arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في طوق الطهارة

جريدة السفير اللبنانية

ماض بسيط و ”جاز“ سعودي

عناية جابر

شاعرة لبنانية

صحيح أن المقارنة التي تنعقد فجأة بين رواية محمد حسن علوان السابقة «صوفيا» والحالية «طوق الطهارة» أثناء القراءة. لم نقرأ لعلوان باكورته «سقف الكفاية» تشتتنا قليلاً، إذ بعد قصة الحب الغريبة في «صوفيا» يغوص الكاتب في «طوق الطهارة» في الرمال المتحركة لرواية البدايات، بدايات العلاقة بالكتابة، وبدايات الحب، والبدايات كافة، على شكل سرد ذاتي، يأتي فيه على ذكر علاقته بوالده، والدته، ليشتعل السرد منذ الحدث الغريب الذي عمدت فيه صديقة الكاتب ـ حبه الأول بالأحرى ـ الى جمع خواطره على الأنترنت، وطباعتها كرواية ناجزة ترسلها له كأغرب طرد تلقَّاه في حياته. «غالية» «الجورية» أسماء نساء مع غيرهن، دخلن حياة الرواية ليتسنى للكاتب ليس حبَّهن، بل ممارسة حزنه من خلالهن، غضبه، نزقه وتمردَّه: «حزني حالة شخصية جداً، لا علاقة لها بك، بحبك، أنا رجل قررت أن أحزن، وحزنت. أو كم يبدو الغضب آمناً ومتعاوناً هذه المرَّة. ربما كان الغضب هو المضاد الحيوي المناسب لحالات الحزن المزمنة. على الحزانى أن يتعلموا كيف يغضبون في الاتجاه المناسب، والوقت المناسب، فوحده هذا الغضب الآمن يُعيد ترتيب الدماء، ووصف القلب، وإعادة الأمور الى نصابها بعد أن التوت على نفسها مثل العظام المشوَّهة.

الغضب الذي انسحب على طول «طوق الطهارة»، بدأ كما ذكرنا من الكتابة التي كتبها بطل الرواية على الانترنت، ووزنها وزنا، ونسيها مثلما ننسى مشابك الغسيل على الحبال القديمة، عادت والتصقت بوجهه مثل وشم مخجل حين نشرتها صديقته «غالية» في كتاب لم يكن مستعداً له مهما كانت المبررات التي قدمتها غالية، إذ يعتقد الكاتب أن ما احتواه فحسب، مجرد حالات كاريكا تورية باكية لرجل يركض وهو أعمى، باتجاه امرأة ركبت سيارتها منذ زمن ومضت، تاركة له الغبار والحنق.

الكاتب علوان نجح في سرد حيثيات طفولته، علاقته بالبيت وأهله ومدرسته، وكشفه الشخصي والجريء عن «حادثة» تحرّش أحد أساتذه به صغيراً، لا يتجاوز التاسعة من عمره، في شدّنا كقراء الى مفردته الأساسية والبسيطة، والتي نجح في استغلالها وهي «الصدق» في السرد، لما انطوت عليه المفردة من إمكانات ديناميكية جاذبة للقارئ، ومن تضمينها «مفتاح» شخصية علوان الكاتب، الذي يلقي في «طوق الطهارة» ضوءا على عالم رث عتيق عاش فيه طفولته (المحيط، والعادات، والانغلاق، والتعدي على طفولته) الى عالم جديد مثير، عبر أسلوبه الابداعي في اندماجه في تيار الزمن، زمن الرواية، بوعي الواقعي ودمجه بالحلم في آن.

لم يتعمد علوان الفصل الدقيق بين عواطفه ومشاعره تجاه علاقته بوالده ـ وهي علاقة أساسية مفصلية في تكوين شخصية الكاتب في ما بعد ـ وبين أفكاره عن تلك العلاقة واتضح ذلك في محاولته تقليد شخصية الوالد في كل ما يفعله، وحتى طريقة عيشه ولبسه وايضا زجاجة العطر نفسها التي تشتريها الوالدة لكليهما.

ثمة ما هو ثمين في «طوق الطهارة»، وهو التفاف الكاتب على غرائبيته وقدرته على ضبظها. وذلك مغاير تماما لما جاء في روايته السابقة الناجحة ايضا «صوفيا» حيث بدا فيها السرد غرائبيا الى حد، ضبابيا وعلى مسافة من القارئ الذي احتاج جهده الكامل للدخول في عوالم الرواية. هنا، يأخذ الكاتب نفسه بيد القارئ، الى عوالم بالغة الخصوصية، ويفرد له رؤية بانورامية لحياة طفل وحيد لعائلة صغيرة، بكل البراءة والعفوية اللازمتين اللتين تحتاجهما كتابة «السير» بكل بساطتها واحتداماتها الحديثة والشعورية، في سعة رؤية (كتابية) ونفاذ بصيرة إبداعية، وأمانة في التعامل مع السرد، من خلال الامانة مع النفس والآخر. الآخرون هنا هم شخصيات الرواية، وقد عرف علوان كيف يغوص في أعماق نفوسهم الإنسانية، لتمتد الكتابة خارجها في ما بعد، مؤسسة ارتباط علاقة هذه الشخصيات ارتباطا حقيقيا بالكاتب اولا، ثم بالعالم المحيط سواء في السعودية بلد الكاتب، أو في أسفاره… بيروت وبلاد العالم.

يستعمل علوان ضمير المتكلم في روايته، لأنه الاقل التباسا، ولأنه الاكثر ملاءمة لمثل نوع سرده في روايته هذه، والتي ذكرنا على انه السرد الذاتي، السرد الأكثر مباشرة، والأكثر تحضيرا لمتابعة القارئ، حيث يتموضع ضمير المتكلم داخل السيرة، ولا يحاول تحكيمها عن طريق إرجاع سرد حياته أو بعض منها ـ فالكاتب ما زال في عشرينياته ـ الى طبيعة مزيفة. في السرد ايضا، هذه الشبكة الواسعة الى حد: عائلة الكاتب وأقرباؤه ونساء حياته، على أهميتها، هي شخصيات نحيلة (بحضورها) الى حد، وإن بدت هامة بتواريخ حدوثها في زمن الرواية، المعطى الاول للسرد.

الماضي البسيط أو أسرار الطفولة لدى علوان، جاءت كتعبير عن نظام، وبيئة ومحيط وجوار بلد عربي عرف بتشدده في أكثر المسائل، وبتسيّد «الرجل» فيه، سوى ان علوان نقل عنه غبطته، فبفضل الكتابة لا يعود واقع وطفولة هذا البلد وذاك الكاتب غامضين ولا عبثيين، بل هو الفضح ولكن القريب من ذهن القارئ وتوقعه. الماضي البسيط لدى علوان، واقع ملموم ومضموم الاطراف، حين يلعب الكاتب نفسه دورالشخصية الرئيسية التي تمنح المكان والشخصيات هيئاته، وضغطه الحاذق، ولكن الصادر عن حرية وتمرد الكاتب.

إشارات

مجموعة من العلائق الملتحمة بين الابن والوالد، الوالدة بدرجة أقل، تتبعها بعض العلائق غير المتشابكة في الاحداث المكتوبة، وتدرك كل ما هو خارج نطاق بيت الكاتب وشخصية الوالد. علاقات الحب تختزل هنا في إشارات، وفي كر وفر غرامي متواتر، لان الكاتب هنا، يرفض بشكل واع أو غير واع تخصيب علاقاته الغرامية، لجهة النهايات السعيدة التي تتمتع بها معظم الروايات العربية.

الحرية لدى علوان ـ حريته الشخصية أعني ـ هي قيمته الكونية إنسانيا وإبداعيا، ما دام الامر يتعلق بحبيبة سابقة أو حالية فهو «الجوهر» دائما، ومقارباته الغرامية لهن، تبدو نوعا من أنواع التحايل على الذات، والمفضي دائما الى نهاية مخصية غير منتجة.

حزين محمد حسن علوان، سوى أن فرحه موجود بشكل أو بآخر، في الكلمات وفي الكتابة. الرشاقة والرغبات وأشباح الماضي واكتشاف أعمق الاعماق عن طريق سرد يشبه «الجاز» والنشيد الحزين، متقاطع مع فكرة الكاتب عن الكتابة، التي هي خلاص وحدها.