arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

جريدة الوطن السعودية

فطرية الحركة والتحول

عادل ضرغام

أكاديمي وناقد مصري

إن القارئ لرواية ”صوفيا“ لمحمد حسن علوان سيدرك أن فكرة التحول – المرتبطة بالضرورة بالحركة – هي الفكرة المسيطرة على الرواية،وهي في ذلك تستند إلى نظريات فلسفية خاصة ترى أن نشأة الكون أو الحياة في الكون قائمة على الحركة الدائمة، يجسدها قول أحد الفلاسفة نحن لا ننزل النهر الواحد مرتين، يشير إلى الحركة ومعدل التغير النامي دائماً.

وقد أثر هذا الإرث الفلسفي تأثيراً كبيراً في تكوين البطل الأساس في الرواية، فقد قدمت الرواية ذلك البطل وكأنه عدو للثبات، فهو في حركة دائمة لاستكشاف المجهول، وللدخول في تجارب جديدة، وهذه التجارب ليست إلاّ رمزاً لاستكناه المعرفة والإدراك.

فالحياة – في منطق الرواية – ليست إلا مجموعة تجارب متصلة، تحدث للإنسان طوعاً، أو يحاول الإنسان – إن كان واعياً بذلك مثل الفنان على سبيل المثال. أن يخلق لنفسه هذه التجارب انطلاقاً من رغبته الأكيدة في المعرفة، ومحاولة التخلص من الملل.

وفي ذلك الإطار تأتي الرواية التي بين أيدينا لتشير إلى حالة معرفية إدراكية خاصة، بحيث يبني الفنان طبقات معرفية متراكمة من الوعي بالآخر الأنثوي. والرواية في تقديمها لهذه التجربة المعرفية للالتحام بالأنثى، تقدمها وكأنها تجلّ مختلف يباين الحالة الأولى، التي مر بها البطل في بيئته الطبيعية في مدينة الرياض، والتي تعبر عن زواج عادي، وانتهى هذا الزواج بسبب السأم والملل والرتابة التي تصيب كل شيء في حياة البطل. ومن هذا المنطلق تأتي التجربة الجديدة لتفتح الباب لوهم جديد يفرض سيطرته ووهجه من مخالفته للقوانين الاجتماعية المعهودة، ”فصوفيا“ البطل على الجانب الآخر لهذا التلاحم ”مسيحية“، وهذا يعطي الرواية بعداً معرفياً آخر، حيث تتجلى سمات هذا الانتماء في جزئيات ذات خصوصية في متن الرواية، بالإضافة إلى جزئية مهمة تجعل هذه التجربة المعرفية ذات وميض خاص يشد الإنسان إلى المغامرة والتجريب، تتمثل هذه الجزئية في المرض اللعين الذي راح ينشب أظفاره في جسدها النحيل.

إن هذا النسق المعرفي الخاص بالالتحام بالآخر الأنثوي، يؤكده ويشير إليه غياب الشخصيات في الرواية، فالرواية تحتوي على شخصين أو بطلين، أحدهما ”معتز“ البطل المسلم، والآخر ”صوفيا” المسيحية“، بالإضافة إلى الممرضة أو الطبيب، وكل شخصية منهما بلا دور حقيقي في الرواية، فقد جاءا لإكمال عناصر المشهد الصوري الأساس الذي يتمثل في رصد هذه الحالة المعرفية شديدة الخصوصية.

ويؤكد هذه المنحى المعرفي الخاص أن الرواية على مدار صفحاتها تقدم للمتلقي رؤية معرفية حقيقية قائمة على الوعي الفردي الذي يلتحم بواقع خاص في إطار تجليات عديدة.. وهذا الوعي الفردي ربما يشدنا إلى جزئية مهمة تتمثل في لغة الرواية التي تعد – بحق – أهم الجماليات التي وجدت في الرواية، فاللغة شديدة التوهج والخصوصية، ولديها قدرة على تشكيل تجارب لا تحد في تعبيرها المقطر المملوء بسمت التقدير، ولديها قدرة – أيضاً – على تشكيل عوالم دلالية مشعة بصور روائية خاصة، فحين تقول الرواية ”عندما أتخيل كيف تبدو الشهور، يتراءى لي أكتوبر دائماً رجلاً طيباً مكللاً بنبوءة الخريف، بالزمن الذي ينحني لحقيقة السقوط في النهاية، ويأتي من بعده برد اليقين الذي لا يرد“.

إن الجزء السابق من الرواية يلح من خلال صورة روائية موحية بجزئية فكرية مؤسسة في الآداب العالمية، وفي الأدب العربي أيضاً، تتمثل في اعتبار الفصول الأربعة رموزاً لحالات عاطفية ووجودية، حين ترتبط بالوعي الإنساني، فالربيع وهو بداية انفتاح الدائرة يأتي معبراً عن بداية الشعور بالحب وبداية الميلاد بعد ذوبان صقيع الشتاء، ويأتي الصيف بعد ذلك دليلاً على احترام العاطفة ومرحلة الشباب، ثم يطل الخريف (بداية من أكتوبر) ليعلن بداية ذبول العاطفة، وبداية الإحساس بدبيب المساء المتزامن مع سقوط أوراق الشجر، ويختم هذا المنحى بقفل الدائرة مع الشقاء، وموت العاطفة ونهاية الإنسان المرتبطة – في منطق الرواية – باليقين المادي المحسوس.

والنص الروائي لا يلخص الفكرة السابقة، وإنما يقدمها بقدرته المعهودة على قراءة الحياة، وتقديم الوعي الفردي الخاص، الذي يقدم رؤيته وإن جاءت رؤية مقررة سابقة. والرواية تحفل بالإلحاح على مثل هذه الصور التي يتم تداولها في الأعمال الإبداعية، ويكون انتماؤها إلى المجال الإنساني بصداه الرحب مبرراً أساسياً في محاولة رصدها من جديد، علّ هذا الرصد يشمل جزئية جديدة أو يفتح أفقاً جديداً مولداً من الأفق القديم.

وإذا تأملنا طريقة السرد التي قدمت من خلالها الرواية، سندرك أن الرواية جاءت في إطار ضمير المتكلم، الذي يحيل إلى الذات، ويشعر المتلقي أن هناك تماهياً بين المؤلف والبطل الحقيقي في الرواية. أما البناء فقد جاء في إطار نسق خاص يمكن أن نسميه نسق التشظي، فليس هناك سرد أو بناء تراتبي في الرواية، فالرواية تبدأ من لحظة النهاية ولحظة الموت، الذي يمثل في منطق البطل الحقيقي للرواية الحقيقية الملموسة في الحياة. وبعد تقديم مشهد الموت الخاص “بصوفيا” في إطار يخرجها عن التكوين الجسدي أو المادي، ويجعلها تلتحم بالملائكي النوراني، يعود السرد بعد ذلك لرسم شخصية البطل وصفاته الخاصة، ومن خلال دفقات الذاكرة على طول صفحات الرواية تنبني لدى المتلقي، وتتشكل طبيعة حياته السابقة والخاصة بإصراره على الاختلاف والمغايرة والبحث عن التجربة التي تكون نسقاً معرفياً يضاف إلى تجاربه السابقة، فالرواية لا تتبع منطقاً تراتبياً معيناً، وإنما تصنع منطقها الخاص القائم على الاستباق أو الارتداد المبني على ومضات الذاكرة المنفتحة بحسب الواقع الآني المعيش، الذي يستدعيها لتكتمل الرؤية، ويتشكل البناء.