arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة العربي الجديد

الصوفية بوجهيها الرقيق والقاسي

رنوة العمصي

كاتبة وشاعرة بحرينية

تتساءل إذ تشرع بقراءة رواية “موت صغير” خامس روايات السعودي محمد حسن علوان الصادرة عن دار الساقي 2016، إن كان هذا العمل مغامرةً لغوية جديدةً للكاتب، بعد “سقف الكفاية” المكتوبة بنفَس شعريّ جليّ، ثم “القندس” المتخففة من ثِقَل زخرفة اللغة، مفاجئة قراء علوان بالسردية الخالصة لوجه السرد. في “موت صغير” تستقبلك الرواية بلغة كلاسيكيّة محمّلة بالعبارات والتعبيرات الصوفيّة، ماتلبث أن تخف وطأتها لتوازن صوت السارد ومتطلَّب السرد نفسه.

تتناول الرواية رحلة بحث الإمام الأكبر الشيخ محيي الدين ابن عربي، فيلسوف وشيخ الصوفيّة، عن أوتاده الأربعة، والأوتاد هم أربعة رجال منازلهم على منازل أربعة أركان من العالم: شرق وغرب وشمال وجنوب، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة. وبالتوازي مع رحلة ابن عربي، تسير في الرواية رحلة أخرى، هي رحلة مخطوطة من مخطوطاته وترحالها من مدينة إلى أخرى منذ وفاته حتى يومنا هذا، إذ يخبرنا علوان في كل مرة، عن لحظة من اللحظات الفاصلة التي تسببت في انتقال المخطوط من موقع لآخر، سواء وفاة المؤتمن عليه أو وقوع حرب، أو ما إلى هنالك. فالرواية حكايتان تسيران معًا، إحداهما بعمر ابن عربي والثانية عمرها مئات السنين.
يذهب علوان في روايته إلى السرد العمودي مركزًا على الأحداث التي شكّلت بيئة ابن عربي واحتضنت فكره ونصّه وشعره، دون أن يتعرّض فعليّا لهذا الفكر أو النص، بل ينحاز للسياقات الدرامية والأحداث، ولرسم الأمكنة بصورة بالغة الدقة والتمعن، وبقدرة لافتة على تعمير المدن والأمكنة باللغة، حتى إنك تظنّ، ثمّ تخطئ نفسك، أن علوان إنما أراد بذلك نزع هالة السحر الصوفي ووهج كرامات الأولياء، وتلك الحالة الروحية الخالصة، بين الواقع والخيال، بين الممكن والمعجز، التي تصاحب الأثر الصوفي الذي تواترت أنباؤه وأخباره حتى وصلت إلينا اليوم، عبر إغراق القارئ في تفاصيل يوميات ابن عربي فتجدك معه في قلقه، حيرته، شغله مع السلاطين، سهراته، حبه، زواجه.

تسير حكاية رحلة المخطوط بالتوازي مع حكاية رحلة الشيخ محيي الدين ابن عربي، فيصبح كل ظهور للمخطوط مصحوباً بشخصيات جديدة، زمن مختلف ومعطيات تاريخية وصراعات مختلفة، أراد علوان اختزالها في وريقات معدودة تظهر على فترات في الرواية، ما شكل بعض الإرباك إذ لم يكن ذلك كافيًا لسرد السياقات التاريخية لتلك المراحل المفصلية التي شهد كل منها انتقال المخطوط من مكان لآخر، فشكلت هذه المقاطعات، في بعض الأحيان، عبئا على سياق العمل، عكس ما كان يجدر بها.

تجدر قراءة هذا العمل ضمن سياق مشهد ثقافي يشهد رواجًا واعياً أو غير واعٍ، كاملاً أو مجتزأ للفكر الصوفي والأدب الصوفي، وتعد من أبرز نماذجه على الصعيد الجماهيري، رواية “قواعد العشق الأربعون” للتركية إليف شافاق، التي تناولت سيرة المتصوف الكبير “جلال الدين الرومي” بالتوازي مع حكاية أخرى تدور في وقتنا الحالي، هي حكاية مخطوط رواية شكّلت مدخلًا للحالة الصوفية، وحققت بعض التوازن بين الواقعي والسحري في العمل.

على العكس من “قواعد العشق الأربعون” التي أغدقت بالبريق والسِّحر على الحالة الصوفيّة، تقف “موتٌ صغير” المأخوذ عنوانها من عبارة لمحيي الدين ابن عربي تقول: “الحبُّ موتٌ صغير”، على ما يشبه الحياد من الحالة الصوفية لابن عربي، فمع إقرارها بحدوث بعض الكرامات، ولحظات الصفاء والكشف، فإنها أيضًا ترصد الحالة اليومية العادية للرجل ومحيطه، فتظهر الوجه الآخر للشخصية، بالسّفر الذي يستدعي بالضرورة حالة من التنصل والتخلّي، بالمسالَمة التي تتجاوزها إلى مجاراة الملوك والسلاطين في بعض المواضع، وغيرها من الصور التي تثير في النفس التساؤل وعدم الارتياح. “موت صغير” تحكي الصوفية بوجهيها الناعم والقاسي، المرغوب معرفته والمتغاضى عنه، أبعد من حدودها الرومانسية المعهودة.