arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة جيرون الإلكترونية

“موت صغير” سيرة إمام الحب الأكبر

مصطفى عباس

كاتب سوري

كلما ازداد سُعار التطرف ودعوات الكراهية، ازدادت أهمية من كانوا دعاة حب وتسامح في تاريخنا، ولا أعتقد أن رواية (موت صغير) للسعودي محمد حسن علوان التي فازت بجائزة بوكر للرواية العربية -مؤخرًا- تحيد عن هذه الفكرة السامية. فالرواية أعادت على الورق -على أقل تقدير- تمثيلَ سيرة إمام العارفين محي الدين ابن عربي، ونزعت عنه هالات العرفان النورانية التي تلفه في لاشعورنا؛ لتقدمه إنسانًا ككل البشر، يفرح ويحزن، يمرض ويصح، يتزوج ويطلق، يحب، ولكن لا يكره. أوليس الحب دينه ومذهبه، كما قال في أبياته الشهيرة.

من أذربيجان، عام 1212، تبدأ الرواية، عندما بدأ ابن عربي كتابة سيرته الذاتية في تلك الأصقاع النائية؛ حيث كان يمارس طقوس الخلوة مع الذات الإلهية، ثم تنطلق إلى ولادته في مدينة مرسية الأندلسية، وكرهه لعمل أبيه في السياسة الذي كان كاتبًا في بلاد محمد بن مردنيش الذي كان يتحالف مع الفرنجة ضد دولة الموحدين. الشخص الأهم في حياة ابن العربي، هو مرضعته فاطمة بنت المثنى التي كان لها الأثر في جذبه إلى الوله الإلهي، مخبرة إياه أنه سيكون قطبًا، والقطب هو واحد في كل زمان، وهو شيخ الأولياء الذي يحمي الدنيا، حسب المعتقدات الصوفية، ولكي يصل إلى تلك المرتبة العليا في سلم المتصوفة، ينبغي أن يصل إلى أوتاده، والأوتاد هم أربعة يحفظون الأرض من السوء، وهو لا يجدهم، بل هم يجدونه، إذا طهر قلبه “طهّر هذا.. ثم اتبعه، وعندئذ يجدك وتدك”.

هي إذن رحلة البحث عن “الأوتاد”، وتبدأ من الأندلس إلى المغرب والجزائر ومصر ومكة وبغداد وحلب، فقونية وغيرها من المدن التركية، لينتهي به المطاف على سفح قاسيون، في دمشق؛ في سرد روائي سيري يرويه ابن عربي، بلسانه وبضمير المتكلم. وفي مسار آخر متوازٍ في الرواية، تسير رحلة المخطوط منذ القرن الثامن عشر ميلادي، وحتى يومنا هذا، حيث مر المخطوط من حماة، واضطرت صاحبته لوضع الصليب في بيتها حتى تنجو ومخطوطها الفريد، من همجية ووحشية قوات النظام التي داهمت حماة في الثمانينات، وصولًا إلى عام 2012، حين بِيعَ المخطوط.

على مهل، تبحر الرواية في تاريخ ابن عربي، والوضع الجيوسياسي في زمانه، مع الشخوص الذي مروا في حياة إمام العارفين، من دون الغوص -عميقًا- في مصطلحات الصوفية الغامضة، سوى ما كان ضرورة للسرد الحكائي؛ إذ حوت الرواية التي صدرت عام 2016 عن دار الساقي، اثني عشر جزءًا، أسماها الكاتب “سفر”، وفي كل سفر عدةُ فصول، وفي رأس كل فصل مقولةٌ لصاحب الفتوح المكية “المكان إذا لم يؤنث لا يُعوّل عليه”.

نستطيع أن نتلمس في حياة ابن العربي التي تضمنتها الرواية، الكثيرَ من قيم الحداثة، كإعلاء شان المرأة “إن المكان بلا مكانة لا تكفي… لا بد من تأنيث المكان حتى تكتمل مكانته”. فعّرابته في بحر العلوم اللدنّية فاطمة بنت المثنى، وهي أنثى–كما قلنا- وإحدى أوتاده الأربعة هي النظام بنت شيخه زاهر الأصفهاني، وهي التي أحبها، وكتب فيها ديوانه ترجمان الأشواق.

نستطيع أن نلمس -كذلك- إعلاءَه لقيمة الحرية، من خلال وصفه دمشقَ التي كان فيها -خلال العهد الأيوبي- مدارسُ لكل المذاهب، وفسحةٌ في اختلاف الرأي وتنوع في مشارب الناس.

العلاقة الشائكة بين أصحاب النقل (الفقهاء) وأتباع القلب (المتصوفة) هي التي أوصلت ابن عربي إلى السجن، في مصر. فخلال العصر المملوكي بنَت الدولة التكايا (الخانقاه) للمتصوفة، كي يتفرغوا للعبادة؛ وهو ما نتج عنه زيادة الناس المتواكلين، إلا أن سيرة ابن عربي تدحض هذه التهمة، حيث إنه قضى آخر عمره يعمل أجيرًا في أحد بساتين دمشق، كي يكسب بضع دريهمات، يقيم بهم أوده وأود أبنائه.

على الرغم من أهمية الموضوع الذي تناوله الكتاب وحساسيته، إلا أن الرواية -برأيي- لم تكن بأهمية (سمرقند) لأمين معلوف التي تناولت حياة عمر الخيام، ولا بسلاسة قواعد العشق الأربعين لـ (إليف شافاق) التي تكلمت عن سيرة جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، الذي كان الوتد الرابع لابن عربي. فالرواية بصفحاتها التي قاربت ستمئة، تتضمن بعض الحشو الذي يمكن الاستغناء عنه، كما تفتقر لعنصر الإثارة التي تجعل القارئ مشدودًا بكليته لمعرفة المزيد، وكما قال أحدهم “الرواية الناجحة هي الرواية التي تجعل قارئها لا ينام حتى ينهيها”. أعتقد ان مراحل انتقال المخطوط تم إقحامه إقحامًا في الرواية، إذ ليس هناك ترابط كبير بينه وبين أحداث الرواية، ولو حُذف هذا النص الموازي الذي جاء باللون الغامق، لما أثر ذلك شيئًا في الرواية.

الكاتب الشاب الذي له خمس روايات، وولد في العاصمة السعودية الرياض، عام 79 من القرن الماضي، يمتلك تقنيات الكتابة السردية بطريقة مذهلة، ولكنه يبحر بعيدًا في أرجائها حتى يضيع القارئ وتهرب الفكرة، ونستطيع أن نتلمس ذلك في أكثر من رواية للكاتب، كروايتَي (القندس) و(سقف الكفاية). في هاتين الروايتين، إضافة إلى موت صغير، بطل الرواية هو الراوي، ما يعني أن الكاتب لا ينوع في طرق السرد.

هذه المرة الأولى التي يتم فيها تناول شخصية تاريخية عرفانية باللغة العربية مباشرة، من دون الحاجة إلى ترجمة، كما في (قواعد العشق الأربعون) و(سمرقند)، ولكن السؤال: هل استطاعت هذه الرواية تقديم حياة ابن عربي، للقارئين بلسان الضاد؟ من المبكر الحكم، وتبقى الأيام هي القاضي.