arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في طوق الطهارة

جريدة الرياض السعودية

في دوامة البحر الجميل

شريفة الشملان

قاصة وكاتبة سعودية

هذا الشاب قال شيئا لم أكن أدري كنهه ومن ثم نشره..
قال ما لم أقله، ولم أفسره، لكنه أخذ هذا الشيء الذي وجد قبل أن يولد هذا المشاغب في اللغة بسنين لا أدري عددها، ومن ثم رماه أمام عيني في فاتحة روايته (طوق الطهارة).

تلك الكلمات في البداية، في ألف الرواية وقبل بائها، طارت بي كما يطيّر طفل نزق طيارة ورقية صنعها من أجمل ورق في البيت وأعطاها ذيلاً من فستان عرس أمه، طيّرني كي أنهض مسرعة لأعلن على الملأ قبل أن ألج في بحر الرواية:

أن هذا ال (محمد حسن علوان) قال ما لم نقله، وغرف من نبع الحياة والغموض واللهفة في التعامل مع الكلمات، ومع الذات الأدبية بما لم يدركه الأدباء نفسهم وإن تدغدغ داخلهم وتدفق كصنبور ماء رفض الانغلاق بليل كبكتيريا الحب والشوق بغفلة منهم..
قبل أن أدخل لرواية ال (علوان) الجديدة (طوق الطهارة) حملتني إلى القلم صفحتها الأولى وغلافها.

فكرت أول ما فكرت بصديقتي تلك التي تنسج من اللغة سجادة عجمية، تلك التي تهب علي كلما رأيت فناً أدبياً موشى بكلمات تعجز عباراتي عن حملها، كما تهب أمي عندما أكون في أرض فسيحة وكلها عشب أخضر، فأستحضر أمي وأتمنى لو أنها معي، هذه المترفة لغوياً تنازعني نفسي عندما أقرأ شيئاً بنمنمات الروح والوجدان.. وأتمنى لو أن عينيها معي لتقرآ دفق العبارات، لكني بدلا من تلفون لها قلت لمَ لا أنثر ما قرأته الآن من حرارة نبض كلمات (علوان)، ليكن نبض كلمتي ليوم الخميس، ويشاركني به الكل في يوم الثقافة الأسبوعي.

يقول علوان في فاتحة (طوق الطهارة):

(هذه المرة أكتب بنيات متعددة
وأعرف أن فرقاً شاسعاً سيؤلم ذهني، ولن ينتبه له أحد. أنا الذي أكتب الآن على ورق يابس، وأمارس هذا القمار الثقيل، وقد انقسم إيماني إلى أجزاء لا يعرف أي منها طريق النافذة، ولا شكل السماء، لم يبق لي إلا نصف الشوق ونصف الليل، ونصف اللغة، بعدما تركتني الأنصاف الأخرى من أجل حياة أكثر جدوى وطريق أكثر أماناً.

هذا ما جعلني بطيئاً وخائفاً، أكتب على مهل مثلما تنقش التوابيت، وأراقب في سطح ذهني مئات الوجوه التي لا أعرف أياً منها، ولكنها طفرت على وجه الورق، مثل جماعات الغجر، وصار لزاماً عليّ أن أرقص معها أو أموت غريباً. حاصرتني هذه النيات المتعددة بعد أن كان يستحيل عليّ أن أكتب بأكثر من نية، مثلما أكتب بأكثر من قلم، خشية أن يخرجني هذا من توحيد الكتابة، ويجعلني مشركاً كالرسامين الذين يرسمون بألوان كثيرة، ولا أستطيع أن أقلدهم في ضلالهم المتعدد، فما الذي يحدث الآن يا ترى؟)

هذه الفاتحة للرواية قفزت بي قبل أن أكمل الصفحة (6) لأكتبها، وأكتب من خلالها ذاتاً وكنهاً لم أدركه إلى الآن، وكان هذا الذي تشقيني وتفرحني كلماته قد قفز بي إلى عمق لم أكتشفه فأتى واكتشفه نيابة عني، ربما ليس في ذاتي بل في ذات كل من لعب فكره بالقلم ولعب به القلم، بكل من يمارس هذا التمزق النصفي، نصف يكتب به ونصف يواجه الناس ولقمة العيش وهذه اللقمة التي يجب أن يستمر ليعيش بها ويكتب وبأمان ولو ظاهريا على الأقل..

القمار الثقيل الذي رآه (علوان).. هو مغامرتنا الحقيقية للعيش، تلك التي نعيشها مع نبض كل كلمة تواجه عيناً تقرأ ولا ندري هذه العين بأي نية تقرأنا..
الخوف اللذيذ وكأننا نرتكب الممنوع والحرام، ونحن لا نمارس إلا جزءاً من وديعة الله في ذاتنا.. فكرنا.. الذي ينيره الله بشعاع بسيط من نوره..
جماعات الغجر، هؤلاء الذين تلبسوا بنيات علوان وتلبس بهم، وبلسانهم من قبل دون أن ندري أنه مسنا جنون غريب لم يظهره شيخ يضرب بدننا بعصا.

ما الذي يحدث الآن يا ترى؟

الذي حدث لي أنني رحت أكتب لأول مرة في حياتي كلمات من رواية وعن رواية لم أقرأ منها غير صفحتها الأولى وجزء من الثانية. ولذة اكتشاف تعصف بي، أحاول أن أجمع ما تبعثر مني. وأتساءل في ذات السياق، ما الذي حدث لي يا ترى؟

وأجد أنني أنتقل للغلاف الأخير لأرى هل عاد علوان ليجمع شتات الذات.. أم تراه يعيد بعثرة الكتابة وصياغتها من جديد، هذا الشاب الذي شاغب ذاتنا وحاصرنا على كبر.

(كانت كتابة الرواية تشبه زراعة حقل من الأفيون، يخدرني الى اجل مسمى. فصد مني الكثير من الكلام، كي تعود الروح الى دورتها المطمئنة عدة سنوات، قبل أن يتراكم كلام آخر تضيق به المسارب، والطرقات، ومحاولات التفادي والإنكار، وتنمو على القلب مرة أخرى أعشابه العشوائية المعتادة وينتابني الصحو المؤلم عندما ينتهي مفعول الرواية السابقة).

ذاك ما كان على غلاف الرواية الخلفي، بقي ما بين هذا وذاك، سأخبركم عنه عندما أنتهى من الرواية.. ولكني أعترف أنني سأدخل الرواية كما ادخل بحراً من كلمات ترفعني وتخفضني ودوامة البحر الجميل ستأخذني، ودوار لذيذ يسعدني، فقط أرجو أن أحداثها أجمل من (سقف الكفاية).. أوسع أفقا، زمانا ومكانا، رغم لذة اللغة وأناقتها، وكأن العبارات لا تخرج إلا بعد كيها وتبخيرها فتضوع منها عطور شرقية.