arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

مجلة نبض الجامعة

“موت صغير” رواية تتنفَّس عبقًا وتحدِّيًّا

ابراهيم الصافي

كاتب سوداني

من أغرب الروايات وأكثرها اندهاشًا، بِنْية الرواية اعتمدت على استدعاء حقبة من التاريخ الإسلامي ـ مغربه ومشرقه ـ ونسجت نفسها حوله، حبكة متفرِّدة استحضر فيها الروائي محمد حسن علوان شخصية محي الدين بن عربي جسدًا وروحًا منذ إطلالته على الدنيا في الأندلس منتصف القرن السادس الهجري حتى منيته بدمشق، وأجبرنا على التهام حروفه مؤرِّخًا لطفولته وصباه وشبابه وكهولته وشيخوخته، وظل يصحبنا عبر هذا التاريخ بأسلوب شائق وممتع، لنستمع إلى ابن عربي حاكيًا وواصفًا وعاشقًا ودارسًا ومُعلِّمًا وكأنما نغزه في مرقده ليحيا ويكتب مسيرة حياته العابقة بالتصوف والعلم والأسفار.. ما كنت أحسب ـ وأنفاسي تلهث في متابعة القراءة ـ أني أقرأ رواية؛ وإنما أقاسم ابن عربي طفولته ونزوعه المبكر إلى التصوف في طفولته وبدايات حياته بمدن الأندلس حيث أرضعه أبوه العلوم والمعارف، وغذاه بالفكر الصوفي وما يتولَّد عنه من كشوفات وفتوحات إلهية كما يعتقدون، ثم تتبعت صباه وبدايات أفول الدويلات الإسلامية، والهجرة إلى مراكش بالمغرب، ثم إلى الإسكندرية والقاهرة في الطريق إلى دمشق وبغداد والأناضول، وتعرَّفتُ على عشقه الدنيوي والإلهي، وتلمستُ أفكاره التي يرى فيها أن الحياة في سبيل الله أشق وأصعب من الموت في سبيله، ورؤيته في الفرق بين الفقيه والفيلسوف والصوفي، فالفقيه عنده يقرأ ثم يقول بما فهمه من مقروئه، والفيلسوف يفكر فيقول بما استنتجه من استدلاله، أما الصوفي فيخلو إلى ربه فيقول بما كشفه الله له.

وبقلم محمد حسن علوان نقف على قناعات تجاوزت عند ابن عربي حدَّ اليقين بأنه وليٌّ مجتبى قد بلغ في الطريق مقامًا عليًّا، وأنه خلا  بالله، فعرف أنه الرفيق وإليه الطريق.. فكيف توصل الراوي إلى تفاصيل حياة وقناعات واعتقادات ابن عربي من خلال عمل روائي متخيَّل، لاسيما وأن التاريخ ما هو إلا معلومات مجردة وموثقة تتنافى مع جنوح الخيال وجموحه في الأعمال الروائية، وبالتالي لا يحتمل نقلها تحريفًا أو تحويرًا أو تزييفًا، لاشك أنه درس كثيرًا وبحث ونقب وسافر وزار واستمع حتى تكونت لديه حصيلة معلومات ترقى إلى مستوى الصدقية، فجاءت روايته “موت صغير” وكأنها على لسان المحكي عنه عبر حقبة زمانية امتدت لسبعة عقود تقريبًا كانت ناضحة بوصف لطيف لما يزعمه ابن عربي لنفسه من ولاية صوفية، وما يدَّعيه من إشراقات وتجلِّيات وفيوضات روحانية وتأملات كونية، ووصف لنا أيضًا نشاطه وحركته كمهر جامح، وصوَّر نفسيته الموارة بالحب والنزوع إلى الصفاء، وروحه المتوثبة والمحلِّقة كطائر سابح يحط من فنن إلى آخر، ومن شجرة إلى دوحة، ومن حديقة إلى بستان بحثًا عن طهارة القلب

وتتداخل في الرواية أزمنة قديمة وحديثة، وتجري وقائعها ـ وكأنها انزلاق إلى الحاضر ـ لتكشف انسياب ابن عربي عبر قرون متجسدًا في وقوع أحداث عصرية متشابهة، ويطل أيضًا من خلال كتبه ومخطوطاته التي ينشدها الباحثون لاستكمال مشروعات بحثية تؤهلهم لنيل إجازات علمية، وقد سكب الروائي عذوبة، وضخَّ جمالاً في شرايين سيرة شخصية حارت فيها العقول وتجادلت حولها الرؤى والأفكار، لكنه شدَّنا إلى متابعتها شدًّا عنيفًا لا يمكن الإفلات من خطامه حتى نهاية صفحات الرواية، وبدا لي من دقة التصوير وجمال الأسلوب في وصف عشق ابن عربي  للمرأة وعشقة للذات الإلهية أن الروائي علوان كابد العشقين معًا.

وقد عنَّ لي، أن الروائي علوان تمكَّن بخياله الوافر، وبقراءاته النَّهمة من تقمص الشخصية محور الرواية، وكأنه هو، لقد استطاع بالفعل أن يتجلَّى في السَّرد، وأن يستدعي بلطف وسلاسة لغة مسرح الرواية، ويستحضر بمهارة فائقة بيئة أحداثها لكيلا تنفصم عن تاريخها، ولا تغفل صراعاتها السياسية ومناخاتها العلمية، وتبايناتها المذهبية.. وخلاصة القول إنها رواية تستحق أكثر من جائزة.