arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

موقع ساسة الإلكتروني

مـــوت صغـــيـــر

أحمد حلمي

مدوِّن وقاص مصري

يستمر مسلسل الرواية التاريخية في الكشف عن أسرار ومكنونات التراث العربي في رواية موت صغير، والتي على خلاف السائد في الروايات التاريخية الناجحة، والتي تجعل الصدارة للمهمشين، والانتصار للإنسان العادي على عكس كتب التاريخ التي تمجد الملوك والمحاربين. فموت صغير جعلت من علم أعلام التصوف وفكر التسامح «محي الدين ابن عربي» بطلاً للأحداث وحياته محورًا لها. فهو واحد من الكبار، الزاخرة بذكرهم كتب التاريخ. مما يعتبر مخالفة واضحة للعرف غير المكتوب بين كتاب وقراء الرواية التاريخية. إلا أن الرواية احتفظت بالقاعدة الأهم، وهي وضع الأحداث التاريخية الحقيقية في خلفية الحدث الأساس في الرواية، وإبراز تأثير هذه الأحداث على حياة الشخصية الرئيسية. كما أنها حافظت كذلك على فكرة الإسقاطات التاريخية ومد جسور تواصل بينها عبر خط السرد الثانوي المتمثل في سيرة المخطوط الذي يشمل خط السرد الأساسي المتمثل في سيرة ابن عربي. هذا الخط الثانوي يمتد من انتهاء الأحداث الأساسية للرواية في توازٍ مع الخط الأول، ليستمر في التحرك عبر التاريخ محملاً بتفاصيل وأحداث أخرى هي امتداد واستكمال للإسقاطات المذكورة في خط السرد الأساسي.

تتمثل حبكة الرواية الأساسية في رحلة «رحلات» بحث ابن عربي. بداية من بحثه عن الله وسعيه للوصول إلى مقام الولاية. وبعدها رحلة بحثه عن الأوتاد الأربعة والتي تشكل الحبكة الأكبر في النص. بينما في خط السرد الثانوي لا توجد حبكة واضحة، إنما هي امتداد للسيرة ولرحلة ابن عربي التي انتهى دوره الجسدي فيها واستمر فيها عن طريق ما تركه من فكر وتراث، متمثلاً في مجمل كتبه وأعماله وعلى رأسها المخطوط المتخيل الذي يروي فيه سيرته بنفسه من مولده حتى بعد وفاته.

ومع استخدام السارد المشارك كراوٍ أساسي لأحداث الخط السردي الأول، تم استخدام حيلة واحدة للتغطية على مشاكل هذا السارد. فكانت فكرة الكشف الإلهي حلاً مناسبًا ومتسقـًا مع منطق النص الذي يحكي عن علم من أعلام التصوف. فتم استخدام خدعة الكشف الإلهي من قبل المؤلف للتستر على السارد العليم، الذي يستخدمه متنكرًا في ثوب ولغة سارد مشارك. وإمعانًا في هذه الخدعة الموفقة قام بالاحتفاظ بكافة خصائص السارد المشارك في باقي الأحداث التي لم تتجل فيها الكشوف الإلهية للبطل.

وعلى سبيل اللغة فتتمثل فيها واحدة من أهم أركان الإبداع في الرواية وأكثرها إمتاعـًا. فعلى نطاق الألفاظ والمصطلحات ولغة الحوار كانت منضبطة ودقيقة للغاية بما يتناسب مع عالم النص وروحه والفترة الزمنية التي يرصدها. وقد تجلى مستوى الإبداع اللغوي في اختلاف مستوى اللغة في فصول خط السرد الثانوي، والذي كان يختلف باختلاف الزمان والمكان. ومن مستويات إبداع اللغة في الرواية كانت الشعرية المنضبطة في استرسال الوصف وكذلك في أفكار البطل والتعبير عن حالاته النفسية والمزاجية المختلفة.

تمتلئ الرواية بالعديد من الإسقاطات والإشارات الخفي منها والواضح، تلك التي تم التركيز عليها في أكثر من موضع، والأخرى التي تم المرور عليها بشكل باهت. ومن أبرز الأفكار التي تطرحها الرواية وتؤكد عليها في أكثر من موضع مساوئ الأصولية الدينية، وكل ما ينتج عليها من مشكلات. في إسقاط قوي وواضح على الحالة الحالية التي تمر بها المنطقة. وكذلك إبراز العلاقة بين هذه الأصولية والسلطة السياسية واستغلال كل منهما للآخر لتحقيق المكاسب والمصالح الخاصة. مما يعطي إشارة مباشرة متمثلة في فكرة الرواية عن التصوف أو التسامح بشكل عام كبديل عن التشدد، وإن تم تقديم هذا البديل وهذه الإشارة بشكل خفي وحالم ورومانسي الطابع.

شخصيات الرواية في الأغلب كان يتم تقديمها بشكل مباشر ورسم تفاصيلها الجسمانية قبل النفسية، مع بعض الاهتمام برصد التحولات الخاصة ببعض الشخصيات بالشكل الذي يخدم سير السرد الروائي، مثلما حدث في تحول العلاقة بين ابن عربي وزوجته الأولى بشكل مبرر إلى حد ما، وهو وفاة ابنتهم الوحيدة. وتحول شخصية نظام من شدة الحب إلى رفض الزواج، والذي تأخر تبريره في الظهور بما يخدم حبكة الرواية الأطول في رحلة البحث عن الأوتاد الأربعة.

أما بخصوص الشخصية الرئيسية ابن عربي، فقد ولدت كاملة ناضجة أمام المتلقي. هذا في جانب الوعي. وتعتبر هذه النقطة من مشكلات استخدام السارد المشارك في الرواية. فالرواي يحكي عن نفسه من الخارج كأنه سارد عليم، فيخبرنا بكل شيء عنه دون أو قبل أن نراه في أفعاله.

إشارات الزمان كانت مستترة في الخط السردي الأول. وتم الاستعانة بالأحداث الواقعية في خلفية الحدث الرئيسي كمؤشر لها. بينما في الخط السردي الثانوي تم استخدام إشارات زمانية ومكانية محددة ومباشرة للإشارة إلى أزمنة وأمكنة حدوث الأحداث. ربما لأن غرض هذا الجانب كان توثيقيًا أكثر منه روائيًا.

ورغم كبر حجم الرواية البالغ 925 صفحة إلا أن إيقاع السرد المتزن المائل إلى الإسراع مع استخدام تفاصيل ومعلومات، سواء عن الشخصية الرئيسية أو العالم والمجتمع المحيط به، كان من أسباب انتفاء شبهة الملل عن الرواية بشكل كلي. فحجم التفاصيل مناسب، والتفاصيل المذكورة نفسها في أغلب الأحوال كانت ضرورية لرسم صورة واقعية كاملة لعالم النص، مما يجعل الإشادة بالجهد المبذول في عمليات البحث وتجميع المعلومات والمصادر عن شخصية الرواية الرئيسية وعالمها وحقبتها الزمنية أمر لا بد منه.

وعلى سبيل عتبات النص فكل من العنوان وأغلب المقولات التي تستفتح بها فصول الرواية كانت دلالاته غامضة وغير موضحة في أغلب الأحوال. ربما كان ذلك لاتساع مستوى تأويل تلك المقولات الصوفية والتي تختلف من إنسان لآخر، إلا أن هذه المقولات قد يتم تجاهلها من عدد كبير من المتلقين بعد عدم تمكنهم من إيجاد الرابط بين عتبة الفصل المتمثل في المقولة، ومحتوى الفصل ذاته.