arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة القدس العربي

محمد حسن علوان يُفردن ابن عربي في «موت صغير»

محمد العباس

ناقد سعودي

ابن عربي كنصٍ تراثي مركزي ليس شخصية أسطورية، كما يختزنها الوعي العربي، إنما هو مجرد فرد، أو هكذا أراده محمد حسن علوان، فأعاد إنتاج سيرته بمنظور روائي، حيث استجلبه من فضائه التاريخي ومداره الأسطوري، ليدفعه في سياق الكائن البشري، وضمن ما يُعرف بزمن الحكاية الكاذب، وذلك في روايته «موت صغير» الصادرة عن دار الساقي، من خلال أداء سردي مُهندَّس بوعي وقصدية.
فهو يعي تماماً أن المسافة واسعة ما بين مفهوم الوجود الفردي، المتأتي من الفكر النقدي الحديث، والمفهوم القديم للبطل الأسطوري الذي تستحوذ فيه الشخصية البطولية على امتيازات تمثيل الكتلة الاجتماعية، والتعبير الرمزي عنها، بمعنــى أنه يقترح من خلال روايته فهماً اجتماعياً لشخصية ساطية روحياً ومعرفياً، طالما قُرئت خارج مدارها الاجتماعي، حيث تنهض رؤية الرواية الجمالية على ربط الكتابة بفعل استدعاء شخصية ممجّدة من الماضي، والبحث عن إشراقاتها الذاتية.
لا يحضر ابن عربي في الرواية من أقاصي ذلك الزمن المستعاد بسطوته الصوفية، ولا كشخصية عارفة أو مشتبكة مع الآخرين، فهو بمقتضى الحسّ الفرداني الذي تستبطنه، مجرد فرد لا يتمتع بأي امتيازات خاصة، عدا حقوقه الإنسانية البسيطة، المتمثلة في حرية الاعتقاد والتفكير واعتناق الحرية، حيث يتحرك في المشهد الحياتي بصفته قصة وعي فردي مضاد لكل ما هو اجتماعي، داخل مرحلة آفلة تلقي بظلالها على الحاضر، على عكس حضور البطل الأسطوري، الذي تتحشّد فيه آمال وأحلام الجماعة، فهو لا يمثل إلا نفسه، وكأن الرواية تتحدث عن شخص يتخفف من هالته الروحية ومن سلطته المنغرسة بعمق في وجدان الإنسان العربي، وهذا هو ما يفسر الإحساس بعادية شخصيته داخل الرواية التي تبأرت فيها كل عناصر السرد.
وعلى الرغم من استدعائه لابن عربي الفرد، إلا أن محمد حسن علوان لم يحسم ذلك التمادي الفرداني تماماً، ربما لأنه اغترف من سرد خام كان من القوة بحيث فرض أثره عليه، ولذلك سمح لشيء من الميثوس «السرد الأسطوري» بالتسلّل إلى روايته، حيث استحضر شذرات من رحيق التجربة الصوفية لبطله وعلقها على مداخل فصول الرواية كعتبات، ليسمي بطله ويسيّجه بمنظومة من المعطيات النصّية، باعتباره كوناً من النصوص المغوية، وهي مصدات لسانية تعمل كروافع أدبية من ناحية، وتحيل من ناحية أخرى إلى كفاءة بطله العرفانية، التي تعادل في هذا الصدد القيمة الأسطورية، بمعنى أنه أراد أن يلوّح بالبطولي من خارج النص، وأن يسبغ على ذلك الجمالي فاعلية بطولية مضاعفة، بما في ذلك عنوان الرواية المستلّ من قولته «الحب موت صغير»، إذ لم تكن تلك الأفورزمات الساطية جمالياً، ملتحمة مع النص أو مستدمجة فيه، إلا بشكل نسبي، حيث كانت معلقة كقناديل في درب الالتقاء بابن عربي، والتعرّف على مكانته، فعندما يستذكر مقولته «كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها بالولادة» فهو إنما يوظف هذه المقولة لتوطين فكرة الترحال في حياة ابن عربي وفي سياق الرواية، أما بقية المقولات فلا علاقة لها بالمنطوق السردي الذي يضطلع برواية الأحداث.
هذا التردد في الحسم ما بين الأسطوري والفردي مردّه الرغبة في اتخاذ بطل ثقافي يعيش علاقة تسالمية مع محيطه الاجتماعي، بمقتضى مفاعيل الصوفية الفائضة التي يصعب الانفلات من سحرانيتها، فابن عربي في الرواية عالم، عارف، لديه قدرات استثنائية في تشخيص الاختلالات الاجتماعية والتواصل الروحي مع المطلق، واستعداد غير عادي للانتقال من بلد إلى آخر في رحلات معرفية لها تداعياتها الإنسانية، حيث تنقّل ما بين مرسيّه، وإشبيليه، وفاس، ومراكش، ومكة، وحلب، وبغداد، وبعلبك، والقاهرة، ودمشق، وقونيه، وملطية، وهو بهذا البحث المتواصل عن القيم العليا في فضاءات متردية، إنما يقترب من حافة البطل الإشكالي، الذي شخصّ ملامحه جورج لوكاتش، إذ تتأكد رغبته في الانحياز بابن عربي إلى فرديته، وتنازله عن الدور البطولي من خلال مواقفه المعلنة، خصوصاً عندما يتفرج على المآل الذي انتهى إليه ابن رشد، كما يعبر محمد حسن علوان عن ذلك الإحساس بعبارات دالّة «أوصى ابن رشد أن يدفن في قرطبة، قررت أن أشيعه لعلي أشيع معه شعوري بالذنب، وأدفن إلى جواره مقراض الندم الذي يأكل من قلبي فلا يشبع»، تماماً كما تعامل بحيادية الشاهد الثقافي على إعدام السهروردي.
الرواية في مجملها تنهض على جهد تركيبي لمنظومة من المشاهد المتخيلة والمغترفة من مادة معرفية خام، المنسوجة في خيط سردي تم إخضاعه لمحسنات التبليغ الجمالي، وهي مكتوبة بلسان ابن عربي، وذلك يعني استئثاره بالحكي باعتباره هو السارد والشخصية المحورية، فالكلام بضمير المتكلم، حسب تصور رولان بارت، يحيل إلى احتكار اللغة، وبالتالي حشد الأفكار والمواقف والحكاية المبأرة برمتها في شخصية المتكلم، باعتباره رمزاً لوحدة النص، أي كاستجابة لحداثة سردية تطمس المقام السردي، وتعطي الكلمة مباشرة للشخصية، بالتصور ذاته الذي عارض بموجبه أفلاطون فكرة الحكاية الخالصة انتصاراً للمماهاة، وعلى هذا الأساس جاءت فصول الرواية المجزأة إلى اثني عشر سفراً، أو مئة لوحة بانورامية أشبه من تكون بالنتف الحكائية المتجاورة، لتشكل سيرة مختلقة أرادها محمد حسن علوان شكلاً من أشكال الترحال المكاني، الذي يلقي بظلاله على ترحال روحي وفكري وعاطفي، تأكيداً لمقولته في فتوحاته المكية «فما كانت رحلتي إلا فيّ ودلالتي إلا عليّ»، وربما لهذا السبب بدا إيقاع الرواية على درجة من السرعة، حيث كانت النقلات بين المشاهد خاطفة، بل خشنة، وكأن المشهد ينغلق، أو ينبتر بمعنى أدق، على لقطة ليست مفتوحة على الاحتمالي بالمعنى الفني، بل غير مستوية، ولا مستوفية لشروط التشويق، وفتح أفق التوقع والترقُّب على المشهد التالي.
وعلى العكس من تلك الحدّة في منتجة القفلات، تُستهل بعض المشاهد بعبارات كثيفة الدلالات، فهي منحوتة بصبر وتأمل، بل منقوعة في طراوة شعرية تجعل من اللغة مكوّناً بنيوياً للنص، لا مجرد أداة توصيل، خصوصاً تلك المتعلقة بالتحقيب الزمني، حيث كان لزاماً على محمد حسن علوان ضغط المراحل في عبارات قصيرة، للإلمام بسيرة ابن عربي الطويلة الخصبة، اعتماداً على المنحى اللساني الذي يجعل من الحكاية توسيعاً للجُملة، إذ يصف انتقاله إلى حياة الزوجية والمهنية – مثلاً- بقوله «انطوت أربع سنوات حدث لي فيها ما لم يخطر ببال، صرت كاتباً عند الخليفة وزوجاً لمريم بنت عبدون»، أو عندما أطّر مرحلة منتصف العمر بعبارة لها وقع الحاضر أو ما يُعرف بفن الحدوث «دبّت الأربعون في عروقي مِثل قافلة طويلة أولها في مرسيّه وآخرها في أفق غامض لا أعرف منتهاه»، وحين استشعر وطأة خريف عمره بعبارة صاعقة مقدودة من مهجع الحواس، «نزلت السبعون على كاهلي ثقيلة ولها مخالب» وكذلك في مفاصل التعبير عن قدر الترحال، حيث يصف إحساسه بعبارة مثقلة بالدلالات والشاعرية «طيلة الصباح وأنا أيمّم وجهي جهة الشمال لأشم رائحة طريقي»، حيث تترقق العبارات وتنغمس في المعنى كلما داهمته فكرة الرحيل، «تتلقفني الطريق بعد الطريق، يصعد بي التل ويهبط بي الوادي».
ولأنه أراد أن يكتب من داخل لحظة ابن عربي لا عنها، بدا مهجوساً بضبط الحوادث وشدهها على حواف التاريخ والجغرافيا، على اعتبار أن الحكاية التي أرادها كمعادل لخطابه السردي، إنما تنهض كانبعاث مدروس للماضي، ولذلك استجمع قاموس تلك اللحظة ليسرد روايته بمفرداته وتعبيراته، حيث يبدو من الواضح اعتناؤه بالملبوسات والمأكولات والفضاءات المكانية والأدوات الاستعمالية، إلى جانب دراسته المتأنية لشكل التخاطب، بمعنى أنه أعاد تشييد تلك اللحظة من منظوره كروائي ليؤسس عالماً روائياً بشخوصه وحراكه ولغته، وهذا هو ما يفسر البناء اللغوي الإخباري، والإيقاع الخاطف في سرد الوقائع، حيث انصهرت سيرة ابن عربي كبطل ثقافي وفرد وثيق الصلة بواقعه الاجتماعي، داخل حكاية أفقية بلا مفاجآت ولا تعرجات، فعندما يصف فقدان أحد أحبة ابن عربي، تتنازل اللغة عن دفئها وشاعريتها وتلبس لبوس الوعاء التوصيلي الأدائي، «دفنت الحصّار أنا وبدر والحريري وعمّال في المقبرة، وعدنا نجرّ أقدامنا في ذهول ووقع المصاب واضح في وجوهنا».
وهذا هو ما يفسر أيضاً غياب التوتر الدرامي في أغلب مفاصل الرواية، سواء في لحظات الالتقاء بالمرأة أو وداعها، وكذلك في الاختلاف مع المجتمع، وأيضاً في عدم الانسجام مع رؤية السلطان، أو حتى التجابه الفكري مع مجايليه، فهو بطل مستسلم لإرادة محمد حسن علوان، الذي دحرجه بهدوء على خط أفقي، من دون أي رغبة في إحداث أي انقسام اجتماعي به أو عليه، فهو البطل الذي يرفض أن تُختصر فيه الهوية الاجتماعية، ويفضل الاعتكاف في صومعته ليؤلف الكتب عوضاً عن التصادم مع الآخرين، أو هكذا تختزل الرواية مأزقه الذاتي «بلا كتابة أستحثُّها ولا دروس تستحثني صارت الأيام خاوية مثل قرب جافة»، حيث يمكن التقاط حالة التخفّف من البطولة والنأي بالنفس التي أرادها محمد حسن علوان عنواناً وقدراً لبطله، من خلال عبارات كقوله «وكنت أظن أني لما خرجت من حلب متعالياً عن الخوض مع سفهاء الأحلام أني خلفتهم ورائي فإذا بهم في انتظاري «.
لم يدخل محمد حسن علوان عالم ابن رشد كنصٍ من النصوص التراثية الكبرى ليناقده، ولا ليجدد التماس معه كرمز صوفي، ولا ليتموضع كوسيط ليشرح للقارئ ما استغلق فهمه، إنما قاربه ليستوعبه كموروث ثقافي وعرضه في مرايا الرواية، ليتأمل الجانب اللامنظور من حياته، بمعنى تحويله إلى شخصية روائية جاذبة، وبهذا المنحى لفردنته بدت شخصيته منسجمة مع بناء النص، فهو شخصية غير مرهوبة، ولا تتمتع بتلك الكثافة السيكولوجية، وإن كان محل اهتمام مجمل شخصيات الرواية، بالنظر إلى رصيده الديني بالمعنى الأخلاقي، ومن دون الرهان على مزاياه المظهرية، حتى حياته العاطفية لم تكن سوى عبورات سريعة، ضمن حبكات صغيرة تنعقد كلها في سيرة أفقية لكائن أُريد له الانعتاق من هالته الصريحة والضمنية.
اللغة لعبة محمد حسن علوان، وهي عتاد ابن عربي في وعيه الفردي للوجود، وهنا كان لزاماً عليه أن يقدم شخصية تتحدد منزلتها الروائية بناء على ما تؤديه من وظائف داخل المتن الروائي، وليس بمقتضى العبارات الطافحة بالوجد الإلهي، التي يزدحم بها خطاب ابن عربي، ولذلك بدت مهمته على درجة من الوضوح، في محاولة تفريغ شخصيته من طابعها الصوفي وصولاً إلى فردنته، أي التعامل معه كشخصية تختبر وجودها الواقعي والمتخيل من خلال التقائها ببقية الشخصيات، لأن الشخصية المنعزلة بالمنظور النقدي لا مكان لها في الرواية، وهذا هو ما جعل شخصية ابن عربي تنسجم مع متطلبات اللعبة الروائية، كما صممها داخل حكاية هي بمثابة إنتاج لغوي، إلى الحد الذي جعله يحاكي لغة وخطاب وعرفانية بطله، بزخات كلامية من عندياته، تتوحد فيها ذاته كروائى بالوجود الأنطوقي لابن عربي «شعرت بأن في قلبي أشيب يحتضر وطفلاً يولد».