arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

مجلة أوكسجين

“موت صغير” ..ابن عربي ورحلة اغترابه عن الرحم

زياد عبدالله

كاتب سوري

يحق للشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محي الدين بن عربي أن يواصل سرد حياته في رواية محمد حسن علوان “موت صغير” إلى أن يصل مماته ويخبرنا هو ولا أحد إلاه بما يسمع ويشهد وقد انتهت حياته، “ما أسهل حياة البرازخ. أن تتأمل الحياة وأنت مجرد من الإرادة. لا تفعل. ولا تنفعل. يحملك رجل وامرأة إلى بيت غريب. يجسانك ويحوقلان ثم يحجبان عنك العالم بعباءتك. تحملك المحفّة إلى بيت مألوف. أسمع أصواتهم وأشم روائحهم. وإذا تحرك جفناي المسدلان لمحت وجوههم الباكية. صفية تبكي ترمّلها للمرة الثانية..” يحق لابن عربي – أكرر- فهو لا يفنى أو كما يقول لنا السطر الذي يتصدر الفصل الأخير من الرواية “كل بقاء يكون بعده فناء لا يعوّل عليه”.

إنها رواية تدور بين برزخين، بين ولادة وموت، وابن عربي يقول “كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها في الولادة” بينما نقرأه راوياً في رواية علوان “أعطاني الله برزخين: برزخ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني. رأيت أبي يضحك مستبشراً ببكره الذكر وزوجتي تبكي مفجوعة في زوجها المسنّ. رأيت فتيل دولة المرابطين يطفئه الموحدون في مرسيّة قبل ولادتي، ورأيت التتار يدكّون بغداد دكاً دكاً بعد مماتي. رأيت الأولياء يستبشرون بمولد سلطان العارفين والفقهاء يكبّرون لهلاك إمام المتزندقين. رأيت كل هذا بكشف الله الأعمّ ونوره الأسنى في سنوات قليلة بين برزخين. فانكشفت لي سرعة عبوري وضرورة فنائي في هذا العمر الذي ليس سوى سطر في رسالته الإلهية، لمعة شهاب في سمائه العلوية، أثر خفٍّ في أرضه الواسعة”.

بين هذين البرزخين يعيش ابن عربي ميتاته الصغيرة هو القائل “الحب موت صغير” وعنوان الرواية لا يورد “الحب” ليدع للقارئ استكشاف هذا الموت الصغير الذي يحدثه الحب، جسداً وروحاً، حب إلهي لا ينفصل عن ذاك الذي يوصف بالدنيوي، فهو شيخ الحب كل الحب “إلهي ما أحببتك وحدي، لكن أحببتك وحدك”.

من حسن حظ القارئ العربي أن روائيا مثل علوان قد صيّر ابن عربي شخصية روائية، وتجرأ أن يقدّم روايته، فاللغة العربية التي تتعرض لما تتعرض له من ركاكات تهب من جهة الروايات المنشورة هنا وهناك، طيعة لديه، لئلا أقول ساحرة، يأخذ علوان بتلابيبها ويطوعها سرداً يمكن تلمّس قوته مع “القندس” و”طوق الطهارة” وغيرها من رواياته السابقة التي تجتمع على أنه سليل الجاحظ وابن المقفع وآخرين من ناثري اللغة العربية الكبار، ولتكون لغته في “موت صغير” متداخلة بنثر ابن عربي، تشّف وتتدفق في سياق سرد أفقي يبدأ من الولادة إلى الممات – كما أسلفت – وبصيغة المتكلم (ابن عربي يروي لنا حياته) ولا يتعامد معها إلا تتبع “المخطوط” في أسفار الرواية الاثني عشر، وكل سفر منها ينتهي بأخبار المخطوط الذي يتحرك في الزمان والمكان إلى أن يصل حماة الثمانينيات في سورية، ومن ثم سورية اللجوء والدمار والمخطوط محمولاً إلى بيروت من قبل لاجئ سوري.

تنبني الرواية في هذا السياق مبتعدة عن التهويمات والمبالغات والتي يمكن لها أن تكون محط غواية ونحن نتكلم عن رمز صوفي، إذ لا ينفصل السرد عن التاريخي، وتلك القلاقل والفتن والحروب لا تفارق حياة الشيخ الأكبر منذ الولادة في مرسية (الأندلس) التي سرعان ما تصبح محاصرة وصولاً إلى دمشق الأيوبية، وحياة ابن عربي تمضي جنباً إلى جنب مع الخلفاء والحكّام والملوك، في بحثه عن أوتاده الأربعة في أشبيلية وفاس ومكة والقاهرة وبغداد ودمشق.

لا يُقدّم ابن عربي في “موت صغير” في سياق مؤسطر، فأنسنته أجمل أسطورة، فهو شخصية روائية تتطور في سياق السرد، لنا أن نعرف مصادره وعلومه، لا أن نقع عليه عليماً، وما يكشفه له الله يأتي في سياق يتطور فيه، له أن يبدأه بالخمر، مؤكداً مجدداً أن “الحب” الكلمة المفتاحية في الرواية، ولقصة حبه لنظام في مكة أن تكون ذروة حبه الأرضي والسماوي و”ترجمان الأشواق” شاهد عليه.

يمكن القول إن علوان ينجح تماماً في أخذ القارئ إلى حياة ابن عربي وفترته التاريخية من دون انغماس في آرائه وأفكاره ما لم تأت في سياق السرد والأحداث، وما تعرض له من اتهامات من قبل الفقهاء بوصفه “ولياً وزنديقاً”، وإن كان هذا انتصاراً للروائي في الرواية إن صح الوصف، فإنه يشكل في الوقت نفسه نأيا عن الاشكالي في فكر ابن عربي الذي نتعرف عليه من دون الغوص فيه أو ايراد ما اعتبر زندقة أو تجديفاً لديه، مع ذلك فنحن حيال رواية ضرورية والحاجة إليها ماسة ليس لقيمتها الأدبية فقط، بل لضرورة نشر هكذا مقاربة للدين الإسلامي وتعميمها، حتى وإن كانت لا تظهر شطحات شيخنا الأكبر المشحونة بنزعة تمردية في لبوس صوفية.