arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في جرما الترجمان

صحيفة القدس العربي

جرما الترجمان

كابوس إرث الأموات الجاثم على رؤوس الأحياء

المثنى الشيخ عطية

روائي وشاعر سوري

الرواية التاريخية التي يدوم تأثيرها على مرّ الزمن، تأسر القارئ، ليس في إمتاعه، وتعريفه بماضي أسلافه، وأخذ عبرة مما حدث لهم، وتغييب هموم الواقع الذي هو فيه من دون إغراقه فحسب؛ وإنما كذلك في بحثها قضايا معقدّةً تتعلّق بوجود الإنسان وبحثه عن نفسه، من أين أتى وما غاية وجوده على الأرض، وإلى أين يمضي؟ والأهم الذي يشمل كل ذلك، شمولها حقيقة امتداد الماضي في الحاضر، بما يجعل منها رواية حاضر وهي تتحدث عن التاريخ، حيث أن من الصحيح وفقاً للمقولة الماركسية الشهيرة أنّ: «البشر يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه وفق شروط يختارونها بأنفسهم، بل تحت شروط يجابهونها مباشرة، تعطى وتنقل من الماضي. وإن إرث الأجيال الميتة سوف يجثم كالكابوس على رؤوس الأحياء».

رواية «جرما الترجمان» للروائي السعودي محمد حسن علوان، لا تكتفي بكونها رواية حاضر وإن تحدثت عن التاريخ، حيث لا تغيب ممارسات الأديان المختلفة والميليشيات الطائفية داخل كل دينٍ في عصرنا باستنهاضها أحداثاً مرّ عليها أكثر من ألفٍ وأربعمائة عام، في ارتكاب المجازر، وإنما أيضاً، تبدو الرواية واعيةً لهذا في استراتيجية صنعها. فهي تترجم مقولة «كابوس الأموات على رؤوس الأحياء» في واحد من مفاصل مشاهدها، عندما يورد علوان وثيقة رسالةٍ من كتاب، كتبها الراهب ثيودوسيوس إلى رئيس شماسي كنيسة اللاتين في صقلية قُرَيْب تاريخ سقوط غرناطة، عن مجازر العثمانيين المسلمين برقاب أهل صقلية المسيحيين، بعد حصارها المميت؛ منذ أكثر من مائة سنة، ويعرضها على جرما بعد أن يصارحه بتوجّس راهب هذه الكنيسة اللاتيني لورينكو منه عندما علم منه أنه مسيحي شرقيّ عاش في أحد بلاد المسلمين حلب: «أطبق القسيس غلاف الكتاب الذي بين يديه على غلافه الآخر. بدا الكتاب سميكاً بغلافيه وإن كانت الأوراق التي فيه أقل مما يبدو عليه حجمه. تأملت الكتاب وهو ينتقل من بين يدي القسيس إلى خزانة الكتب من خلفه. ثم أطرقت وأنا أفكر في الموقف الذي أنا فيه. هل أنا متهم؟ لماذا يقرأ عليّ تاريخاً كهذا إلا لينقّيني من كل المشاعر الجيدة تجاه المسلمين؟ أكل هذا لأني حلبيّ؟ أو لأني عملت ترجماناً لسلطانٍ مسلم؟ إذن ماذا سيقرؤون عليّ لو علموا أن أمي كانت تقف بين المسيحية والإسلام وتتمسح بثياب يسوع ومحمد معاً؟».

وحيث أن عنصر امتداد الماضي في الحاضر وحده لا يمنح هذه الرواية أهميتها كروايةِ حاضرٍ بطبيعة الحال، ما لم تلبس الثياب الفنية للحاضر كما لو كانت جلدَها، يتقنُ علوان باحترافيةٍ (أوصلت روايته السابقة «موت صغير» إلى حيازة الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»)، صُنْع روايةٍ تاريخية معاصرة، ممتعة، محبوبة من القارئ رغم مشيها وأخذه معها في حقول ألغام الدين والطوائف، والأهم، مميزة بأبعاد فنية عالية، يمكن التقاط أبرزها:

اختيارها الذكي البارع لبطلها: «جرمانوس» الترجمان الذي يتحدث لغاته الأم العربية والسيريانية، والتركية التي علمتها له بالخفية عن أبيه، أمٌّ مسلمة تركية الأصل، مسّحتها الكنيسة برعايتها طفلةً عند وفاة والديها في الطريق إلى مكة للحج. ثم الإيطالية والفرنسية خلال عبوديته في قبرص حين باعه أبوه بعقد عمل قبض ثمنه مدة خمس سنوات لإقطاعي إيطالي بسبب الفقر والحرب بين المماليك والعثمانيين. وبعدها الإسبانية في صقلية المسيطَر عليها من الإسبان، بعد هربه كمترجم لا قيمة إنسانيةً له ممن يُفترض أنه مترجمه وتحت حمايته، السلطان العثماني «جم»، المخلوع المطارد من قبل أخيه بايزيد. كل هذا في زمن تحولات عالمية تتضمن وجهي عملةٍ يغذيان بعضهما هما الثروة والدين، وتتخللهما الصراعات والحروب، بين المماليك في عهد قايتباي، والعثمانيين في عهد بايزيد، وفرسان الهيكل التابعين لبابا الكنيسة اللاتينية، وبين ملوك أوروبا الذين يبرز منهم فرديناند الإسباني وإيزابيلا ملكة قشتالة الذين يتزوجان ويتحالفان ويُسقطان غرناطة. كما تتخلّلهما محاكم التفتيش الدينية المقدسة والمجازر.

ومَن غير الترجمان في متابعة وفهم تشابكات هذه التحولات، أكثر قدرة على التنقل بمرونة بين سبعة أماكن اختارها علوان فصولاً لروايته، هي: قبرص، حلب، رودس، صقلية، بورغينيف، باليرمو، وروما. وبين المتحاربين والمتحالفين، قواداً وقساوسةً ولوردات وسلاطين وبابوات؟ ومَن غير الترجمان يجلس بين نائب الرب البابا وسلطانٍ مخلوعٍ ومرهون للمقايضة بين دول وامبراطوريات متصارعة، على كرسي يُحضره له كاردينال يصبح بابا، ويبكي بحرقةٍ لبكاء البابا والسلطان معاً؟ ومَن غير الترجمان أكثر قدرةً على بلورة شخصيات الرواية مثل شخصية ابنة الإقطاعي الذي يستعبده ويجلده، «بنديكا» التي تعلّمه الإيطالية وتصبح صديقته ويجلدها في اختلاط عجيب لشخصيتها كابنة غير شرعية ولدت من بغي. ومثل شخصية السلطان «جم» المعقدة كما جميع الملوك والسلاطين، والمحكوكة بأقدارٍ شخصية متقاطعة بأقدار بلاد ودول، والمنحدرة من سطوة السلطان الهائل الجاه والثراء إلى اللاجئ في عرين أعدائه لمساعدته على أخيه، ضيفاً على فرسان الهيكل وبابا روما، وأسيراً مقهوراً ذليلاً في الحقيقة، يجرده مضيفوه شيئاً فشيئاً من حاشيته ونسائه وكرامته وحرمان رؤية عائلته المستودعة في مصر لدى من يعمل على مقايضته بزرافة؟ ومَن غير الترجمان كذلك يجلس تحت سرير سلطان أحمقٍ عاشق لجاسوسة خدعوه أنها ابنة مضيفه حاكم المقاطعة، لترجمة أحاديث العشق بين تركي وفرنسية يجهل لغتها، ويُصرَف بتصفيق يدها عند ضرورة الاحتدام مع سلطانها، في ارتقاء إيروتيكي يستدعي للذاكرة حكايات ألف ليلة وليلة؟ مَن غير الترجمان خليقٌ بصناعة رواية تعالج أحداثاً تاريخيةً معقدةً ومتشابكة ببساطةٍ ترتقي إلى قيم عاليةٍ في فن الرواية؟ «وعندما خرجتُ من الحفل عائداً إلى الدير تمنيت لو أني لم أتبعْها. شقّ عليّ أن أضربها كل هذا الضرب وهي التي كانت ترعاني مثل طفلٍ صغير، ولكن هي التي أرادت. أنا لم أرِد سوى أن أجعلها تشعر بأنها جميلة ومطلوبةٌ مثل الملكة كاثرين التي توّجوها في الكنيسة، وهي أرادت أن تشعر أنها مهانةٌ وملعونةٌ مثلما يليق بابنة عاهرةٍ تعيش في حقل بطاطس وشعير، وقد حدث هذا فعلاً، بعدد الخطوط التي تركها السوط الصغير الذي أعطتني إياه في ظهرها وكتفيها وعجيزتها. إلى جوار خطوط باهتة وقديمة لا أدري من الذي أحدثها من قبْلي. ثم بعد ضربات عديدة، تناولتْ لحافها، وغطت نفسها به، وتكوّرت مثل جنين، وارتجفت. ثم نامت»، تقول الرواية.

معالجاتها العميقة لشخصياتها بتحليل سيكولوجي سلس مرتبط بمرور الأحداث وبعيد عن الشرح والتفسير. ــ معالجتها لعلاقة الأب والابن الذي يتحمل جرائر أفعال أبيه، بصورة متناغمة مع طبيعة الرواية، التي تبحث في امتداد الماضي بالحاضر، وكما لو كان قرارُ جيرما بقطع علاقته مع أبيه قطعٌ لحاضر البشر مع ماضٍ يثقل أكتافهم ويجثم على أنفاسهم. ــ أسلوب التشويق الذي يعتمد على سرد الذات من جرما، بما يمنح الرواية حساسية شعور القارئ أنها روايته التي يكتبها. وعلى الارتحال في آفاق سبعة أماكن تجثم على أبوابها احتمالات الحروب وينتظر أهلها احتمالات مصائر مقلقة ومخيفة، ببساطة التتابع الزمني الذي يقطعه علوان بالقليل من العودة للماضي لربط أحداث الحاضر.

ــ أسلوب صياغة الحكايات بإدخال علوان مساءلة النفس والتفكّر فيما مرّ، كتدعيمٍ للربط من جهة، وتلخيصٍ للحكاية التي مرت للقارئ، وتذكيرٍ بتفاصيلها، بما يشبه مخطط الكاتب لجريان أحداثها، من خلال تفكّر جرما في حاله، وطرحه على نفسه أسئلة الندم، لماذا وماذا لو؟ كما يحدث مع أبطال ألف ليلة وليلة.

ــ معالجة التعصب الديني بإثارة النفور من تجنّيه ولا إنسانيته، في جميع ما يتخلل الرواية من أحداث، وبالأخص في حالة أم جرما التي ألجأتها الكنيسة وساعدتها، وتزوّجها رجل جاهل منعها من الكلام بلغتها وضربها مع ضرب ابنه عندما اكتشف أنها تعلمه لغتها: «رغم السلام الذي أعيشه في الدير ما انفك أبي يعكر صفو أيامي. مذ فتحت عيني على وجهه لأول مرة وهو بلحية بيضاء مدببة. وجه نحيل وعابس. أذنان أكبر من ألا يسخر منهما أحد، وسمع ثقيل رغم ذلك. عاش خمسين سنة من عمره عازباً حتى التقى بأمي فتزوجها بعد أن وافقت على ذلك بسهولةٍ بُغْيَة الخروج من الملجـــأ المزدحم. وهكذا اضطرت إلى زوج مثله، فاضطررت أنا إلى أبٍ مثله». مع شبك الرواية بروح التسامح التي تعيد القارئ إلى تقديمها من قبل علوان بالجملة التي تلخّص فلسفة المحبّة في المسيحية، من إنجيل متّى على لسان المسيح: «أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم/ لأنّه إن أحببتم الذين يحبّونكم فقط/ فأي فضلٍ لكم؟».

ــ وغير ذلك الكثير من عناصر فن الرواية التي تتوّجها لغةٌ سلسةٌ متدفقة حساسةٌ، والختام بانفتاح الرواية، حيث لا ضرورة أن نعلم مصير السلطان جم بعد علمنا معاناة من يُسلم أمرَه لأعدائه. كما لا ضرورة أن نعلم مصير جرما بعد عودته السعيدة إلى بلاده مبشراً للكنيسة الغربية، في عالمٍ يسوده التعصب المذهبي، ولكننا سنسعد حتماً بقراره كتابة تجربته في كتابٍ مترجم للغات عديدة، ونسعد أكثر بارتقاء هذا الكتاب إلى رواية:((جرما الترجمان))