arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

جريدة الجمهورية اللبنانية

«موتٌ صغير» في حياة ابن عربي… حبٌّ كبير

راكيل عتيِّق

كاتبة لبنانية

«موتٌ صغير» للكاتب السعودي محمد حسن علوان، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية بوكر 2017، هي رحلة ما بين ولادة وموت محيي الدين ابن عربي أحد أشهر المتصوّفين، الذي وُلد في مرسية في الأندلس عام 1164 م وتوفّي في دمشق عام 1240 م.

 

حياةٌ كبيرة

في 591 صفحة يَرسم محمد حسن علوان خريطة مسار قلب «بحر الحقائق» ويُدخِلنا إلى عالمِه المُمتلئ حكمةً وحبّاً وفلسفةً وإيماناً. من عنوان الرواية إلى آخِر كلمة فيها يَرتكز الكاتب على حقائق حياة ابن عربي وأقواله، فيَلمس القارئ أنّ المُتخيَّل في الرواية صغير.

نُسافر مع صاحب «الفتوحات المكية» إلى أرباض الأندلس وأزقّة فاس وزوايا تونس وخوانق القاهرة وشعاب مكّة وحوانيت بغداد وغوطة دمشق وبحيرات قونيّة… فنتعرّف على أهمّ آراء ابن عربي الصوفية وفلسفته ومبادئه الروحية.

ويُدهِشنا حبّ صاحب مقولة «الحبّ موتٌ صغير» لالله، حبٌ لا يُشبه أيَّ حبّ، حبٌ فائض بنفسه ومن نفسه، هو الغاية والوسيلة، هو البداية والنهاية، وهو ما بينهما.

اليقين الثابت بوجود الله منذ الحياة الصغيرة في رحمِ الأمّ، قد يُميت بدوره قُدرتك على متابعة الرواية أو قد يستميلك هذا الإيمان الكبير بالله المُترجم حبّاً. «إلهي ما أحببتك وحدي لكن أحببتُك وحدك». عنوان حياة ابن عربي.

بعيداً من شكل الرواية وأسلوبها، يُعتبر المضمون إرشاداً إيمانياً تنويرياً، مُختَلفاً عن المُتوارث عن الدين الإسلامي، حين تعلَق في حياة ابن عربي وكأنّك بدورك تسعى لتطهير قلبك، وتبحث عن أوتادك. الرواية بحدّ ذاتها قد تكون وتداً.

«ثبّتَ الله قلبي بالأوتاد الأربعة»، سخّر محيي الدين حياته بحثاً عن أوتاده. القابلة فاطمة التي تعلّقَ بها وأحبَّها كوالدته، أرشدَته إلى الطريق الوحيد، «طهِّر قلبك».

ومن هم الأوتاد؟
أربعة يحفظون الأرض من السوء.

وكيف أعرفهم؟
هم يعرفونك.

وكيف أجدهم؟
هم يجدونك.

وهكذا بدأت رحلة الحبّ. نفرَ محيي الدين منذ صِغره من العمل في بلاط الملوك كأبيه، واختار حياةَ التصوّف وصحبَ الأولياء ما بين مرسيّة ودمشق. لا ندري كيف وصَل لنا كلام الله في القرن الحادي والعشرين مُشوّهاً وخارجاً عن الزمن وعن التطوّر الإنساني وعن لغة الروح والحبّ.

إبن عربي الذي عاش تحت حكم الموحّدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة… جاهدَ من أجل طهارة القلب فقط. «لن أجاهد تحت رايةٍ لا أؤمن بها»… «هل يَعلمون أنّ الحياة في سبيل الله أشقُّ وأصعبُ من الموت في سبيله؟»

طريق الطهارة

قضى ابنُ عربي لياليَ عديدةً عند «فريديريك» في أشبيلية حيث كانوا يقومون مُسلمين ومسيحيين بقراءة الكتب اليونانية والرومانية الفلسفية. عازفُ عودٍ وطبّال وراقصتان كانوا من أسسِ تلك الليالي، التي لم تكن تنقطع فيها أباريقُ النبيذ. إنتشى ابن عربي في ليلةٍ هو وصديقه «الحريري» وصارا يَرقصان… وحين حلَّ موعد الصلاة جهَّز صاحب الدار المسيحي مكانَ الصلاة لأصدقائه المسلمين.

وحصل هذا الحوار بين الحريري وابن عربي:

الحريري: أتصحُّ صلاتُنا ونحن سكارى؟

إبن عربي: أتعلم ما تقول؟

الحريري: نعم

إبن عربي: إذن تصحُّ صلاتك، فالآية تقول: «لا تقرَبوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون».

سُجِن ابن عربي الأندلسي في حلب بسبب تعاليمه. «وما بالك ورثتَ النبيَّ وحدك ولم يَرثه غيرُك من أمته؟ فلا قرشيٌّ أنت ولا من أهل البيت». وتدُه الثاني الأصلي أخرجَه من السجن، وأرسَله باتّجاه وتدِه الثالث إلى بغداد. وإلى الطريق الوحيد «طهِّرْ قلبَك… ثمّ اتبعْه».

صحيحٌ أنّ ابن عربي أحبَّ الله وحده، ولكنّ قوله أبعدُ من المعنى الحرفي، وبالنظر إلى حياته، نعلم أنّه بهذه الحكمة، قد قال إنّ مَن أحبَّ الله أحبَّ الناس جميعاً. حبُّه لفاطمة ومرافقية ومريديه وأصدقائه وأوتاده وزوجاته وأولاده وابن صديقه… الحبّ المُجسّد عطاءً واهتماماً وقلقاً وسهراً واعتناءً هو الترجمة لـ»إلهي ما أحببتك وحدي لكن أحببتك وحدك».

الحبّ

في مكّة وخلال حضوره الدرسَ عند فخرِ النساء أختِ الشيخ زاهر، التقى قلبه بنظام ابنة الشيخ. فكان «درس العقل والقلب، منارة البصر والبصيرة». الالتقاء المُباشر بينهما غير مسموح. الحبّ يُحرّر من القيود. التقت واندمجَت أرواح ونظرات وشفاه ابن عربي ونظام. حبٌ نتجَ عنه كتاب «ترجمان الأشواق».

أرادها زوجةً تنثر فلسفتَها وجمالها في بيته وقلبه وحضنِه. رفضَته. حين طلبَها من والدها، أجاب الأخير «لا نجد لنظام خيراً منكَ يا ولدي، ولكني لا ألزمها إلّا ما ترى لنفسها. فاصبِر حتى نبلغها ونسمع رأيَها». هُنا إشارة إلى نقطة أخرى ذات أهمّية، الوقوف عند رأي الفتاة بزواجها، وعدم فرضِ أيّ تدبيرٍ عليها.

بعد سنوات اكتشَف محيي الدين سببَ رفضِ نظام الزواجَ منه على عتبة بابٍ. «دائماً هناك بابٌ وعتبة في حبّنا».

بعد أسفارٍ كثيرة، استقرّ ابن عربي في دمشق لأنّها «مهبط عيسى عليه السلام يوم القيامة، وقد كانت توبتي عيسوية، فإنّي أرجو أن يكون مماتي بمهبطه».

يتخلّل رواية «موتٌ صغير»، الصادرة عن دار الساقي، وقفاتٌ تقطع حكاية محيي الدين، لتنقلنا إلى ما بعد زمن ابن عربي بسنين وقرون، حيث حكايات تضيء على أهمّية ما ترَكه «سيّد الحبّ وأستاذ الخيال في التصوّف الإسلامي» من كتابات.

لا شكّ في أن تعمُّقَ محمد حسن علوان في سيرة ابن عربي، أنتجَ هذه الرواية التي تُعَدّ مرجعاً عن محيي الدين ابن عربي، وجُهدُ محمد حسن علوان هذا وحده يستحقّ عنه جائزة. مُحيّرةٌ الرواية، لا تشدّك عند بداية قراءتها، ولكنّك حين تنتهي منها تشعر بحاجة للعودة إليها.