arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة القدس العربي

تسريد العرفان بين روايتي «جبل قاف» و«موت صغير» :

صورة محيي الدين بن عربي في الرواية

عبدالإله البريكي

باحث مغربي

يكاد يكون محيي الدين بن عربي من أبرز الشخصيات الصوفية التي حظيت باهتمام الروائيين، نظراً لغزارة إنتاجه الفكري، واختلاف الآراء حوله بين منكر ومؤيد. كما أنه صاحب أكبر موسوعة صوفية نثر فيها آراءه الصوفية، وهو ما جعل إغراء الكتابة في سيرته أكثر جاذبية.

أصدر الروائي المغربي عبد الإله بن عرفة رواية «جبل قاف» سنة 2002، وهي رواية يتتبع فيها الروائي سيرة محيي الدين بن عربي، من خلال معراجه الروحي، وترقّيه في سلم الولاية من مقام النور، فمقام القربة، إلى ختمية الولاية في الغرب الإسلامي، بلد الأسرار، ليحمل معارفه، بعد ذلك، إلى بلاد الشرق، بلد الأنوار. بينما صدرت رواية «موت صغير» لمحمد حسن علوان بعد حوالي أربع عشرة سنة من صدور رواية ابن عرفة، لتقتفي أثر الأولى، مع انزياح عن السيرة العرفانية للشيخ الأكبر، لتخلق خريطة عرفانية مختلفة يرحل خلالها من الأندلس إلى الشرق بحثا عن الأوتاد الأربعة لتثبيت قلبه على الولاية.

من الدائرة الوجودية إلى الدائرة السردية:

يرى ابن عربي الوجود بنية دائرية ذات مركز محيط، يقول: أعلم أن العالم لما كان كرويّ الشكل لهذا حن الإنسان في نهايته إلى بدايته، فكان خروجنا من العدم إلى الوجود به سبحانه وإليه نرجع كما قال عز وجل: «وإليه يرجع الأمر كله». وهو تصور يجعل البداية تلتقي مع النهاية والوجود بالعدم، لأنه إن لم يكن الأمر كذلك لكانت الموجودات إذا خرجت من عنده خطا مستقيما لم ترجع إليه. ولكنها لا محالة راجعة إليه مصداقا لقوله تعالى: «وإليه ترجعون».
وقد استثمرت الروايتان هذا التصور الدائري للوجود فنيا، من خلال اعتماد النسق السردي الدائري. ففي رواية «جبل قاف» ينفتح السرد على نقطة من الدائرة الوجودية الكبرى التي تستغرق موت عارف وميلاد آخر. وهذا ما تم استثماره أيضا في رواية «موت صغير» عندما تم تخصيص الدائرة على حياة الشيخ الأكبر.
غير أن بوصلة العرفان في رواية «جبل قاف» تتجه صوب البحث عن المعرفة، بينما تتجه بوصلة العرفان في رواية «موت صغير» صوب البحث عن الذات. يتضح ذلك من خلال العتبات الأولى للنصين. ففي رواية «جبل قاف» تتكون الأيقونة من دائرة تحوي ألوانا متعددة موضوع فوقها مربع ذو إطار أخضر رسمت بداخله دائرة تضم بعض أسماء الله الحسنى كل واحدة في ارتباط ببرج محمد، وتتمركز داخل الدائرة دوائر حلزونية متقطعة على شكل متاهة، وفي وسط هذه الدوائر يوجد حرف القاف بنقطة واحدة خضراء. ويحيط بالدائرة من جهاتها الأربع اسم الجلالة «الله» كتبت بخط مغاير بارز. بينما تشير الأيقونة في رواية «موت صغير» إلى صورة شخص في لحظة تأمل ينظر بعين إلى الأعلى وبعينه الأخرى إلى الداخل، في إشارة إلى عين البصر التي تنظر إلى الشريعة وعين البصيرة التي تنشد الحقيقة، مع ما تشير إليه دلالة اللون الأزرق، وهو من الألوان الباردة، إلى دلالات الفناء.
وهكذا يتضح أن الخطاب في الروايتين يتجه نحو إماطة اللثام عن الوجود المحتجب الذي يختفي وراء كثافة الحس، مستندا في ذلك إلى مفهوم الخيال، كما طرحه الشيخ الأكبر باعتباره حضرة برزخية فاصلة بين عالم الغيب والشهادة.

معالم التخييل العرفاني

تقتطع الروايتان مادتهما من تاريخ الموحدين في الغرب الإسلامي والأيوبيين في الشرق والسلاجقة. غير أن التخييل في رواية «جبل قاف» ينحو نحو استثمار السيرة العرفانية للشيخ الأكبر، من خلال ملاحقة ترقيها الروحي من مقام التخلية إلى مقام التحلية، وصولا إلى قمة جبل قاف (جبل المعارف)، مراعيا في ذلك المطابقة بين محطات تحصيل المعارف اللدنية واستثمار الأسرار العلوية مع السيرة العرفانية للشيخ الأكبر في البناء الفني، مع ملء البياضات التاريخية بكتابة نورانية تعطي للأحوال والمواجيد والأذواق إمكانية الامتداد والسريان على الذوات القارئة، والتماهي مع السيرة العرفانية عبر الدفع بها إلى أقصى احتمالاتها التخييلية الممكنة.
بينما تعمل رواية «موت صغير» على خرق السيرة العرفانية للشيخ الأكبر، وإقامة تخييل روائي جديد على أنقاضها من منظور روائي، يعيد استثمار التواريخ والأحداث وفق نظام مغاير، يذكر بالمرجع الخارج نصي ويتجاوزه في الوقت نفسه. يتخطى التاريخ الأصلي لاستنبات معنى يحاكم الأيوبيين الذين شجعوا التصوف ردا على المتشيعة، لا عن حب واقتناع، كما فعل السلاجقة الأتراك. وهو ما يجعل الصوت الأيديولوجي للرواية ناطقا بإدانة واضحة للأفكار السطحية التي توجه الحكام الموحدين في تعاملهم مع الصوفية،وللظاهرية الدينية التي تسيطر على قضاة الأيوبيين وحكامهم الذين تعرض السارد في عهدهم للسجن والتجويع حتى مات فقيرا مهملا.

في «جبل قاف»: من مقام إلى مقام

غير أن تسريد العرفان جعل تطور الأحداث يتخذ مسارين مختلفين: فـ»ابن العربي» في «جبل قاف» من خلال بحثه عن الحقيقة الوجودية، يتوخى تجاوز زيف الوسائط التي تعمل على نقلها، وفي مقدمتها اللغة. وذلك من خلال استدعاء دلالاتها الوجودية في حضرة الخيال العرفاني، فهي ليست مجرد أبجديات تداولية فقط، وإنما هي أبجدية سالكة تتناسل من طاقتها الروحية كل عناصر الحكاية والخطاب.
إن ابن العربي العارف بأسرار الحروف النورانية المثقل بالمعارف الذوقية التي حصلها في خلواته في المقابر، ومن تلمذته على شيوخه وصولا إلى قمة جبل قاف، ينتقل بمعارفه من بلاد المغرب إلى المشرق. كانت بداية الطريق الصوفي للسارد إثر نصيحة الشيخ أبي العباس العربي، إلا أن الإرهاصات الأولى لبداية تبين معالم الطريق، كانت مع شيخ قبله، وإن كانت الإشارات إليه عابرة، وهو الشيخ أبو عبد الله الخياط. ثم يظهر شيخ آخر هو أبو يعقوب يوسف الكومي، يسلك بالسارد طريق المجاهدة، وهكذا يمكن تسطير مسار لتحصيل المعرفة، يمتد من توجيه الشيخ أبي يعقوب إلى الفتح الذي واجه به الفيلسوف أبا الوليد بن رشد. وهذا الكشف هو الذي سيمكن السارد أيضا من الوقوف على قمة جبل المعارف، «جبل قاف». حيث يجد الخضر في انتظاره ليقول له: «اسمع يا محمد. سيكون لك شأن عظيم. فجل في هذا الجبل وهذه الخزانة وكن كما هي بحرا مملوءا بالعلوم والأسرار. تحقق بما فيها واحملها في صدرك لا في أوقارك تكن قرآنا يمشي على وجه الأرض، كما هو شأن أخي أكمل الكمل محمد صلى الله عليه وسلم ثم ألبسني الخرقة وتركني واختفى» (جبل قاف). عند ذلك يقرر السارد أن يقوم برحلة جغرافية مشفوعة برحلة روحية تبدأ من السياحة في الأندلس مرورا بشمال إفريقيا إلى بلاد المشرق. ويمكننا حصر المحفزات الحكائية للسفر الجغرافي في عاملين أساسيين: عامل اجتماعي؛ ويتجلى في الخشية من أن تتحول شهرة السارد إلى عامل استقطاب جماعي للناس. فيصاب بالغرور وهو أقصى ما يمكن أن يزعزع كيان التجربة الصوفية. لذا يحاول الصوفي أن يسافر فرارا من نفسه إمعانا في تغريبها. وعامل سياسي؛ يتجلى في الأحداث المضطربة التي كانت تعرفها بلاد الأندلس، في ذلك العصر، من صراع بين الموحدين والمسيحيين، لعل أبرزها هزيمة الموحدين في معركة العقاب، التي على إثرها قرر الرحيل إلى المشرق. وتبدأ الرحلة الروحية للسارد في الجزيرة الخضراء، ويذكر أن هذه الجزيرة هي التي بنى فيها الخضر مع موسى جدار اليتيمين. ثم يحدثنا السارد عن سفر روحي آخر حصل له في تونس.
في هذه المدينة يقف السارد على حقيقة وراثة ختميته، يقول: «وقد وقفت هناك على حقيقة وراثتي فعلمت ختميتي المحمدية حين أشهدت ختمية عيسى للولاية العامة، رجعت من هذا السفر وأنا لم أبرح مكاني في فاس مدينة نفس الرحمن».
لقد تحقق السارد عبر هذه الأسفار الروحية من مقام ختم الولاية، ما حدا به إلى حمل علومه إلى بلاد المشرق، وكتابة ما فتح الله عليه به من معارف، يقول: «فكان عليّ أن أضع محمول هذه المعارف عني وأخرج به إلى الناس هكذا بدأت قصتي مع الكتابة، أو لنقل مع الوجود المكتوب».

في «موت صغير»: حكاية الأوتاد بوصفها حافزا للبحث

أما رواية «موت صغير» فإن بنية الرواية تتطور من خلال حافز أساسي وهو البحث عن الأوتاد التي تثبت قلب السارد، وتتخذ السياحة طابعا معكوسا في علاقتها بالمرجعية الواقعية؛ لأن السارد لا يحمل العلوم والأسرار من المغرب إلى المشرق، بل على العكس من ذلك فهو يبحث عنها في المشرق. تخبر فاطمة بنت المثنى ابن عربي، بعد الخروج من مرسية، أن وتده الأول ينتظره في إشبيلية، وما عليه إلا أن يطهر قلبه لكي يتعرف عليه. ولكن ابن عربي ينغمس في الغفلة مما يبطئ ظهور وتده الأول، فيذهب إلى فاطمة بنت المثنى ليستفسرها عن سبب ذلك، رغم أنه طهّر قلبه، وحمله على مكارم الأخلاق، وصفاء السريرة، وحسن النية، حتى صار رافضا كل صورة غير ذلك. فتخبره أن قلبه لن يكون طاهرا بما فيه الكفاية حتى يُصيّره قابلا لكل صورة. فما كان منه إلا أن دخل في خلوة في المقابر، وانقطع للذكر إلى أن التحق به الكومي في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأخبره بأنه وتده الأول، وأن وتده الثاني موجود في مراكش.
ثم يسافر إلى مراكش، وينغمس في غفلة أخرى، وهي الإساءة إلى أهل الله من خلال الحديث عنهم مع من لا يملك ذوقا ولا حالا. وهو ما سبب، عن غير قصد، في استقدام الخليفة لأبي مدين الغوث إلى مراكش في سن لا تسمح له بالسفر، فيموت في الطريق. وهو ما أجّل ظهور الوتد الثاني، ما اضطره للعودة ثانية إلى بيت فاطمة بنت المثنى، بعدما ماتت، والنوم على عتبة بيتها، ليرى رؤيا تخبره بضرورة السفر مع رجل في مراكش إلى مكة، فيعود إلى مراكش بحثا عن ذلك الرجل ويعثر عليه، مما يخلق الوهم لدى المتلقي بأنه عثر على الوتد الثالث، لكن النص يماطل في الإجابة الصحيحة. يسافر ابن عربي مع أبي بكر الحصار إلى مصر ويلتقي بزميله القديم الخياط مشرفا على الموت، لكن الموت يختطف الحصار، ويبقي الخياط الذي يخبر ابن عربي بأن وتده الثاني قد مات، وأنه وريثه. وبما أن الوريث لا يستطيع الإخبار بمكان الوتد الثالت فإن السارد يستمر في رحلته إلى مكة. وهكذا يتولد الوهم ثانية بأن الحصار هو الوتد الثاني الذي مات وأوصى بخلافته للخياط. لكنه لن يتعرف على وتده الثاني إلا بعد المرور من تجربة السجن في القاهرة بعد مغادرة مكة ودمشق.
في مكة يتعرف ابن عربي على زاهر الأصفهاني وأخته فخر النساء وابنته نظام التي تعرّف عليها من خلال حضور دروس عمتها، فيهيم بها حبا، وهي الغفلة التي أوردته السجن في إشارة إلى تناص دلالي مع التجربة اليوسفية إلا بفارق مقامي، وهو أن يوسف عليه السلام اعتصم، بينما استرسل ابن عربي مع هواه، فحجب عنه معرفة وتده الثالث الذي لم يكن سوى نظام التي تخبره بمكان وتده الأخير في ملطية، حيث سيتعرف على شمس التبريزي الذي تكتمل به تجربته الروحية بالحب الذي يجعل جميع البشر مرتبطين بسلسلة من القلوب. بعد اكتمال التجربة الصوفية يتعرض ابن عربي لمحنة إنكار العوام، والفقهاء، والقاضي زكي الزكي، ووقف عطاء الحاكم من جراء كثرة الشكاوى، ليقضي آخر أيامه فقيرا معوزا يشتغل في أحد البساتين. ثم يموت وحيدا.

تسريد العرفان

هكذا يتضح أن السرد يتخذ مسارين مختلفين في كلّ من الروايتين؛ فابن العربي في «جبل قاف» يستكمل ترقّيه الروحي في المغرب لينتقل بمعارفه إلى الشرق، بينما يظل ابن عربي في «موت صغير» في مقام التلوين حتى يلتقي بوتده الرابع شمس التبريزي لتترسخ قدمه في الولاية، وينتقل إلى مقام التمكين. وهو ما يجعل الروايتين تشتغلان وفق منطق مختلف للحالات والتحولات، ذلك أن الفعل السردي الذي يعد سندا للحدث، حسب بعض المنظرين، لا يمكن أن يُستوعب إلا داخل إطار زمني يتتبع تغير وضع الشخصيات وعوالمها الدلالية المحينة والضمنية.
إن التجربة العرفانية المحتفى بها في «موت صغير» هي تجربة السالك الذي يبحث عن اكتمال ترقيه الروحي الذي لا يمكن أن يحققه إلا قلة معدودة من العارفين؛ وهم الأوتاد الأربعة التي يحفظ الله بهم جهات العالم. لذلك فكل فعل سردي ينم عن اكتمال التجربة قبل زمن تحققها هو خرق لمنطق الحالات والتحولات المرتبطة بالصيرورة الزمنية، من قبيل القول بختمية الولاية قبل الالتقاء بالوتد الثالث، كما ورد في الرواية أثناء الحوار الذي دار بين السارد وبعض المنكرين لولايته.
ذلك أن الكشف حسب أهل التصوف من ثمرات المجاهدة والذكر والخلوة، لا نتيجة الغفلة والمعصية. كما أن إحجام السارد عن الإجابة عن قضايا صوفية مهمة أمام قاضي القضاة بعد اكتمال تجربته العرفانية، من قبيل إيمان فرعون، ووحدة الوجود، كما ورد في الرواية على شكل اعتراض من طرف القاضي من خلال قوله: «كلام بعض الصوفية عسير الهضم على معدة العامة. كيف يمكن أن يفهم العامة أن فرعون مؤمن؟ كيف يفهمون أن الله والوجود واحد؟ كيف يفهمون أن الألوهية تسري في جميع المعبودات حتى الأوثان؟». يقول السارد: «تنفست قليلا لأهدأ قبل أن أجيب ثم قررت ألا أجيب. قمت وأنا أقول: صدقت يا قاضينا. سأفكر في كلامك». إن إحجام السارد عن الإجابة عن هذه الأسئلة بعد رسوخ قدمه في الولاية يسمح بإسقاط تعميمات خاطئة حول التصوف، وهو أمر لم تقف منه رواية «جبل قاف» موقف الحياد.
فابن العربي المستكمل لولايته بعد سلسلة من الخلوات يعرف مهمته «فمن كاتب في ديوان الموحدين إلى كاتب لعلوم النبوة وخاتم للولاية المحمدية ورأس الأفراد في ديوان الأولياء. تلك هي مهمتي إذن. ويا لها من مهمة..».
ومن هذه المهمة تسريد ما أشكل على العامة من قبيل إيمان فرعون، كما تم تسريد ما أشكل عليهم من قضية وحدة الوجود من خلال الحوار الذي دار بين بدر الحبشي وابن العربي.
وإجمالاً، يمكن القول إن الروايتين قد نجحتا في فتح آفاق تخييلية تتقاطع فيها أسئلة الكينونة في هواجسها الميتافيزيقية، متلبسة بقضايا الهوية والتأصيل وترجيح النظرة الأخلاقية للإنسان والجماعة. مع تسجيل فضل السبق لرواية «جبل قاف» في اقتحام هذا العالم الممتع، والسفر في الأسماء الإلهية، والغور وراء أسرار الأعداد والحروف والكلمات من أجل الوقوف على دلالاتها الباطنية.