arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

مجلة فرقد الإبداعية

الاستهلال الرابط بين زمني القص و الخطاب

قراءة سيميائية في رواية “موت صغير” لمحمد حسن علوان

منى العنزي

باحثة في الأدب و النقد

الكتب تحمل أرواح كاتبيها وأنفاسهم، ليست حروف وكلمات فقط؛ بل تُعَدُّ رسائل خطابية ترنو لخلعِ الألوان الشاحبة عن الروح، لتجدَ الكلمات التي ظَنَنْتَ أن لا وجودَ لها، تلك الكلماتُ التي كانت تغفو تحت ظلٍّ ممتدٍ بين فجرِ النصِ و غسقِ الكاتب.

تنبّهت الدراساتُ الحديثة إلى دور الموجِّهَاتِ النصية الخارجية في دعم و مساندة الموجهات الداخلية النصية، و مقدرتِهَا على الكشف عن عمق النصوص وثرائها الدلالي، ومن أهم الموجهات الخارجية الاستهلال الذي عُرف باسم الخطاب المقدماتي. حينما يصافح القارئ عتبة رواية الكاتب محمد حسن علوان:(موت صغير) تلقاه بعد الغلاف أولُ لافتة وقد كُتب عليها (إلهي… ما أحببتك وحدي، ولكن أحببتك وحدك)، وحين يتقدم أربع خطوات يقف على باب السفر الأول من الرواية، وهو السفر المُؤْذِنُ بانتهاء العتبة التي مثلت استهلال الرواية، في لافتة وأربع صفحات، توالى من بعدها إثنا عشر سفرا” و99 لافتة في مجموع الرواية.

وسنقف في هذه المقالة مع استهلال هذه الرواية (موت صغير) لنقدم فيه قراءة نقدية تستجلي مختلف تشكيلاته.

تُقدم اللافتة الأولى (إلهي… ما أحببتك وحدي، ولكن أحببتك وحدك) التي تصادف القارئ عند الولوج إلى دفتي الرواية ملمحا” عن الطريق الذي سيسلكه القارئ في ثناياها، حين ينتقل من عنوان: “الموت الصغير” إلى لافتة: “الحب الإلهي”، وعندها لا يعدم المتلقي خيطا” أو خيوطا تربط بين العنصرين، فالحب الإلهي طالما شكل مصدر فناء لأهل التصوف وأرباب السلوك. وهو مرتبة عالية ومقام سام من مقامات الإحسان لا تفارق فيه الروح الجسد، إنه موت من شكل آخر، يحيا به الإنسان بدل أن ينعدم، ويفارق به الأحياء وهو بين أظهرهم، ويصبح من أهل الآخرة وهو حي يرزق في الدنيا.

وجاء الاستهلال عند محمد حسن علوان استهلالًا سرديًّا لكونه معزوفة الراوي الأولى، وخطوات المتلقي في عالم النص، ويعتمد الاستهلال على العنصر التشويقي أولًا، وجاء الاستهلال في روايات علوان مفتتحًا بجمل فعلية قصيرة: “أعطاني الله برزخين”.

خيوط الاستهلال ونسج الفضاء الزماني والمكاني 

يقدم لنا استهلال الرواية في (موت صغير) الفضاء الزماني والمكاني للرواية، عبر وصف دقيق وشامل للكوخ الذي كتب فيه ابن عربي مخطوط “سيرة حياته” بآلامها وآمالها، بتقلباتها وأطوارها، بأفراحها وأتراحها… ويختصر لنا الاستهلال تلك الحياة الطويلة العريضة، ليرسم مسيرة ابن عربي في رحلته يوم خرج من الأندلس مكان ميلاده، وقادته الرحلة إلى الله إلى شتى أصقاع الأرض، فمر “بأزقة فاس وزوايا تونس وخوانق القاهرة وشعاب مكة وحوانيت بغداد وغوطة دمشق وبحيرات قونية”، ولم يستقر في عزلته التي كانت بأذربيجان 610هـ / 1212م.

في كوخه على قمة الجبل، يعيش خلوته مستأنسا” بالله، متخففا” من حطام الدنيا، متأملا” في أرجاء الكون…. تتصارع في فكره تأملات الحياة، وتجول في عقله معارفه المتنوعة.

إنها رحلة القلب قبل رحلة الجسد، رحلة العمر التي فتحت عليه فتحَ العارفين بالله، رحلةٌ بدأت من أعماق النفس في الداخل، وأخرجته من دائرة اهتمام الأهل والسلاطين إلى علياء التعلق بالأسرار القدسية، رحلةٌ قادته للبحث عن “الأوتاد الأربعة”، وجذبته إلى شهود “مطالع الأنوار الإلهية”، لذلك لم تكن رحلة تسلية أو استجمام، بل كانت رحلة تعب “قرحت الأصابع… وزادت الآلام… وأشعثت اللحية، وشققت القدمين، وآلمت الجسد، صعدت به التل، وهبطت به الوادي، ورافقه فيها الهلال والمحاق والبدر، وقطعت فيه طريقَه الجبال…”

وإذا كان الاستهلال في العادة يقدم خلاصة مركزة عن الرواية ويحدد فضاءها ويمهد للأحداث الرئيسة فيها فإنه يمكن القول بأن الاستهلال في رواية (موت صغير) أمسك بالرواية من المنتصف وجذب إليه أطرافها حين ركز على عزلة ابن عربي في كوخه الذي وصل إليه قادما” من ملطية، وهي محطة متوسطة  من حياة بطل الرواية، لكن الكاتب قدم في الاستهلال ما يربطه بما سبق من حياة البطل قادما” من الأندلس، قاطعا”خمسين سنة على طريق الله المحفوف خلوة وسفرا” وجوعا “و رياضة و مجاهدة”، وما يصير إليه حين يصبح “قطب الشأن الإلهي، وغوث الآن الزماني، مرآة الحق في يد طلسم الله الأعظم، وقسطاس الفيض الأعم”. وبذلك مثل الاستهلال حبكة قوية حاضرة على طول العمل الروائي، رابطة بين مختلف أجزائه في المبدأ والمنتهى.

الاستهلال والشخصية الرئيسية 

تبدو ملامح شخصية البطل واضحة في الاستهلال من خلال وصف بيئة العزلة في الكوخ، وهي بيئة اتسمت بعزوف صاحبها عن ملذات الدنيا، ورغبته في رياضة النفس وترويضها على الزهد، فالكوخ ضيق “أكلت الأرض حوافه… تدخل منه الريح… ويتسرب منه المطر… وتدخل فيه الهوام” وهو كوخ خفيف المتاع، فليس فيه إلا “حشية صوف… وطست وضوء… ولفائف وأوراق ومصباح وليفة ودواة… وقفيز طحين وجرة وكيس ملح وزبيل تمر وتين”، بل إن بطل الرواية يستكثر على نفسه ذلك، ويتلهف إلى التخلص منه خشية أن يقطع صلته بالله في خلوته “ما أكثر هذا المتاع على طالب الخلوة، وما أمضاها  في إفسادي”

كما أن طبيعة الشخصية “الصوفية” كانت جلية في الاستهلال، فالمصطلحات الدالة التي انتقاها الكاتب عبرت بعبقرية عن “الإيديولوجية الفكرية” لابن عربي، “فالخلوة، والأنوار الإلهية، والأسرار القدسية، والأوتاد، والرياضة، والمجاهدة، والقطب، والغوث، والفيض…” كلها مصطلحات تعكس طبيعة الشخصية المتحدث عنها، والتي توارت أول الاستهلال وراء ضمير المتكلم دون أن تكشف عن وجهها واسمها إلا في نهايته عبر حبكة فنية سردها الكاتب بإحكام. ففي خلوته يسعى ابن عربي إلى تدوين الكتاب “الفاصل” في أمره، يكتبه وهو جازم أن الناس منقسمون في شأنه، مضطربون في الموقف منه، فيفتتحه بالبسملة والتعريف بنفسه قائلا: “بسم الله الرحمن الرحيم. قال السالك محي الدين بن عربي…”

وبذلك يكون الاستهلال قد حمل عنوانا” لمسارين زمنيين حكما زمن القصة، أحدهما مسار لسيرة ابن عربي، وهو مسار يتسم بالواقعية بحديثه عن شخصية تاريخية معروفة، والآخر مسار لسيرة المخطوط الذي دون فيه تلك السيرة، وهو عمل متخيل استغرق ما يزيد على 800 عام.

سحر الاستهلال وتقنية السرد

لقد أحسن الكاتب في اختيار السرد بضمير المتكلم، لأنه الضمير القادر على معالجة خبايا النفس وإبراز مكنوناتها، والشعور بما يعتلج في الروح من أحاسيس وجدانية ومشاعر إنسانية… وهذا بالذات هو الموضوع الذي تحمله الرواية، فالقضية التي تعالجها هي قضية “الحب الإلهي” والانفصام عن عروة الدنيا إلى الاعتصام بالعروة الوثقى، وليس أقدرَ على التعبير عن خلجات النفس في ذلك من ضمير المتكلم، والحقيقة الأخلاقية التي يحسها البطل السارد هنا بواسطة الاستبطان عبر ضمير المتكلم هي الحقيقة الوحيدة الصحيحة. وإذا كان السارد بضمير الغائب ناقلا” فإن السارد بضمير المتكلم ـ كما في روايتنا ـ سارد وشاهد ومؤلف، وفي كافة المستويات السردية.

وإذا كانت تقنية السرد بضمير المتكلم تتيح للراوي البطل أن يحتل مكانة الراوي العليم مع نفسه، فإنها لا تتيح الأمر نفسه مع بقية شخصيات الرواية، وهذا ما يجعل الرواية أقرب إلى التصديق والواقع، حين تجري مجرى طبيعيا “مألوفا” في الحياة.

وقد دار الاستهلال بشكل كلي تقريبا” على إبراز شخصية البطل ابن عربي، ولم يتناول أي شخصية ثانوية في الروية، إلا ما ورد من حوار عابر بين ابن عربي وبين الراعي، وهو ما يجعل الاستهلال الحواري شبه غائب عن استهلال رواية (موت صغير).

ومن الواضح أن الاستهلال لم يتبع أسلوب التاريخ بسرد الأحداث عبر تسلسلها الزمني، وإنما اعتمد على الدوران في فضاء الزمن بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.

ختامًا:

لقد نجح الكاتب إلى حد بعيد في هذا الاستهلال بإثارة جملة الأسئلة والعواطف حول شخصية البطل: سارد القصة، حيث قدم للقارئ جرعة مضغوطة عن هذه الشخصية، واستطاع أن يوقفه في نهاية الاستهلال على حدود السطر الأول من مخطوط السيرة الذاتية للبطل، لتكون قراءة ذلك السطر بداية ولوجه التي ستنقله إلى أعماق القصة عبر تاريخ الشخصية وتاريخ المخطوط، متكئا” على الحديث عن البطل والمكان والزمان، ومبتعدا” عن أسلوب التساؤل أو الحوار، وهو بذلك يجذب القارئ بتدرج من عالمه الواقعي إلى عالم الرواية التاريخي الخيالي الخاص بها.