arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الوطن السعودية

شعرية اللغة الروائية المفعمة بأصداء الروح

فيصل الجهني

ناقد سعودي

تؤول رواية سقف الكفاية لمحمد حسن علوان إلى نسيج متداخل من العلاقات الإنسانية والمشاعر الداخلية التي ترسخ معالم الفضاء الرومانسي بكل ما يزخر به من (فيض تلقائي لمشاعر قوية) كما كان يصف ورد زورث ذلك النوع من الأدب. فضاء الرواية مفعم بالتكوينات الشعورية الثرية، في اللحظة ذاتها التي لم يهتم بها ذلك النص بالتشكلات السردية التي تجعل من نصوص معنية أعمالا روائية متجاورة في فضاءات السرد الفني.

السرد لدى محمد حسن علوان في روايته (الأولى) كان وسيلته الأكثر أماناً للتعبير عن ذلك الانقلاب الشعوري الوجداني للشخصية المتأزمة في علاقتها بذاتها وإنسانها الآخر وعالمها كله. وأداء هذه الوظيفة الانفعالية التعبيرية التي قررها الكاتب منذ البدء كان ينسجم مع ذلك (الأسلوب المشهدي) الذي اختاره الكاتب، والذي يتحد فيه صوت السارد مع صوت الشخصية الرئيسة في العمل والتي تمثل زاوية الرؤيا وجهة التبئير (كما يقال)، ليُهيمن في بنية الرواية صوت السارد/ ناصر، مع بقاء أصوات الشخصيات الأخرى في العمل (مها، ديار، مس تنغل، أروى..) محكومة بمنطق هذا السارد/ الشخصية، لتتسم هذه البنية السردية بطابع التماسك والانسجام، فتترابط كل حلقات الحكاية بعلاقات داخلية لها منطق واحد ؛ منسجم وخاص.

ولذلك فإن المنظور الذي يصدر عنه العمل هو المنظور النفسي، لأن الأحداث والشخصيات تُقدم من منظور ذاتي دائما، أي من خلال إدراك شخصية ناصر الرئيسة في العمل، فكأن ذلك المنظور بمثابة الكاميرا المركبة على عين تلك الشخصية / السارد، والتي ننظر من خلال منظورها فنرى ما يدخل في مجال هذه العين، ويخفى عنا ما خرج من دائرة رؤية هذا الشخص بعينه.

(سقف الكفاية) بوح وجداني شعري كُتب كمعادل موضوعي لغياب الرمز الأنثوي/ مها مشتغلا لملء ذلك الفراغ الشعوري في داخل الذات الساردة على كثافة ملمحين بارزين تماما: المضمون العاطفي والشكل الشعري للغة الساردة. ولكن الكاتب في هذا العمل لا يكتفي بالمعطيات الرومانسية الخالصة كمنتج مضموني عاطفي لا يولي أدنى اهتمام باللغة التي يتوسل بها الرومانسيون عادة لإيصال الرسالة العاطفية فحسب، وإنما كان منهجه السردي يعتمد على تآزر ذلك البوح الانفعالي العاطفي مع تلك اللغة الشعرية الآسرة التي تعتمد على ما يسمى بـ (تراسل الحواس) واستثارتها دفعة واحدة بواسطة كافة المؤثرات الصوتية واللونية والحركية لمعالجة ذلك القمع النفسي الهائل في الذات الساردة.

أما الاشتغال التقني داخل منظومة (العمل السردي ذاتها، باحتراف، فلم يكن هدفا أو حتى طريقة لصياغة علاقة الكاتب بروايته، على الأقل في هذه التجربة السردية الأولى التي تحتاج -بحسب الكاتب- إلى إعمال الأداتين الأكثر فاعلية: البوح العاطفي المكثف (حدة الشعور) واللغة الشعرية في تمثلاتها المتنوعة (الاستعارة، الانحراف عن بنية النظام المعياري للغة العادية/ الواقعية، التكثيف الدلالي، الإيقاع، التناص مع أساليب لغوية رفيعة…).

ألا يمثل تفعيل هاتين الأداتين بكل جدارة/ وفاء للذات الغائبة المخاطبة في النص أكثر من أن يكون وفاء لآليات (العمل السردي) عالي الجودة بتشكلاته المعقدة المختلفة بأعلى مستوى أساليب السرد المتنوعة وتعقيد الزمن وانفتاحه على أزمان شتى والتعددية على كافة المستويات: صنع السرد وزوايا الرؤيا ورسم الشخصية والمكان؟

ولذلك فإننا نجد أن ذلك الهاجس في ذاكرة الكاتب والذي يجعل من حضور النص بديلا معادلا أو قيمة تُهدى – لغياب الذات المخاطبة، أضفى على الرواية طابعها الخاص المعتمد على تكريس هذه الثنائية (السارد/ والذات الأنثوية الغائبة) على غاية السرد وتيمته (الأكيدة) لدى الكاتب: (المضمون العاطفي الانفعالي في مقابل الصياغة اللغوية الشعرية للخطاب)، ثم على كافة مستويات الخطاب السردي، فنجد أن الزمن في الرواية يتشكل من ثنائيتين زمنيتين دائما: (الزمن الماضي الذي عاشه ناصر من خلال طفولته وفترة شبابه الأولى ثم زمن علاقته العاطفية بمها -وهو الزمن الغالب على ماضي السارد- ثم زمن إقامته في فانكوفر، في مقابل الزمن الحاضر الذي يعيشه السارد وهو يكتب أحداث ذلك الزمن الماضي بعد عودته للرياض من جديد).

وينطبق الحال ذاته على الصيغة التي تمثَل فيها السرد؛ فالكاتب وهو يعتمد على سارد ضمير المتكلم مطلعا بكافة تفاصيل مشهده السردي نجده يمزج صوت ذلك السارد بمجموعة متجانسة الأصوات والرسائل لشخصيات ( أروى، مها، ديار، ميس تنغل..) أو مقاطع (كولاجية) (أغاني – قصائد- أفلام – مقاطع مجتزئة من داخل الفن الروائي: مستغانمي مثلاً)، لتستمر تلك الثنائية على امتداد كافة فصول الرواية احتفاء وتأكيدا للظاهرة الكونية الأكثر إيغالا وتأثيرا في ذهن السارد (أنا السارد الحاضر المتكلم وأنت الغائبة المخاطبة) وبعد فإن ثمة ملامح تقنية فنية أجزم أنها في الوعي الروائي لدى الكاتب ولكنه قدر اللحظة أن فضاءها يكمن في مواضع أخرى قادمة مع ذلك الطوفان العاطفي الآني الذي خلفته تجربة السارد مع أنثاه الغائبة: مها، وكان يمكن لتلك التقنيات – لو وجدت – أن ترتفع بالقيمة الفنية للعمل على مستوى الجنس الروائي: فالرواية تسير بشكل متناسق منسجم رتيب حتى إننا لم نلمس إلا هاتين الثنائيتين البسيطتين في كل علاقات السرد وأبنيته.

ثم إن الصوت الطاغي في الرواية هو صوت السارد فقط – ناصر حتى والكاتب يقدم لنا رسائل مها أو ديار أو أروى وأحاديثهم وحواراتهم، ليس ثمة تعددية على الإطلاق حتى في صوت تلك الشخصيات المتنوعة إذ إنها كلها تتآزر للإنشاد بصوت واحد!، ومن شأن هذه التعددية – الحوارية أن تمنح الأعمال الروائية تعقيدا فنيا وثراء سرديا منشودين دائماً. وعدم وجود تلك التعددية على هذا النحو يتناغم مع القارئ الذي ينشد الهدوء والاستمتاع الوجداني الجمالي، ولكنه لا يرضي قطعا القارئ الذي يحتاج إلى من يصدمه ويفاجئه ويخلخل علاقاته ومسلماته، ليس على مستوى الوجدان فحسب وإنما على مستوى الخطاب السردي والفن عامة.

ومع ذلك فإنني أكاد أزعم أن الرواية قد حققت (سقف الكفاية) تماما في ملمحين: المضمون العاطفي من خلال البث الهادر لما يشعر به (رجل تجاه امرأة). الرواية عندما تكتب بلغة شعرية فاتنة.

ولنا في المرة القادمة عودة للدخول في تفاصيل العمل وتجلياته.