arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

مجلة الفيصل

شعرية الخطاب السردي والراوي المتواتر

مقاربة نقدية لرواية سقف الكفاية: لمحمد حسن علوان

عبدالله السمطي

شاعر وناقد مصري - محرر ثقافي بجريدة الوطن السعودية

تنبسط شعرية الخطاب السردي حين تؤدى بفاعلية قصوى إلى الدلالات الداخلية للغة هذا الخطاب، بمعنى أن هذه اللغة تصبح أكثر اكتنازا وقابلية للتأويل، والكشف. وتضحى خصائصها أكثر طواعية للتساؤل، إذ إن اندماج هذه اللغة مع العناصر الشعرية سيفسح المجال حيال القارىء ليستبطن أكثر، وليعيد إنتاج الخطاب السردي بشكل أكثر دقة ورهافة.

وفي رواية الكاتب محمد حسن علوان الصادرة عن دار الفارابي ببيروت – الطبعة الأولى 2002م نحن إزاء شعرية سردية متميزة، مركوزة على جملة من العناصر التي يمكن تسميتها بالعناصر فوق السردية المزدحمة بالدلالات. إن السرد في هذه الرواية يتأدى عبر خاصتين جوهريتين:

الأولى: إنه يقوم بنقل أحداث الرواية، عبر أزمنتها المختلفة، ونقل ملامح الشخصيات وأحوالها.

الثانية: إنه يشير إلى ذاته، وإلى سماته الداخلية اللغوية.

مغزى ذلك أن الروائي لا يكتفي بأن يصبح السرد حاملا للأحداث، ناقلا لها، بل إنه يعطيه طاقة أخرى داخلية عبر اللغة هي الطاقة الشعرية.

ورواية:" سقف الكفاية" هي الرواية الأولى للكاتب، الذي هو شاعر أيضا، وهي رواية على طولها البالغ 404 صفحة، لم تصب بالترهل، أو بالسقوط في دوائر الاستطراد غير المبرر، بل إنها رواية متماسكة فنيا ودلاليا، وتنم عن موهبة روائية فذة تمسك بالخيوط وتحرك الأحداث والشخصيات والتقنيات بشكل طبيعي ، سهل ، ممتنع، وممتع ، وجديد شكله الانكسار والحصار من جهة، والانفتاح على العالم من جهة ثانية، كما تعبر الرواية عن حالة الانكسار العربي، وتنقل صورة الآخر الحضاري.

والرواية هي رواية عشق أولا وأخيرا، وعبر هذه التجربة يتم التحول إلى المحاور الأخرى التي تبقى مجذوبة نهاية الأمر إلى هذه التجربة، رهينة بها.

إن المؤلف يقوم بسرد تجربة " ناصر" الشاب الذي يعيش في الرياض، وعلاقته العاطفية ب" مها" التي تحيا في الرياض أيضا، وما يتولد عنها من وجدانيات، وأفعال، ومقابلات، ووصال وهجران. و" ناصر" نراه هائما في عشق " مها" طوال الرواية، حيث يتوجه الخطاب لها وكأنها حاضرة. إنه يهيم بها مدة العلاقة التي استمرت 14 شهرا، في إخلاص دائب منه، وفي وصف شاعري لكل شيء في هذه العلاقة، التي كتبت هذه الرواية من أجلها، حيث يقول السارد:" من أجل هذا أتذكر كل الأشياء الدقيقة، كل العادات الصغيرة، والكلمات العابرة، والرغبات الجائعة، والنظرات الشبقة، والضحكات العابثة، والقصص القصيرة، وكل ما دار بيننا منذ التقيتك حتى فقدتك، كل شيء من حبنا ما يزال منقوشا فوق جلدي، معلقا على حيطان الروح، ومعروضا في متحف الذاكرة" ص316

فالمؤلف على لسان السارد سجل كل شيء يتعلق ب"مها"، حتى إنه يترك المجال للتداعي السردي، حين يتحدث عن لقاء في مكتبة مثلا يدور الكلام على الكتب، وحين تصادف عيناه وضع " مها" للمكياج يتحدث عن الزينة وأدواتها، بل إن المؤلف على لسان السارد يتحدث عن وصف قبلة في 4 صفحات كاملة (136-139). بيد أن ذلك كله يتم في لغة شعرية رائقة وفاتنة لا تشعر القارىء بالرتابة، بل تأخذه إلى عوالم أخرى من التساؤل البسيط الذي يتحسس بالكلمات كل مواضع الأنوثة.

ويمكن أن نجمل هذه المحاور الدلالية للرواية في هذه النقاط:

أولا: محور الكتابة، في هذا المحور يتحدث السارد عن ماهية الكتابة، وكيفيتها، وهل هذه الكتابة ستفضي للتخلص من انكساراته العاطفية، وتخلي "مها" عنه بعد تجربة عاطفية حميمة استمرت 14 شهرا، فالكتابة محور رئيسي في الرواية، ولعل انتباهات السارد لهذا المحور وتساؤلاته يهيمن على قسط كبير من الرواية استمر من صفحاتها الأولى حتى الصفحات الأخيرة. ففي الصفحات العشرين الأولى من الرواية – على سبيل المثال – نجد المؤلف يكرر مفردة الكتابة بصيغ مختلفة في كل صفحة تقريبا ومنها هذه التعبيرات:" جلست أكتب أو اكمل ما بدأت كتابته في فانكوفر" و" جامحة هي الكتابة" و"بوح الكتابة بريء" و" كتابتي صعبة هذه الأيام" حتى يصل بنا إلى تساؤله الأثير على لسان السارد:" لماذا أكتب؟ هل هي حاجة في نفس يعقوب قضاها؟ هل هو مرض الكتاب المعتاد في فضح أنفسهم، وعادتهم الأزلية في كشف عوراتهم؟ أم أني أحاول فقط أن أطرد ما تبقى من حبك في هذا الدفتر الأخضر.. لعل حيزا من الذاكرة يخلو في رجل تملئينه حضورا وغيابا. أترى أحاول غسل ذاكرتي معك بهذه الرواية؟ " ص20.

إن محور الكتابة هاجس رئيسي في الرواية، التي تبدأ بوصف لشخصية " ناصر" وهو يسجل هذه الرواية بوصفها رصدا لوقائع علاقته العاطفية ب"مها" ولا ينتهي من كتابتها إلا في الصفحة الأخيرة من الرواية، وهو يسجل ويرصد يوجه الخطاب لمحبوبته التي تركته وتزوجت" سالم" الذي يسافر بها بعيدا في دولة نائية، ويستمر في كتابتها حتى بعد هجرته إلى كندا وإقامته في مدينة " فانكوفر". تصبح الدلالة هنا بمثابة " العلاج بالكتابة"، فالكتابة نوع من التحليل النفسي المنطوق أو المهموس لحالته العاطفية، التي لن تخمد إلا في السطور الأخيرة من الرواية، بعد عودته من فانكوفر " بعد شهر، كنت أجلس في المجلس الصغير الذي كتبت فيه الفصول الأخيرة، أكنس المكان وراء ذاكرتي بهدوء، عندما دخلت مها" . هنا نهاية الرواية، وليست نهاية الكتابة، فدخول مها هنا عنصر مفاجأة كبير باغت به السارد متلقي الرواية، وباغتنا به المؤلف، فإن هذا الدخول سيجعل مسألة الكتابة ممتدة، سواء بالإيهام: ماذا سيحدث حين يرى " ناصر" " مها" تدخل عليه، أو بانتظار جزء ثان من الرواية وهذا شأن المؤلف.

ثانيا: محور الذاكرة، السارد يتذكر، فهو حين يسجل وقائع تجربته العاطفية، إنما يسجل وقائع حدثت بالفعل، هنا يصبح إمكان التخيل مرتبطا بمدى الإيهامية التي يصنعها ذلك التذكر، بمعنى أن السارد يضيف أشياء لم تحدث حقيقة في واقع التجربة السردية، ومن هنا فإن هذه الإيهامية هي من صنع المؤلف ذاته،الذي يسعى لتجاوز فعل التذكر الضاغط، والهروب إلى الأمام بعيدا إلى التخيل، وهو ما صنعه المؤلف على لسان السارد في أحد المشاهد الأثيرة التي يتخيل فيها :" ناصر" أنه تزوج ب"مها" ، وجاء هذا المشهد وناصر في فانكوفر بكندا على هيئة حلم في الصفحتين 344، 345. ولعل استثمار هذا المحور من قبل المؤلف إنما يضعنا وجها لوجه مع آلية أثيرة في هذه الرواية وهي آلية "تيار الوعي" فالتذكر، والحلم، وانسراب الوعي واندياحه عبر الكلمات، والهذيان، والتداعي كلها أمور بارزة في هذه الرواية،خاصة في الحوارات التي دارت بين " ناصر" وشخصية "ديار" العراقي المهاجر إلى كندا منذ سبع سنوات، وهو شخصية درامية إشكالية في الرواية. شكلت عنصرا ضاغطا على توجهات بطل الرواية الذي كان غارقا في تذكره لعلاقته مع "مها" إلى درجة مرضية.

ثالثا: محور نقد المجتمع، تعرض المؤلف عبر أبطال الرواية إلى نقد المجتمع، خاصة مجتمع المدينة الذي تمثله الرياض، وذلك من خلال الفقرات التالية التي جاءت على لسان "ناصر"

"لا عجب.. في الرياض يعلموننا أحيانا كيف نكون ذكورا قبل أن يعلمونا كيف نكون إنسا، تكتمل ذكورتنا قبل إنسانيتنا، ويجتهد الجميع في تلقين هذا الدرس حتى النساء أنفسهن، يربين أولادهن على الذكورة الصرفة، ويوحين للابن منذ طفولته بأنه رجل لا يجدر به اللعب مع البنات.

لا أفهم كيف يمكن لأم أن تربي ابنها على انتقاص بنات جنسها، دون أن تدري فيكبر الفتى وهو مستعل على النساء، وتكبر الفتاة وهي خائفة من رجل لم تعرفه، لم أفهم أبدا لماذا يعلمون الأولاد دروس "التفاضل" على النساء، ولا يعلمونهم دروس "التكامل" معهن من أجل معادلة صحيحة ص34-35.

الرياض مدينة كبيرة نصف هواتفها عشق ونصف هذا العشق مراودة. ص40… غير أني لم أكن أثق تماما آنذاك أن هناك امرأة ناجية من أسطورة الخوف في بلادنا ص40.

كما أن هذا النقد الرافض لمجتمع المدينة، والذي يمثل رؤية الجيل الجديد، وأحلامه بالتغيير، ورد في صفحات أخرى من الرواية (صفحة 143 مثلا) في مقارنة بين قيمة "الحب" وقيمة "الحصار" الذي تفرضه مدينة الرياض من خلال التقاليد المتوارثة " بين عنفه وخوفه، ثمة فتية وفتيات يحاولون فرض لغة جيلهم، يتقدمون كلما آذاهم الكبار، ويتراجعون كلما أحسوا أنهم ساروا خطوات طويلة وحدهم، وشعروا بالقلق".

إن هذا النقد يمثل إحدى الرؤى التي تطرحها الرواية، حيث تعبر بمجمل كلي عن أزمة جيل جديد يسعى للخلاص من الكبت والحصار الوهمي الذي وضع فيه بتجاربه المختلفة، جيل يريد كسر هذه التفرقة المصطنعة، ولملمة أحزانه على منطق الألفة، والتواصل.

رابعا: محور نقد الواقع العربي، في هذا المحور ينتقل المؤلف – عبر شخصيات روايته – إلى إدانة الواقع العربي، فكل الثورات العربية كانت مجرد مسرحيات كبرى على امتداد بلادنا، كل ما في الأمر – كما يقول على لسان ديار – أن الآلاف ماتوا من أجل أن يستبدلوا حاكما بآخر"/ ص250. إن "ديار" العراقي المهاجر، ينتقد وطنه الذي شرده إلى الخارج، وينتقد سلطة صدام حسين التي قتلت أباه الضابط الذي يعمل في حراسة "المهيب الركن" لمجرد أنه يقص على أطفاله الصغار أخبار القائد، " ديار"يتحول إلى شخصية مأساوية حيث اصيبت والدته بالجنون، وتشرد أخوته، وهاجر هو إلى كندا، سعيا للعيش بعيدا عن عيون السلطة، ومطارداتها . " ديار" مليء بشجن العراق، وفيه حنين دجلة والفرات كما يصفه "ناصر" حيث التقى به في " فانكوفر" عبر " مس تنغل" الكندية العجوز، وهاتان الشخصيتان كان لهما أثر بارز في تحولات "ناصر". حيث دارت بينهما في الفصول من الرابع إلى نهاية الرواية حوارات كبيرة حول الحب، والغربة، والسفر، والجنون، والزواج. بيد أن نقد الواقع العربي عبر "ديار" يظل هو البنية المهيمنة التي أفضت إلى التشرد والنفي والهجرة.

شعرية الخطاب

يستثمر المؤلف هذا الوعي بتكنيك " الشعرية" التي تضفي على السرد عمقا آخر، وتحول السرد إلى عنصر نشط وفعال من وجهة ترميزية تفضي من لدن القارىء إلى إثارة التأويل والتحليل، بالإضافة إلى كون هذا السرد – كما قلنا سابقا – ناقلا للأحداث.

إن الرواية بمثابة متحف للغة الشعرية التي تتأدى عبر عدة مستويات وأشكال، حيث يجري فيها السرد الفني العالي، جنبا إلى جنب مع القصيدة النثرية، والقصائد الشعرية، والنصوص الشعبية، والتناصات التي تتمثل في تضمين الخطاب عبارات من رواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي، مقاطع شعرية من محمود درويش، ومظفر النواب، وأمل دنقل.

إن سؤال شعرية الخطاب السردي في الرواية يفترض من القارىء البحث عما يميز هذا الخطاب من انفعالية اللغة وعاطفيتها – بتعبير فاليري – بيد أن هذا البحث يحتاج إلى قدر كبير من التأمل التحليلي الذي لن تفي به هذه المساحة الكتابية، لكن على الأرجح أن هذه اللغة ملموسة بشكل حقيقي منذ بداية الرواية على نهايتها، فهذه المستويات الكثيفة من تشعير اللغة المشار إليها سالفا، هي مستويات تدفع بالسرد إلى مناطق قصية من الكتابة الجمالية، المؤلف لا يتوقف عند اعتبار السرد مجرد ناقل، بلغة خاملة، بل باعتباره درجة من درجات الإبداع الفني، من هنا لا نعجب كثيرا حين نرى أن هذا السرد قد تحول إلى قصائد نثر في مشاهد عدة من الرواية. وحين نراه لا ينزل هنا ويصعد هناك، بل هو يتأدى في شكل متصاعد أبدا بمستوى متقارب من اول الرواية حتى نهايتها.

إن السرد الفاتن الذي يقدمه المؤلف، والذي يؤديه بمهارة شعرية عالية، خاصة في احتشاده بالتفاصيل الصغيرة واستطراده الممتع في تأملها وتقليبها على كافة أوجهها، خاصة تلك التفاصيل المتعلقة برصد تجربة "ناصر"العاطفية، واهتمامه بالكتابة، والحب، والحزن، والائتلاف مع "مها" حتى المبيت في غرفة نومها، وسرده لمكان إقامته بالخارج، وحوارياته الشعرية مع " مس تنغل" ومع "ديار". هذا السرد سيظل يطرح أمامنا مسألة: الوظيفة، داخل العمل الروائي.. ما وظيفة هذا السرد الشعري؟ وهل أدى غاياته؟ وهل أبرز التفاوت الفكري والنفسي بين الشخصيات؟

إن المؤلف يجعل السرد بمثابة حقل ألغام تأويلي، فالفقرات السردية حافلة بالأسئلة، وحافة برصد أفكار مجنونة وخلاقة في الوقت نفسه، خاصة مع الأفكار التي تطرحها شخصية "ديار" الشخصية الدرامية القلقة في الرواية. حيث يصفه المؤلف بقوله على لسان ناصر:" أعرف أنه يستغل لذة الفوضى، وشهوة الجموح والتكسير في حروبه الكلامية، ولكن أفكاره دائما تخرج محصنة ضد الدحض، ومغلفة ضد الرد، ومحقونة بحزنه السري، ومتجمدة، كأنها ظلت سنوات في داخله" ص232.

إن وظيفية الشعرية في السرد في هذه الرواية تجعل نقل الحدث الدرامي مؤثرا، وبالغ الدلالة، ومن هذه الأحداث – وهي كثيرة في الرواية – مشهد تأثر "ناصر" بغناء "ديار" وهما في الغربة، حتى إنه انفعل بشكل مأساوي جعله يبكي ويتقيأ دما، فحين كان ديار يغني بلهجته العراقية :" أصد عنك.. أحبنك.. تشذب من قال.. أمل منك، بدمع عيني لطفيها ..واشوفنك" كان ناصر يهيم حزنا في واد آخر ينقله لنا المؤلف بشكل سردي درامي مثير:

"ما أوقف ديار عن غنائه إلا شهقاتي، تمددت على أرضية شقته أبكي كطفل مضروب، وألقى هو عوده جانبا وقام إلى جزعا لهذا الانهيار العنيف، كان كل ما في جسدي يبكي جميعا وأنا أنتحب بشدة، وأعض على شفاهي مثل مدمن، ويداي ترتجفان كأنه الموت، أقرفني الدمع في أنفي، مسحته بيدي فعادت حمراء، دماء غزيرة قطرها أنفي، لوثت بساط ديار، ويديه، وثوبه البيتي، وهو يحملني من الأرض كطفل، ويقعدني على الأريكة، ويصب على أنفي الماء البارد، صرخت في وجه ديار بهذيان لا أتذكره وهو يحاول تهدئتي، كنت لا أحاول أن أتمالك نفسي، شعرت أني أدفع شيئا ثقيلا جدا في فتحات صدري، أحاول أن أخرجه من ثقوب الرئة، كان كل انتحاب أشد من الذي قبله، وكل صرخة اعلى من التي سبقتها، أحاول أن أفلت من يدي ديار لأرمي بنفسي على الأرض، لأضرب بقبضتي على الجدار، وهو يحاصر اندفاعي وفي عينيه نظرة خوف هائلة، أخيرا ثبت أكتافي بيديه القويتين، وأخذ يمسح بيديه وحدهما دم أنفي، ويحشر قطعة من المنديل في فتحة النزيف، ثم يناولني كوب الماء.. وأنا أشهق مثل أواخر المطر" ص301. فهذا المشهد الدرامي الحافل بالحركة، واللقطات المتتابعة السريعة يؤكد على وظيفية السرد الذي تلعب فيه درجات الشعرية دورا مهما، خاصة حين يصبح هذا السرد بمثابة قصائد نثر كما في هذا المشهد:

" ودقت الساعة الثالثة فجرا

حان وقت الرحيل، ولم تعد الأشياء الأخيرة تجدي نفعا

لا العناق الأخير ولا القبلة الأخيرة

لا دفئك ولا سريرك

ولا دموعك ولا ارتجافك

ولا رعشات أصابعك على ظهري

ولا حركة شفاهك خلف أذني

فقدت كل العادات الحبيبة لذتها في ساعة الفاجعة، وانحصرت كل لذائذ الدنيا في موت يبقيني معك الآن، أو يمنعك من الذهاب لغيري، لم يبق إلا أن معجزة كونية تحدث الآن، تغير هذا القدر القاتل"ص. ص329-330.

،ومن الأشياء المسعدة في الرواية الأولى للكاتب محمد حسن علوان، أنه يجري بعض العبارات التي يمكن أن تصلح مثلا روائيا بحد ذاته، عن هذه العبارات لا تصدر في الحقيقة إلا من كتاب لهم تجربتهم الحياتية المديدة، وإذا كان علينا ألا نربط بين المؤلف وعمله الإبداعي بشكل متطابق، فإنه تكفي الإشارة إلى أن تضمين السرد بهذه العبارات يوحي بأن الكاتب بلغ سن النضج الإبداعي، فهي عبارات لها دلالتها داخل النسيج السردي ككل، وتشير على أن بطل الرواية له تأملاته الخاصة التي تبرر أن يكون هذا العمل بهذا الحجم.، ومن هذه العبارات:

النساء دائما أوراق قابلة لإعادةالكتابة. ص80

منذ آلاف السنين المنفى هو مكان آمن للحزن. ص80

الجرح يكون أكثر وجعا عندما يكون بقية الجسم سليما .ص83

قال صادقايئست فأمنت فنمتلا ينام هكذا إلا العادلون أو اليائسون. ص95

شعرت أن الكتابة في غابة الشوك هذه قضية المرأة، تتطلب دقة كبيرة. إن الله وقاسم أمين.. ليسا ندين في هذا المعترك. ص117

كل المدن تتساوى إذا دخلناها بتأشيرة حزن ص117

إن شعرية الخطاب السردي تحتاج لقدر من التحليل في رواية "سقف الكفاية"، فالمؤلف لا يسعى على تحديد جوهري
لمسألة الوظيفية، بل إن جمالية الرواية وأسلوبها الفاتن يجعل القارىء هو من يبحث عن هذه الوظيفية لا المؤلف.

رواية سقف الكفاية رواية تحتفي بإبداعية اللغة وجماليتها، وهي تجري على ألسنة الشخوص قدرا كبيرا من الأفكار والأسئلة، والآلام، والتأملات، هي رواية موت، وليست بموت، وهي رواية عشق كامن تحيا فيه عواطف وتكسرات، وطموحات. والسرد يأتي محتشدا بذلك كله طامحا إلى فض شفرات الكتابة الروائية التي يختتمها البطل برصد مجموع ما كتبه من أسطر وحروف وكلمات.

الراوي المتواتر

رواية "سقف الكفاية" عبارة عن دفقات سردية متتابعة متواترة، يتوجه فيها الخطاب من راو أساسي هو "ناصر" إلى مخاطبة هي "مها"، كل أحداث الرواية وتشعباتها تنجذب إلى هذا الراوي وتلك المخاطبة، إنه راو حاضر بقوة، فهو صانع الأحداث، وهو صانع الرواية. هناك خيط دلالي مشدود بين هذين الصنيعين، لذا فإن الراوي هو راو متواتر حاضر في كل حدث، في كل واقعة، في كل سطر سردي. هذا البطل الذي يسرد تجربته الكبيرة جدا الطويلة التي استغرقت زمنا قصيرا هو 14 شهرا، بالإضافة إلى الوقت الذي قضاه في فانكوفر بكندا، متذكرا أيضا وراصدا وكاشفا، علاقته بأمه، بإخوته، بحسن، عاشق مها السابق، الذي تركته من أجل " ناصر" ثم تركت ناصر لتتزوج بسالم.

الراوي يوتر الأحداث ويتواتر معها.. حتى حين ينتقل للدراسة والعمل في كندا فإنه يخاطب "مها" ، كل حدث يحدث هو من أجلها، وكل فعل يقع هو من أجل أن يقترب منها أكثر.

ولقد بدأ المؤلف الرواية بالحدث الذي انتهت به وهو حدث الكتابة، فالرواية إذا استعرنا – تقنية شعرية – هي رواية مدورة زمنيا، أولها يفضي لآخرها وبالعكس، فهاهو " ناصر" جالس في غرفته – كما ينقل المؤلف:" جلست أكتب، أو أكمل ما بدأت بكتابته في فانكوفر، فقد جاء قدر عودتي طارئا، وإلا أتممت كتابتي هناك كما كنت قد قررت في العزلة الباردة، ولكن يبدو أن أقدار كتابتي صحراوية مهما حدث، ويبدو أن بعض الأحزان لا تتناسل إلا في مواطنها الأصلية" ص10 وفي السطرين الأخيرين من الرواية يقول:" كنت أجلس في المجلس الصغير الذي كتبت فيه الفصول الأخيرة، أكنس المكان وراء ذاكرتي بهدوء عندما دخلت مها". ص404.

إن البدء يفضي إلى الختام، وبالعكس ، فهل يريد المؤلف أن يقودنا إلى أن تجربة هذه الرواية هي منوطة بأحداث الحياة المتكررة، أو يشير إلى أنها دورة إنسانية لابد منها، أو أن تجربة العاطفة متكررة زمنيا منذ المجنون وإلى اليوم؟

إن هذا التكنيك التدويري ستكون له تأثيرات أخرى، يمكن رصدها إلى جانب التكنيكات الأخرى التي نهضت بالرواية نهوضا إبداعيا متميزا، كاستخدام لغة الأحلام، والهذيان، والتمييز الطباعي بينهما في الفصل الخامس.

لكن الراوي الذي يتواتر هو الجاذبالرئيسي لكل أحداث الرواية.

إنه يتواتر أولا في تعريف دلالة العنوان،الذي تتسمى به الرواية، يحضر هو متسائلا :"

أي امرأة تلك التي ستكفيني بعد أن رفعت أنت سقف الكفاية إلى حد تعجز عنه النساء، هذا السقف الشاهق معجزتك معي، ومأساتي معك.عندما تنجح امرأة في الوصول بسقف الأنوثة إلى حد تتساوى تحته النساء، وتستحيل فوقه النساء أيضا. ص17

فحبيبته هي وحدها التي ستكفيه، ولا يمكن أن تأتي أخرى لترتفع إلى هذا السقف. سقف الكفاية. ويتواتر في بدء العلاقة العاطفية، حيث يرسم تفاصيلها، ويحدد مغامرته الأولى باللقاء الأول في المكتبة، ويرسم هو كل شيء فيما تظل الحبيبة ملبية لكل طلباته حتى يقنعها بالمبيت عندها في غرفة نومها، ثم يفاجأ بعد علاقته الحميمة معها، ووصفه الهائل لها داخل الرواية بهجرها إياه، والزواج من سالم.

الرواية وهي تجربة حب كبيرة هي رواية شخصية،هي رواية سالم الذي طغى على أحداثهاووصف شخوصها من منظوره هو ، ومها هيحبيبته، وسالم هو غريمه، ودياره وصديقه، ”ومس تنغل“ هي محاورته وهي تمثل الآخر الحضاري، بأخلاقياتها وحنوها،حيث عطفت عليه، ورقت إليه، وحنت عليه كابنها، وأسكنته منزلها الكبير.

إن رواية ”سقف الكفاية“ روايةكبيرة، رواية جيل جديد له آماله وأسئلته وأحلامه بالتغيير، وله وجداناته المغايرة، جيل حب، وحنين ودهشة، ومعرفة مغايرة، وخبرة تأملية لا خبرة زمنية فحسب، وهو أيضا جيل انكسارات وإحباطات بفعل الواقع وحصار التقاليد.

هي رواية لها وهجها السردي الفاتن، وهي تؤسس لنقلة سردية جديدة في عالم الرواية بالسعودية، تحتاج إلى كثير من التأمل النقدي، والكثير الكثير من رحابة الأسئلة وخصوبتها.