arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في القندس

صحيفة القدس العربي

قصة مدينتين: الرياض وبورتلند ودراسة في الإحباط

رشيد العناني

قليلة هي الأشياء الباعثة على السعادة لديّ بقدر ما يفعل ذلك اكتشاف كاتب جديد، وقراءة عمل له للمرة الأولى. ولعل أن ليس في هذا ما يدهش، فالاكتشاف ولذة التجربة الأولى هما من بين أثرى التجارب البشرية على كل الأصعدة الحياتية، الفردية والاجتماعية والجغرافية والعلمية.

ولعل اكتشاف كاتب جديد لدى القارئ المواظب أو الناقد المحترف هو بمثابة اكتشاف نجم جديد لدى الفلكي أو حقيقة تاريخية مجهولة لدى المؤرخ أو قانون طبيعي لدى الفزيائي الخ. ومن هذا القبيل اكتشافي للروائي السعودي محمد حسن علوان من طريق روايته الجديدة ‘القندس’ والتي صدرت منها طبعتان عن ‘دار الساقي’ في 2011 و2012. وعلى الرغم من أن علوان اكتشاف جديد بالنسبة لي، إلا أنه ليس كذلك على الإطلاق، فالثابت أن ‘دار الساقي’ قد نشرت له ثلاث روايات سابقة على ‘القندس’. إلا أن ما لفت نظري لهذه الأخيرة هو صعودها إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) للعام الحالي والتي سيُعلن عن نتيجتها النهائية في شهر أبريل المقبل. ولعل لفت النظر إلى كُتّاب لم يلتفت إليهم الإعلام الأدبي كما يجب هو مكرمة أخرى تُضاف إلى مكارم هذه الجائزة المرموقة.

أذكر عبارة لإبراهيم المازني من روايته ‘إبراهيم الكاتب’ تقول: ‘الحياة فنّها أقوى فنونها التثبيط’. ظلت هذه العبارة تتاقفز أمامي طوال قراءتي لرواية ‘القندس’، وكأن المازني لم يقلها قبل ثلاثة أرباع قرن أو نحوها إلا ليصف رواية كانت وقتها في رحم الغيب. ‘القندس’ هي رواية مكرّسة بصفحاتها الثلاثمائة ونيف لدرس الظاهرة البشرية المعروفة بالثبوط إن جازت الكلمة أو الإحباط، أو خيبة الأمل، أو فقدان الرجاء إلى آخر أشباه المترادفات هذه. يجعل علوان من بطله ـ وهو بطل ضدّ بامتياز حقل تجارب لاستعراض مشاعر الحبوط وعدم التحقق وتشريحها تشريحا معمليا دقيقا لا تغرب عنه شاردة، ولا يترفّع عن تفصيل مهما قبُح، حتى أنه يذكّر بتقنيات السرد المرتبطة بالمدرسة الطبيعية (الناتوراليّة) وعلمها الأكبر إميل زولا. البطل الذي يُدعى ‘غالب’ – والذي لا أّشكّ أن اسمه اختير عمدا للمفارقة التي ينطوي عليها، فهو ‘مهزوم’ ومُحبَط على كل الأصعدة هو أيضا الراوي الذي نرى كل شيء من وجهة نظره في هذه الرواية المكتوبة في صيغة المتكلم أو بأسلوب السيرة الذاتية.

الرواية هي قصة غالب ولكنها أيضا قصة مدينتين: ‘الرياض’ عاصمة المملكة العربية السعودية وموطن بطلنا، و’بورتلاند’ المدينة الواقعة على ضفاف نهر ‘ويلامت’ في ولاية ‘أوريغون’ بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي يهرب إليها غالب بحثا عن حياة جديدة. إلا أنه يحمل حبوطه معه وليست المدينتان إلا مسرحين تُلعب عليهما فصولٌ مختلفة من إحباطات حياته المتتالية. غالب هو الابن الأكبر لأب ترك حياة الرعي والبداوة في أبها ليصنع لنفسه ثروة من تجارة السجاجيد ثم الأرض والعقار في العاصمة وليس عنده لابنه شيء من عواطف الأبوة المعروفة: فقط الأمر والنهر ومحاولة تشكيله في قسوة وفق مشيئته. أما أمّه فقد هجرته وأباه وهو رضيع لم يُفطم بعد إلى رجل آخر وهي أيضا لم يكن عندها شيء له من حنان الأمومة المعروف. وأما إخوته من زواج أبيه الثاني فقد نشأوا غرباء عنه رغم عيشته بينهم لا يولونه احترام الأخ الأكبر، كما أن أباه يضع ثقته في ابنه الأصغر متجاهلا غالب، الذي يفشل في الدراسة ويُفصل من الجامعة وهو على وشك التخرج لعدم تقديمه بحثا مطلوبا. يرسله أبوه للدراسة في ‘بورتلاند’ في أمريكا، ولكنه يعود فاشلا بعد شهور. يريد أبوه أن يجنده للعمل معه في مكتبه، ولكنه يرفض بدون أن يكون لديه بديل. يحبّ لكن حبيبته تتزوج آخر دبلوماسيا ناجحا ذا مستقبل، إلا أنها تستبقي غالب عشيقا سريّا لعشرين عاما، دائما على استعداد للسفر للقياها لسويعات أو أيام معدودة في أقصى بقاع الأرض، قانعا من حبها وحياتها بالفتات. وعلى الرغم من أن أقصى أمانيه كان أن تنفصل ذات يوم عن زوجها لكي تصبح خالصة له، إلا أنها حين تختلف يوما مع زوجها اختلافا خطيرا وتلجأ إليه شهرا كاملا في بورتلاند، يجد نفسه يضرع إلى السماء أن تعود المياه إلى مجاريها بينها وبين زوجها لأنه يكتشف أن ما عاش حياته يحلم به لم يعد يعني شيئا بالنسبة إليه وقد تخطّى الأربعين. يختار غالب وطنا جديدا في بورتلاند التي فشل فيها طالبا في العشرين فعاد إليها كهلا في الأربعين لاجئا من مدينة قاحلة لم يعرف فيها إلا الخيبات المتكررة. إلا أن بورتلاند أيضا لا تحمل وعدا خاصا. هي فقط موضع ألطف لاجترار الرجاءات الخائبة والاستسلام إلى الحياة إذ تمارس فنها المفضل في التثبيط حتى نهاية العمر.

على أن هذه ليست رواية حبكة أو حدث، ولعله من الطبيعي ألا يحدث شيء ذو بال في حياة محبطة. إنما هي رواية تأمُّل. يتميز أسلوب علوان بما أحب أن أسمّيه السرد التأملي الذي لا يكتفي بالوصف المحايد أو تسجيل الحوار وإنما يتبعه غالبا بتعليق أو صورة أو مقارنة تضفي عليه عمقا وتدعو القارئ للتفكّر فيما تنطوي عليه اللحظة من معانٍ. ومن مثال ذلك خواطر الراوي بعد أن تغضب أمه منه فتستنزل عليه لعنات السماء: ‘وخرجت إلى سيارتي وأنا أفكر كيف يتعامل الله مع الدعوات المتتابعة التي يرفعها أبي وأمي عليّ منذ ست وأربعين سنة حتى الآن؟ هل من المعقول أنه لم يتخذ قراره بشأنها حتى الآن؟ أتراه يمهلني أم يهملهما؟’ (ص 37) وهو أيضا يجيد الوصف والتقاط أدق التفاصيل في المواقف الموصوفة حتى تشعر أنك تعاين وتحسّ معه ما يصف: ‘جمعتْ كفيها ثم مسحت بهما وجهها فتمدد معهما جلد جفنيها حتى رأيتُ لوهلة حمرة العين الداخلية (…) سادت برهة صمت أخرى راحت أمي خلالها تمسح براحة كفها ثوبها ثم تلتقط أشياء وهمية منه وتلقي بها بعيدا.’ (ص 34-35)

قلت إن ‘القندس’ قصة مدينتين. إحداهما اللعنة والأخرى الخلاص. أما اللعنة فهي ‘الرياض’ وأما ‘الخلاص’ فهي ‘بورتلاند’. وبين المدينتين يداول السرد قصة غالب، مخصصا بانتظام فصلا للرياض وآخر لبورتلاند، بادئا من نقطة النهاية في بورتلاند حيث ينشد الكهل الأربعيني حياة تفصله عن ماضيه المرفوض، ثم يداول عن طريق الاسترجاع بين الماضي والحاضر. وإذا كان رفض الماضي لا يستتبع بالضرورة رفض المكان، فإن الأمر ليس كذلك في هذه الرواية، فالزمان والمكان يتحدان في كراهية سافرة لمدينة الرياض تتخلل السرد كله: ‘الرياض مملة ومتربة وليس لديها ما تمنحني إياه. شيء ما في شوارعها صار منهكا من حكايات أهلها وكدحهم الدؤوب عكس الزمن.’ (ص100 ) ‘تركت الرياض قبل أن أجف فيها مثل إجاصة بنيّة مهترئة وأتحول إلى جزء من غبارها أيضا بلا تاريخ وبدون سعادة.’ (ص 104) ‘الرياض كانت (تغتصبني) يوميا (…) كما تفعل بكل من يخرج عن سجل القوانين المقدسة الذي يحكمها.’ (ص 275) ‘تعرضت بكثافة لتلك الإشعاعات الضارة من الحزن التي يطلقها نهار الرياض وهو يتجشأ راحلا بعدما أكل طويلا من هموم الناس وشرب من أحزانهم. (…) نباتات الزينة التي تمتد (…) مثل محاولة فاشلة لتزوير هوية الرياض الجافة في بيوت القادرين.’ (ص 276-277) وحين تنقلب به السيارة في حادث مروري، فإنه يصفه هذا الوصف الكاشف: ‘شعرت وأنا أتحرك في الحيز البرزخي داخل السيارة المتقلبة بأنها لا تتقلب بدافع قوى الجذب والطرد والقصور الذاتي، بل لأن الرياض قد تحولت إلى مارد هائل وراحت تركل سيارتي بعنف.’ (ص 304) بهذا التركيز المتواتر على رفض المدينة، يصبح المكان جزءً من قدر الفرد الفاعل في معاناته، وليس مجرد خلفية لألاعيب القدر أو اختيارات الإرادة الحرة. ويصبح المكان البديل جزءً من الخلاص، وهو الدور الذي يقع على عاتق المدينة الأخرى: ‘بورتلاند’ الأمريكية التي تحظى بلطيف الأوصاف في الرواية والتي ترحب بغالب الأجنبي، ركيك الإنكليزية، المرتبك حضاريا وتفسح له مكانا في شوارعها ومحالها ودورها وعلى ضفاف نهرها. لن تمحو بورتلاند ذاكرته ولن يفارقه حبوطه فيها، فقد تأخر وقت ذلك كما نفهم من الرواية. ولكنها سترفع عنه وطأة المكان. وهكذا تنضم هذه الرواية إلى قائمة متزايدة من القصص العربي المعاصر التي تجد في ثقافة الآخر وبلاده ملجأً من ثقافة الذات.

كان من الممكن أن تصبح ‘القندس’ رواية سطحية عن إحباطات شاب أفسدت حياته ظروف النشأة ونقص الهمة، إلا أن السرد التأملي المستبطن، والحسّ الساخر من الذات ومن كل شيء يحولانها إلى رواية فشل وجودي من الدرجة الأولى، رافعا قصة غالب إلى عمل يتأمل في العلاقة بين الذات والبيئة والمجتمع. يتأمل في طبيعة الأمومة والأبوة والأخوة. في معنى النجاح والفشل. في طبيعة الرغبة والحب. النوال والحرمان. المعنى والعبث.

هذه رواية تُعرّي ولا تتستر كما هو دأب الفن الجيد. تعري الراوي وسائر الشخصيات. تعري الأسرة. تعري المجتمع. تعري المدينة. تعري الثقافة السائدة. وتفعل كل هذا في أسلوب جزل في غير تصنُّع. أسلوب يعتمد الاقتصاد في التعبير ويستمد قوته من نزوعه الدائم إلى السخرية طورا والتأمل طورا آخر والإحالة إلى الصور والتشبيهات طورا ثالثا. ومن كل هذا ينتج أسلوب سردي كثيف في غير تثاقل. أسلوب سردي يساعد الحدث على الحركة ويساهم في كشف دخائل الشخصيات، وفوق هذا وذاك يمتع القارئ ويبقيه مشدودا إلى الرواية صفحة بعد صفحة وفصلا بعد فصل.

تطورت الرواية السعودية تطورا ملموسا في العقدين الأخيرين وتأتي هذه الرواية لمحمد حسن علوان لتؤكد هذه الظاهرة، والتي هي ظاهرة تدعو للتأمل. لأن نضج الرواية السعودية واقتحامها لحساسية العصر الحاضر في موضوعاتها وتقنياتها لا يأتي انعكاسا لنضج المجتمع السعودي الذي لا يزال يعيش في عصر آخر منفصلا انفصالا جذريا عن الحساسية الحديثة. هل نعتبر الرواية السعودية إرهاصا مبكرا بالتحولات الاجتماعية القادمة، ذلك الإرهاص الذي هو ليس غريبا على الفن في سبقه للمجتمع وريادته للتغيير؟ أم نعتبرها انفصالا عن المجتمع وتعبيرا فرديا عن حساسية شخصية ساعدت ظروف خاصة على تشكيلها وصقلها بما يخالف الثقافة السائدة؟ ليس من السهل الجزم بهذه الفرضية أو تلك. ولعل الفرضيتين أن تتقاسما الحقيقة فيما بينهما. إلا أن المقطوع به هو أن الرواية السعودية اليوم آخذة في الانضمام إلى ركب الرواية العربية بخطى حثيثة.