arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

منتديات عناقيد الأدب

صوفيا، إلغاء الثنائيات

د. أسد محمد

كاتب وروائي سوري

الرواية هي ممسرحة ما يدور في العقل الفيضي (الخيال) أو العقل الثالث، والكشف من خلال مادية الواقع عن هذا الفضاء المُنتج للأدب عموما وللرواية خصوصا كشكل إبداعي، متحول، متعايش، له فضاء معرفي يمتزج فيها الحسي – بالغريزي – بالخيالي، وهذا المزج تعبر عنه الرواية كصنف إبداعي له وظيفتان:
– الكشف عن الفاعل الذي جاء منه.
– علاقة بالواقع.

والربط بينهما، فالكتابة هي مادة الخيال التي تثبت نفسها بالكلمات التي تبدو وكأنه كتلة ما يعكسه الخيال ونرى به فضاءات محطة لنصل إلى فهم، خصائص الخيال، ومحاكاته للواقع، وسماته، والرواية المنُتج عن عقل مختلف ليس هو بعقل حسي وليس بعقل غريزي، تعطينا إشارات شبه واضحة حول الجين الذي جاءت منه، فكما المولود يعطينا صفات وراثية عن الأبوين، فأم الرواية الخيال، وأبوها الواقع، وهذا التزاوج أنجد إبداعا يتسم بأنه : متعدد الأصوات، متعدد مستويات الفعل، متعدد مستويات الفاعلية، متعدد الوظائف على عكس الشعر مثلا الأحادي في كل ذلك، ومن هنا لم يتوقف الخيال عن إبداع أشكال إبداعية- معرفية أخرى مثل التلفاز، الانترنيت، وغيرها من وصائل الاتصال التي تقوم في جوهرها على بنية أساسية ( إنتاج أكثر واستهلاك أقل للطبيعة وللمجتمع وللبيئة ) وهذه الصيغة لا تبتعد عنها الرواية التي توظف منذ صدور رواية دون كيخوته في القرون الوسطى والتي نطقت آنذاك باسم المجتمع وقالت : لقد انتهى عصر الفرسان وبدأ عصر البارود، أو انتهى الإقطاع وبدأ عصر الآلة، ثم ظهور روايات الخيال العلمي على يد الفرنسي جول فيرن 1828 والانكليزي هربرت جورج ويلز 1866، التي كانت ناطقة بلسان حال المجتمع وما اعتراه من تغيرات عميقة في تطوره نحو صناعة الآلة وآثارها على التحولات الجارية، وأعطى وظائف ثانوية أخرى للرواية غير التسلية والمواجهة واكتشاف المستور، والمسكوت عنه، وفق هذه الرؤيا، يمكن النظر إلى الواقع الخليجي عموما والسعودي خصوصا من بوابة ما يقدمه أدب هذه البيئة العربية، لفهم الواقع الاجتماعي الذي لا يختلف وظيفيا عن أي مجتمع في العالم، لكنه مختلف من حيث التوجهات في بناه السلطوية ( الدينية والسياسية والثقافية ..) والأدب هو إحدى الأدوات لفك التداخل الاجتماعي في السعودية، عبر سلسلة من روايات وإن كانت قليلة، فهي تؤسس بالفعل لخارطة وتضاريس وبنى غير مرئية تمكننا من فهم ما يدور في القاع الاجتماعي الخليجي، ومن هذه الروايات رواية صوفيا لمحمد حسن علوان، التي تفاعل فيها الشخصية مع جملة من ظروف : الطفرة النفطية، الجانب الديني، الوضع النفسي، العلقة مع الآخر، القلق، الانتماء، وظهرت كأنها جملة من ثنائيات :
الموت – الحياة
– الذكر – الأنثى
– الملل- الفاعلية
– المسيحي – المسلم
– الرياض – بيروت
– معتز – صوفيا

هذه الثنائيات التي بدأت تتشظى في عصرنا الحالي وتكشف عن فهم خاطئ سابق غير صحيح حول دور الثنائية في تطور المجتمع ( صراع الأضداد )، والرواية هي جواب على التعددية هي الحقيقة ضمن صيغة داخل – داخل الكونية، فكرة الرواية، شاب سعودي يطلق زوجته التي لم تنجب له أولاد بعد ثلاث سنوات من ارتباطه بها، يعيش ملل، رهيب، يقع متصفحه على الانترنيت على عنوان فتاة، ويأخذ رقم هاتفها ويعلم أنها مصابة بالسرطان ظن أنها تمازحه، لكنه تأكد من حقيقة ما تقول، سافر إليها وأقام معها ما يقارب الشهرين والنصف، فتاة منكوبة، مات والدها في الحرب الأهلية على يد قناص، لا يوجد حولها أحد، تبدأ قصة حب معه، عذراء وتنهي عذريتها معه، وتحول مرضها إلى شيء ثانوي، وت تحول ملا تبقى من حياتها إلى سخرية من الحياة، وتستمتع كما لو أنها معافاة، يتركها معتز ثم يعود إليها، وتموت، معتز شخصية مضطربة، قلقة، ملولة، يبحث عن التغيير في كل شيء، ولا يشبعه التغيير، بينما صوفيا، مثقفة نشطة، تقارع ظروفها بقوة.

تناول الموت على هذا النحو، يحمل خلفية فلسفية، والموت ليس قضية بيولوجية يتمثل بموت جسد، وإنما بعث، أو جين الحياة الذي لا ينفك عن البقاء في توريث نفسه عبر سلسلة من انقسامات متجددة، يمثل أي منا واحدة منها، ويمثل من سيأتي واحد منها، والحياة التي تواجه الموت جعلته على مسافة بعيدة منها، وهو قيمة في الحياة تجدد نفسها فيكون ما نسمه الموت، الذي هو تجديد للحياة، والثنائية هنا تبدو وكأنها صراعية هيغلية – بمعنى الصراع شرط للتطور، والملل الذي عانى منه معتز لم يفض إلى شيء جوهري ووضعه سدا في وجه حياة – الفرد، وهذا الداء هو ليس شخصي بأي حال من الأحوال بقدر ما هو شواذ و ما يعتري الفرد ضمن اضطراب أساسه الخلل في شيفرات التشكل الاجتماعي الذي يتعرض لضربات السلطة بكل أشكالها وما ينتج عنها بجعل الفرد خاضعا لسلوكيات غير السلوكية التي فطر عليها، فالملل الذي حمله من الرياض لم تشفيه منه الأنثى صوفيا ولا بيروت، بل هو داء مكتسب، والحقيقة كذلك، ولا بد من العودة إلى الجذر الاجتماعي في التشخيص للمنتج الإبداعي – الاجتماعي، المجتمع خلال تطوره تعرض ويتعرض لسلسلة من أزمات نتيجة محاولة السلطة الاستحواذ على مكونه، فينتج عن ذلك مجوعة ردود أفعال اجتماعية مقاومة تتجلى على شكل تحد وإفراط في التحدي لا يمكن للخاص أن يكون عاما، والفرد مضادا للمجتمع، لكن في سياق إفرازات السلطة السياسة والدينية الممنوع الكلام عنها بشكل مباشر، فإن الأدب هو كاشف عن المدى المنظور والخفي في البنية الاجتماعية – الإبداعية وثنائية الرواية، التي جاءت ضمن نسق فكري مضلل، اسمه صراع الأضداد لفهم قانون الحياة، فالحب ليس ضد الكراهية، وليس المرض ضد الجسد، وليس الموت ضد الحياة، وليت الأنثى ضد الذكر، وليس المكان في ضد، وإنما كل كيان من هذه الكيانات هو أحادي بذاته ولذاته له نسقه مع الآخر، الموت للموت، وجزئية قائمة بذاتها، هو يحيا بالحياة نفسها، والمرض يدلل على نفسه أو مكون شرط وجود الجسد، وليس الجسد شرط لوجود المرض، بمعنى أن مفهوم التضاد هو مفهوم مختلق، ولم يقصد الكاتب محمد حسن علوان طرح هذه الفكرة من قبيل فلسفة خاصة بالتثنية كما فهمت، لكن التأويل المبدئي يوحي باعتراض ضمني على جدلية الصحة والحياة وأحال تحدي صوفيا لمرضها من خلال شاب ظهر وكأنه غريب عنها دينيا و بيئيا، وهو في الحقيقة تمرد على قيمه وتركها، لكن أخلاقه أرغمته على العودة إليها، وهذه العودة جعلت للرواية أفقا أرحب.

إضافة لدور التقنية الجديدة – الانترنيت – التي أنتجها المجتمع كما أنتج الرواية، وله سمات اجتماعية: تعددية، تواصل، تفاعل، تعايش، جعل نقيضين منتجين من قبل السلطة، متعايشين، متواصلين، متحابين، و ووضوح الصيغة الاجتماعية : داخل – داخل، بحيث الآخر الذي هو متباين على أنه طرف اجتماعي ضمن فضاء يتحمل التعددية كصيغة حياة وبديل عما هو سائد ومبرمج من خلال وصايات شتى ومركزيات عديدة بدأت تنهار.