arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

موقع الحرة بريس

“موتٌ صغير” في ظل موت أشمل

مصطفى لمودن

كاتب مغربي

“موت صغير” عنوان الرواية التي فازت بجائزة “البوكر” في صيغتها العربية لسنة 2017. وهي للروائي السعودي محمـد حسن علوان، وكأي رواية “متوجة” تجعل القارئ يلهث باحثاً عنها لاستطلاع المغزى والتأكد من الاستحقاق.. وهذا ما وقع بالنسبة لي على الأقل، وبحكم عدم توزيع الرواية ـ على حد علمي ـ في المغرب، قرأت في جريدة أنها “متاحة” بالمجان على الانترنيت!!

قضيت أياما في قراءتها وهي الطويلة جدا، حيث تكاد تصل إلى 600 صفحة.. فهل تستحق هذه الرواية “أرفع” جائزة للأدب العربي؟ عما تتحدث وما خلفياتها؟

يصعب إصدار محاكمة “إيديولجية” على الرواية وعلى أي عمل فني، ولكنها (الرواية) لا تخلو من “إيديولجية” مادامت أصلا وجهة نظر، ثم لا يحق إغفال دور “الجوائز” في الإعلاء من بعض الأعمال الأدبية دون أخرى.. ورغم “مبررات” لجنة التحكيم، فإن الدوافع الحقيقية للرفع من رواية دون أخرى يبقى في حكم المختفي..

لا جدال في أن أي رواية تُنشر فهي عمل فني يجب أن يُحتفى بها من حيث المبدأ، ثم يأتي في ما بعد النقد والتحليل. ولعل رواية “موت صغير”، عمل أدبي كبير، تطلب جهدا ضخما لكتابته بتلك الطريقة السردية والاستعراضية من حيث عرض التاريخ والتصوف والجغرافيا والمتون والنفسي والاجتماعي واللغوي.. أمر بالغ التعقيد والضخامة..

لكن، هل فعلا يتطلب الموضوع كل ذلك الجهد؟
أن يكتب محمد حسن علوان روايته على لسان محيي الدين بن عربي فالأمر ليس بأي سهولة، منذ ولادته بمرسية إلى وفاته بالشرق (دمشق) مرورا بكل رحلاته انطلاقا من الأندلس مرورا بالمغرب والحجاز والشام ووسط أسيا..
فهل يمكن اعتبار الرواية توثيقاً لأحداث واقعية؟
غطت أحداث الرواية وقائع حرجة عرفها العالم الإسلامي من ضعف الدول وتقاتلها على السلطة وغرقها في مستنقع الانتظارية.. ابن عربي شهد بداية انهيار العالم الاسلامي وظهور البوادر الأولى للخروج من الأندلس، كما عايش لحظة عزل الفكر متمثلا في محنة ابن رشد ونفيه من قبل سلطان موحدي وتعرضه للإهانة والمهانة..
يحتاج الأمر إلى رأي المؤرخين وتمحيصهم في الأحداث التي جرت على لسان ابن عربي المتصوف، ويبدو أن الكاتب قد اعتمد مراجع تاريخية كثيرة، لكنه لم يثبتها، ورجّح فكرة النص السردي التخييلي على تسجيل وقائع..
لكن كل قارئ لهذه الرواية ذات الشيفرتين، سيحتاج لموجّه كي يفكك الرواية..
هل أراد الكاتب من خلال روايته الإعلاء من شأن التصوف وكل تلك المظاهر التي رافقته مثل الهروب من مواجهة الأحداث، الإيمان المفرط وحتى العبثي بالكرامات والمعجزات التي سنورد أمثلة عنها لاحقا؟
أم أن الكاتب تمثّل دهاءً إيجابيا وأراد تبليغنا رسالة مفادها، أن زمن الانحطاط ممتد في الماضي وله جذور بعيدة؟
يصعب التفريق بين وجهتي نظر مختلفتين تجاه الرواية، فكلٌّ مما لديه من المتوفر النظري والمعرفي والوجداني الذي ينطلق منه. ولعل عناء تفكيك الرواية يتطلب جهدا مضاعفا يجب أن يتكلف به نقاد حقيقيون، فأي التباس غير مفيد..

ابن عربي يمثل إنسان العصور الوسطى الهارب من واقعه، واقع قاس تتخلله المظالم وتغيّر أحوال السلطة وملوكها من شخص لآخر، لكل ميزاجه وقرارته، وهنا تحضر محاكمة السلطة، لكن من خلال التاريخ. ولعل أول هروب عاشه ابن عربي حدثَ في صغره، وقد أثّر عليه كثيرا، عندما هرب مع مَن هربوا من مرسية إلى اشبيلية بعدما ضعفت الدولة وبدأت تتلقى الهجمات من المسيحيين.. وهكذا عاش في الحقيقة ابن عربي هارباً من مكان إلى آخر، ومن أجواء واقعية إلى أخرى روحية، اعتقد أنها بالنسبة إليه تمثل الملاذ..

اهتم ابن عربي بالتصوف وما يعنيه مِن وجدان وأسرار وعواطف وكشف للمستور والمتخبئ كما يعتقد، وكان ضد الفلسفة والعقل، وضد الفقهاء والنقل والظاهر من النص.. ركز على الاستبطان والمختفي رغم اطلاعه على كل مصنفات عصره، لكن ولعه بالمتعالي الصوفي جعله “يهرب” من الدنيا والسياسة والواقع، رغم بعض اللحظات التي جالس فيها الحكام ونال عطياهم وأبدى إليهم المشورة، والتي كانت عادية في بعض الأحيان، وتصل إلى حد الوشاية كما وقع مع ابن رشد، أو تتحمل نقدا واضحا كما وقع مع بعض السلاطين بالمشرق..

وعاش أحيانا في رفاه، لكن قضى معظم حياته زاهدا يكتفي بالكفاف.. يحظى بالتوقير والاحترام حينا، وبالصد والاستهزاء والإزدراء حينا آخر..

ظل ابن عربي مسكونا ب”وتده”، حيث يلزمه الالتقاء بأربعة أوتاد (بشرية) في بقاع الأرض حتى تكتمل صفاته الصوفية، وينال “الحظوة”، وهكذا بدأ يتنقل من مكان إلى آخر كالمعتوه.. إلى أن صادف في ظروف غريبة “أوتاده”، وكانت إحداهم امرأة، وهؤلاء هم من “يبشرونه” بأنهم أوتاده، ومنهم من يرسله إلى أرض بعيدة حتى يجد “الوتد” الموالي..

كلما حل طارئ، يظل ابن عربي ينتظر ما سيجود به عليه خاطره من “رؤيا”، وعلى ذلك يتخذ المواقف ويبني القرارات، وأحيانا يقوم بحركات دوران على الأرض حتى “يدوخ” متأملا رؤيا تفتح له المكنون والمستور!.. والطامة الكبرى هي أن يتبع مع رفاقه بغلة حيتما تريد التوجه، معتقدا أن ذلك كشفا لا يأتيه الباطل. ويوحي الكاتب بصدق ذلك عندما يجد ابن عربي بالصدفة “شيخا” منزويا في كهف يتعبَّد، وكان ذلك “وتدا” من أوتاده!.. الغريب هو أن يقوم شخص من الموت ويأتي إلى سلطان مصر وقاضيها ويتشفع له منهما لإطلاق سراح ابن عربي المسجون في ظروف سيئة، ولمّا يخرج ابن عربي مع هذا العائد من عالم الأموات، يلاحظ أن قدميه غير موضوعتين على الأرض! أي أنه ليس من فصيلة البشر الأحياء..

تدعو الرواية للتصالح مع مختلف أشكال الإذلال البشري، من ذلك الركون لحكام كيفما كانوا وكيفما كانت الطريقة التي يصلون بها إلى السلطة، سوى الدعوة لمحاربة “الكفار” كما قال ابن عربي لأحد الأمراء. أخطر ما في الرواية النظر إلى العبودية والنخاسة كمعطى طبيعي، حيث يباع الناس في الأسواق، وأحيانا تتم مبادلتهم بالدواب كما فعل ابن عربي نفسه حينما أراد التنقل من المغرب إلى بجاية ومكة.. أما علاقة المريدين بالمتصوفة فحديث يطول، حيث يهِبُ المريد حياته وشخصه للشيخ بدون نقاش. ويمكن أن يتحول ذلك إلى “علاقة جنسية” كما أشار ابن عربي نفسه للأمر وهو يحذر أحد مريديه من شيخ آخر !!

تزوج ابن عربي ثلاث مرات في حياته حسب الرواية، المرة الأولى في الأندلس من فتاة مثقفة أصلها من بجاية، والثانية تزوجها ثم أرجعها لزوجها الجندي الذي ظهر بعدما كان أسيرا، والثالثة زوجة صديق له كان قد أوصاها زوجها قبل وفاته بقبول ابن عربي زوجا لها.. لكن ظروف حياة ابن عربي وتنقله وتغير ميزاجه بين الفنية والأخرى أثر سلبا على الاستقرار العاطفي لزوجاته حسب الرواية..
لاحظت في الرواية خطأ غير مبرر، وذلك عندما تحدث ابن عربي عن وفاة ابنته زينب وكيف دفنها بيديه في القبر، بينما ورد في ما سبق من الرواية أنها توفيت بمصر ودفنت بها أثناء رحلة زوجته مع أحد عبيده وهي قادمة عنده من بجاية إلى مكة حيث كان يُقيم !

فهل مراد الكاتب ومانحي جائزة “البوكر” من خلال هذه الرواية هو التطبيع مع سلوكيات لم يعد له وجود في زمننا سوى عند بعض الأنظمة العشائرية التي ترغب في إحياء سياسة إخضاع الناس؟
هل سعى الكاتب من وراء روايته إلى تنبيهنا لفداحة الأسس التي نقوم عليها؟ وهو أمر مستبعد من وجهة نظري..
هل الظروف التي يحيا فيها الكاتب لا تسمح له بالكتابة عن واقع مجتمعه؟ مما قد يؤلب عليه عدة جهات.. وهو ما جعله يهرب بدوره كابن عربي إلى موضوع تراثي لا يثير أي ضجة حسب ظن البعض؟
ورغم ذلك تبقى رواية “موت صغير” عمل أدبي ضخم، تطلب جهدا في البحث والتدوين، واستعمال لغة تقلدية تتماشى مع روح الموضوع الصوفي الذي يستنجد بلغة خاصة مخاتلة بليغة جانحة نحو الغموض..
في الختام يجب لفت الانتباه إلى نصوص موازية للسرد الروائي وردت في المتن، تتمثل في أحداث تدور حول مصنفات ابن عربي، وهي عرضانية تمتد على طول الرواية والزمن الفعلي إلى الوقت الحالي، تنبت فجأة وسط الرواية، وكان لها دور مشوش..

فهل “موت صغير” يعني أن وفاة ابن عربي بتلك الطريقة التي حدثت له، ليس (الموت) سوى حدث صغير في ظل حدث كبير يمكن تسميته ب”الموت الكبير” الذي انطلق منذ قرون وما زال مستمرا..