتاً أقصر وجهداً أقلّ لأني أكون حينها ملتاثاً بالنشوة الأوليّة للكتابة، والمرحلة الثانية قد تأتي بعد توقف طويل أحياناً حتى أتخارج من اللوثة، وأتأكد أني أقيّم النص بحياد. هذا ما فعلته في (سقف الكفاية) و(صوفيا). أما في (طوق الطهارة) فقد كتبتها في مراحل أكثر، وجمعتُ بين أفكار مختلفة وقصص متفرقة. ولم يكن ذلك ممتعاً أغلب الأحيان.
هل تعرضت لأي مشاكل مع الرقابة فيما يخص عملية النشر خصوصاً بعد الكثير من عمليات المنع التي نسمع عنها كل يوم من قبل رقابة المطبوعات في السعودية؟
رقابة المطبوعات في السعودية تمرّ بمراحل التذبذب التي تسبق التغيرات الكبرى. وشخصياً، لم أتعرض لأي مشاكل ما عدا المنع الذي كان متوقعاً في البداية، ولكنه توقف الآن، ورواياتي أصبحت موجودة في المكتبات ومعارض الكتاب، ولم أسمع أن أياً منها تعرّض للمنع مؤخراً إلا في (نوبات) مؤقتة تنتاب الرقيب استجابةً لموجة إعلامية أو اجتماعية ما، أو أجندة حكومية لا تلبث أن تتغير.
هل استطعت في كل من ”صوفيا“ و”طوق الطهارة“ الاشتغال بعيداً عن تأثير كل الاتهامات الإعلامية التي وجهت إليك من بعد سقف الكفاية؟
ما هي هذه الاتهامات الإعلامية؟ على كل حال، لا أعتقد أني تأثرتُ بها كثيراً أياً كانت لطول الفترة الزمنية بين إصداراتي مما يسمح لي بهضم كل ردود الفعل المباشرة والنقدية والإعلامية، ووضعها في نصابها الصحيح.
لاحظت أنك من رواد المنتديات وهذا يخالف واقع ما نراه من الكتاب الآخرين.. فلماذا برأيك يتعفف الأدباء من الكتابة في المنتديات واعتبارها أماكن لا تليق بأقلامهم؟
كتبتُ في منتديات قليلة، ولكني توقفتُ عن ذلك حتى أتيح حضوراً أكبر لموقعي الشخصي. ومن وجهة نظري الشخصية أن المنتديات الأدبية، في السعودية تحديداً، ساهمت في تخريج مجموعة مميزة من الأدباء لم يكونوا ليستدلوا طريقهم نحو الكتابة لولا هذه الفرصة التفاعلية الجميلة. إذا كان ثمة عزوف عن المنتديات من قبل الأدباء فلا أظن أنه في غالبه بسبب التعالي بقدر ما هو عدم اعتياد على الكتابة التفاعلية، أو انشغال بمشروع كتابة شخصيّ.
يقولون أن الكيان الروائي هو الأفضل لتمرير الأفكار والمعتقدات والنظريات التي قد لا يتمكن الكاتب من الجهر بها علناً لسبب ما، فهل محمد حسن علوان يتبع هذه السياسية؟
تمرير الأفكار والمعتقدات يوحي أن هناك (أجندة) ما يتحركُ الكاتب وفقاً لها، وهذا ممكن، ولكنه لا ينطبق عليّ. أنا أنحاز للفن المطلق الذي هو غايةٌ بحد ذاته، وليس وسيلةً لأي شيء مهما كان نبيلاً. الرواية برأيي قد تكون الأقدر على (تناول) الكثير من هذه الأفكار والمعتقدات والنظريات وليس (تمريرها). والتناول هنا يعني المساءلة والطرح والتنقيب عن الجوهر والتجريب وكل المهامّ الفاحصة والمستنيرة التي تقوم بها الرواية فكرياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً.
كيف ترى الإنتاج الروائي العربي اليوم بعد أن اتهمه البعض انه لم يعد يأتي بالجديد بل وأصبح متشابهاً بشكل واضح ولماذا يظل الجميع يرى في الأعمال العالمية شي لا يمكن منافسته؟
أراه واعداً. الجيل القادم من الروائيين العرب معتدّ بأدواته الروائية، ومتخارج من دوائر الأفكار التي سجنت الأجيال السابقة آيديولوجياً ومعرفياً، ونزّاع إلى مخاطبة البعد العولمي والإنساني الكبير. أعتقد أنهم بعض الروائيين العرب الشباب عالميّون بالفعل، لولا قيود الترجمة والنشر وضعف الميزانيات التي تكرسها حكومات بلادهم لتحقيق الشرط الماديّ للعالمية.
الرياض كانت حاضرة بشكل كلي أو جزئي في الأعمال الثلاثة حضوراً ثقافياً واجتماعياً يتجاوز جغرافيا المكان ولا أذكر أنك قلت ”سعودي“ أو ذكرت ”السعودية“ كوطن شامل يحمل في داخله كل الأماكن والمدن، فهل نعتبر انتماء محمد حسن علوان لمدينة أشمل من انتمائه لوطن؟
هو كذلك. السعودية كيان سياسيّ، مثل كل دول العالم. يتم تمييزها عن غيرها وفقاً للدستور، والحدود الجغرافية، ولون العلم، وغيرها. بينما المدن كيانات ثقافية واجتماعية تتمايز عن بعضها بناءً على طبيعة أهلها وتفاعلاتهم الحياتية التي تحتاجها الرواية بشدة.
قلت في احد اللقاءات التي أجريت معك ”أنا بدأت ككاتب لا أملك إلا قلمي ودفتري، وسأظل أمارس الكتابة بنفس المحفزات الأصلية“ فما هي محفزاتك الأصلية تلك في الكتابة؟
محفزي الأصلي هو اشتهائي للكتابة كممارسة.. حتى لو لم يقرأها أحد. شخصياً أرى أن (فعل الكتابة) وانفعالاته مختلفٌ عن (فعل النشر) وحيثياته. وأنا أجد في الأول حوافز كافية للكتابة، ولا يعني هذا أن الثاني لا يهمني، ولكن لكل منهما نوع مختلف من الحوافز. فحوافز الكتابة شعورية مصدرها النشوة العقلية والمتعة الوجدانية، بينما حوافز النشر غريزية مصدرها حب التمايز والظهور والنجاح.