arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

منتديات مدد

صوفيا

عبدالعزيز الموسوي

كومة حزن ينجح العلوان في تمريرها للقارئ بجدارة، أتكلم عن حزن مسبوك بلغة شاعرية وبرّاق جدا كـ عقد من اللؤلؤ ، للذين يغريهم البريق على حساب الكُنه ولا يعنيهم إن كان هذا العقد مزيفاً أم حقيقياً فهذه رواية تستحق قراءتها. أما رأيي فأقتطعه من فقرة مرة كـ سحابة بيضاء.

“كاد الملل يغدو بثوراً في وجهي، جلدي ، وبقعةً من الظل الرمادي الرتيب، تكسو كلامي، ونظراتي، لكنها كانت جرعةً أكبر مما أحتمل، جرعة ملوثة بالحزن، مزقت جوفي قبل أن تطفئ ظمئي!”

لم يصبني الملل الذي كان المبرر لكثير من الأشياء الغير منطقية ما أصابني هو عدم الاقتناع بفكرة النص ومحاولة تظليل أو لنقل تبرير بطل الرواية لما يجري من أحداث.

يبدأ الكاتب هذه الرواية بـ استجلاب الملائكة وتفصيل موتها لـ يمهد للقارئ ما يرد أن يصل إليه ” لم تكن ملاكاً ولكنها تموت بالطريقة نفسها!”

معتز هذا المريض بعدم الرضا بالثابت وهوسه بالتخلّص من الملل المصاب به منذ صغره والمولع بالتجربة حد الشذوذ كما يقول” حتى نبرة الطفل سحبتُ بها أصحاب النزعات المائلة الغلامية، وجعلتهم يسردون لي الحكايات الخيالية التي يجذبونني بها نحو عوالم شذوذهم التي لم أكن أعرفها آنذاك، قبل أن أجرب، أنا الذي لا تفوتني التجارب.”

ويؤكد ذلك جهراً ” أن الركود فرصة ٌ للعفن، لا يمكن أن أتعفن!”

وساعده على ذلك وفاة والده الذي ترك له ميراث ” آلت إلي كل أموال أبي بالطبع . لم تكن كثيرة ، ولكنها تكفي لأجهز بها معركة كبيرة ضد الرتابة،”

تعرّف معتز على صوفيا من خلال النت ثم تواصلا هاتفياً وحين أيقنت صوفيا من موتها بتأكيد الأطباء ذلك وأن لا مجال للقضاء على الخلايا السرطانية التي بدأت تقرض جسدها. كتبت أمنيات ورتبت لتحقيقها بعد أن استأجرت شقة مطلّة على البحر تصلح لطقوسها التي تنوي أن ترتكبها.. حضور معتز لبيروت أو لصوفيا ودخوله في هذه الورطة التي يكتشف أثرها لاحقاً جاء باتفاق ضمني بينهما على ارتكاب الخطيئة.

” قالت أيضاً بعد أن تأكدت من مجيئي:

_ أحتاج إلى جسمك شعرةً شعرةً. لا أبالي بالجارين العجوزين اللذين يتكلمان عن كل شيء، ولا بأهل البناية كلهم ، لا يبالي الموتى بثرثرة الأحياء يا حبيبي، لا تبالِ بهم أنت أيضاً. نحن المسيحيين لا نقذف النساء بالكلام، كما لا نقذفهم بالحجارة، ثم إني سأموت وأنت سترحل، ولتغرق الدنيا بعدنا في البحر!”
ويخاطب نفسه معتز وكأنه يوقع عقد الخطيئة الذي قبل بنوده جميعها..

” هذه المرة لا قيود، لا مصير ، لن أربّي أي طفل عاق في داخلي، كل شيءٍ سيخرج مثلما كانت حياتي من قبل، سيبقى الباب مفضياً إلى الشارع ، والنافذة مشرعة إلى الله، ولتكنسني مقشة الذنوب، وليغسلني ماء الإثم ، وليرتلني الصدى الغجري في فم صوفيا.”

وحين يدرك معتز ما وقع فيه ينتابه الكثير من الصراعات النفسية

” كنت قلقاً، ولا يواري قلقي إلا إثارة دخولي الأول إلى الشقة، ولكن لماذا أنا قلق؟ لم أفسر شكل قلقي بدقة آنذاك ، ولكن فعلت ُ مؤخراً. بعد شهرين فهمتُ أن الأمر كان مبرراً جداً، لم أكن أدخل شقة كنتُ أدخل ضريحاً.”

لم يكن معتز يجد صوفيا شيئا فاتناً للدرجة التي تغويه بل كان يدرك تماماً أن هناك من هي أحق بالخطيئة منها ..
” كنت منزعجاً من رائحة فمها الجاف، وأحاول أن أبيعها مواساتي بشكل لا يخفي ضجري جيداً، ولكني أعرف أن وعيها واهنٌ أيضا بعد الخدر، مثل جسمها تماماً.”
بالفعل هذا ما فعله معتز خلال تسع أيام غادر فيها شقة صوفيا ليقتل الملل والرتابة التي بدأت تسيطر عليه .. لكنه عاد لها مشفقا وفي داخله يكتشف أن هناك حب شفقة فعلا لذا فإنه يستمر في العلاقة مبررا

“إن صوفيا مرهقةٌ جداً، وأنا كذلك، ومن ذا يمنع لقاء المرهقين؟! شيء هنا جذبني نحو مزج التعب بالتعب.إن الخمور إذا مُزجت ببعضها تصبح أشد فعالية، والتعب خمر الله في الدنيا، يصبّه في كؤوسنا، وكلنا نسكر به برتابة! لماذا لا أجرب مزج تعبين إنسانيين، ربما يتغير شكل السُّكر الذي طالما مللنا منه!”

معتز كان قد طلق زوجته بعد ثلاث سنوات قتل زواجهما الممل كـ دائما وفي التفاتة جميلة من الكاتب أن يوظف ذلك في مشهد معتاد من المجتمع تجاه المطلقة..

” لم أشعر بأني أذنبت فإذا لم أعد أشعر بها في حياتي فليس الذنب أن أطلقها، بل الذنب أن أُبقيها معي! وإذا كان المجتمع يجعل من طلاقها دائماً سلاحاً ذا حد واحد،يؤذيها ولا يؤذيني، فليس خطئي! وليس عليّ أن أتحمل ذنوباً لم أبنِ أهرامها، ولم أضع قوانينها السوداء. إن مشكلتها هي مع المجتمع الذي يجعل منها كمطلقة منديلاً غير قابل لإعادة الاستخدام، ليست مشكلتها معي أنا الذي اهترأ قلبي من دقاتها الرتيبة!”

أيضا كانت له التفاته جريئة حين عاد لبيروت للمرة الأخيرة وسكن بالقرب من شقة صوفيا..

” المدينة تدير لي ظهرها، وأنا لا أحتمل معاملة كهذه! ربما هي تأخذني بجريرة أبناء بلدي هذه الأيام، عندما يفتح بعضهم باب غطرسته على مصراعيه ليذكّر أبناء المكان بأنهم بحاجة إليه، وإلى إنفاقه السياحي الضروري، وأنا أطالب بهوية ليست لي. ربما لم يكن هذا يوماً مناسباً للكلام مع بيروت، وإنها أنثى صعبة أحياناً!”

يتكلم عن أبناء وطنه وسلبية الصورة المنتشرة سواء داخل الوطن العربي أو خارجها .. أجد أنها كانت جرأة ومن يجرؤ يفوز كما يقول باولو . كما يسلط الكاتب الضوء على مدينة بيروت ويقف كثيرا على الوضع السياسي في هذا البلد يخلص منه بنتيجة واضحة..

“ونحن دائما الأمة التي تختار أجمل مدنها، لتقدمها قرباناً للسياسة!”

تتدحرج الأحداث في الرواية ولابد بوجود شخص كـ صوفيا ومعتز أن تصل هذه الدحرجة لله وعلاقتهما معه برغم اختلاف الايديلوجيات بين إسلام معتز ومسيحيّة صوفيا..

“وصوفيا تختلف عندما تقول ” بنكون زي ما بنكون” ولا شيء أكثر جلاءً من أيامها الفانية هذه، فكرتُ كيف أخلت مسؤوليتها أمام إلهها بعبارة واحدة ثم نامت فوقي ! كأنها تخاطبه بلغتي..

أنت الذي صنعت هذا الطوق الممل يا الله، وأنت الذي تركته ينكسر، وأنت الذي أردت لها أن تموت ، وجلبتني إليها بأقدارٍ أخرى! أنت الذي صنعت الموقف، وأضجعت الجسدين متجاورين في الهزيع الأخير من بيروت..

أنت خلقتني، وخلقت صوفيا..”

وأمام التساؤلات الموجهة نحو القدرة الإلهية كنتُ أنسحبُ دائماً.لقد أدركت منذ طفولتي أن الله صامت، صامتُ جداً، وكنت أمام خيار أن أجعله ضمن الصامتين الذين أبغضهم، أو أن أتخيل له طريقة مختلفة في الكلام . وهذا الخيار الأخير كان محرضاُ جداً،أن تصبح كل الأحداث التي تحدث أمامي كلمات إلهية، أنا أشعر بها، أسمعها جيداً لأنها حدثت. الله لا يصمت أبداً ، لكنه لا يتكلم ولا يجيب بالطريقة المعتادة. إن الله عظيم إذاً لأنه غير رتيب، هذا يتفق معي جدا، وأنا أحبه لذلك.”

يجد معتز الحب حالة يصعب تحديدها في علاقته مع صوفيا التي تحب كشخص يدرك أن لم يتبقى من عمره لذا لا يمكن أن يشبه عطائه أحد يجد الحياة أمامه…

” الحب ثمرةٌ يجب أن تؤكل في وقتها، تؤكل كاملة، مرة واحدة، وفي وقتٍ محدد، أو تفسد! الثمار لا تُخزن في خزائن العمر، ولا يقول أحدهم إنها ستصير خمراً. إن الخمر شيء لا تخلفه إلا ألف ثمرةٍ ميتة أصلاً! إننا مهما خرجنا من الحب كهولاً حكماء،فإننا لا نعود إليه مرةً أخرى إلا أطفالاً مغرورين، فكل حبٍ طفولة موقتة، ولكل حبٍ أجل!.”

تحتضر صوفيا بأشكال مختلف في نظر معتز..

” ثمة امرأة يخرّب السرطان دمها كله! وعندها شهادة بالموت خلال أسابيع، وهي تنام في الغرفة، وأنا أنكش الليل كله هنا، لأني أشعر بالملل، ليس إلا!”

وتموت كما لا تريد أن تكون طقوسها في المستشفى ودن أن يشعر بها أحد، تبقى الذكرى تصاحب معتز كـ لعنة الأيام وحدها كفيلة بإبطال مفعولها..

“توقيعها لا يزال مرتبكاً فوق هضبة صدري ودقات الذاكرة قاسية جداً. إنه قدر محكم، أستطيع أن أناقشه خمسة آلاف من مرة دون أن يبلى. أستطيع أن أتكلمه ولا أسكت، وأفكر فيه ولا أغفو، وأركض به ولا أتعب،وأكتبه في أوراق ذكرياتي ولا أضيع التواريخ بالضرورة لأنها ثابتة! حتى التفاصيل الصغيرة كانت حاسمة مثل التفاصيل الكبيرة، كل شيء لعب دوره بحذق كبير، وأستطاع أن يبعثرني تماماً حتى آخر يوم!.”

تنتهي الرواية كما بدأت بـ الملل الذي كان وما يزال يشعر به معتز.

رواية وجدانية من الطراز الأول تسكنك حتماً.