arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

الموقع الشخصي: لؤي عبدالإله

سيمفونية معزوفة على ربابة

لؤي عبدالإله

روائي عراقي

تستند هذه الرواية إلى سيرة ابن عربي كما تخيلها ونقلها لنا المؤلف محمد حسن علوان، وفيها يتبنى تقريبا نفس الحبكة التي تتبعها الباحثة والاكاديمية الفرنسية كلود عداس في كتابها الذي  صدر أولا عام ١٩٨٩ بالفرنسية تحت عنوان “ابن عربي أو البحث عن الكبريت الأحمر (Ibn Arabi ou La quête du Soufre Rouge)، ثم صدرت ترجمته الانجليزية عن جمعية النصوص الاسلامية، كمبردج عام ١٩٩٣، بعنوان “البحث عن الكبريت الأحمر، حياة ابن عربي” ( Quest for the Red Sulphur)، وأخيرا صدرت النسخة العربية عنه يوم ١ آب ٢٠١٤ حيث ترجمه الدكتور احمد الصادقي وراجعته وقدمت له أستاذة الفكر الصوفي  في الجامعة العربية الألمانية، الدكتورة سعاد الحكيم. وكان عنوانه ” ابن عربي: سيرته وفكره” ، وبصدور الترجمة العربية الدقيقة التي راجعتها الأكاديمية البارزة، مؤلفة ” المعجم الصوفي”، الدكتورة الحكيم، تكون الدائرة قد اقفِلت اذ عادت الفقرات الكثيرة المقتبسة من كتابات ابن عربي في النسخة الفرنسية الى أصلها العربي، وهذا قد يكون عنصرا فعالا في إنجاز الروائي علوان لروايته “موت صغير” التي انتهى منها (حسبما سجله في اخر صفحة منها) عام ٢٠١٦.

اتَّبع المؤلف علوان نفس التقسيم الذي اتّبعته عداس في تقسيم فصول سيرة حياته ابتداء من ولادته وحتى وفاته، مرحلة بعد اخرى، وكلاهما اتبعا رحلاته وتنقلاته التي قسِّمت على ضوئها فصول الكتابين.

غير ان الفرق الاساس بينهما يكمن باختلاف هدفيهما: فالمؤلفة عداس كانت تهدف إلى تعقب حياة ابن عربي ومناقشة الأساطير والحكايات المنسوجة حوله، أي في القيام بنخلها وفق منهج علمي صارم، وهذا ما يتيح للقارئ أن يتعرف في آن على ما تقرّ المؤلفة بصحته وما تراه منافيا للمنطق.

بالمقابل، قام الروائي علوان بأخذ الكثير مما ضمَّنته عداس من حكايات لخدمة ثيمة روايته الجوهرية، بغضّ النظر عما اذا كانت قد شككت أو سلّمت بصحتها. إضافة إلى إعمال المخيلة بتغيير العديد مما هو مسلم به في كتاب عداس باعتباره متماشيا مع ما ذكره ابن عربي عن حياته وما ذكره بعض مريديه لاحقا عنه. فمن بين الأشياء التي حرَّفها الكاتب علوان هو علاقة ابن عربي بفاطمة بنت المثنى القرطبي التي كانت واحدة من معلميه المؤثرين في تكوينه في أول سنوات مراهقته، اذ جعلها المرأة القابلة التي على يدها وُلِد، أو ان ابن عربي طلب من خادمه بدر الحبشي (الذي هو تلميذه) بشراء عبد له من فاس عند إرساله من مكة لجلب زوجته مريم وطفلته زينب الى مكان إقامته آنذاك التي كانت مكة المكرمة، او أنه التقى بالشيخ المتصوف البارز أبي مدين رغم أنه حسبما ذكر ابن عربي فان لقاء كهذا لم يتم، أو أن السلطان الموحِّدي الذي أمر بسجن ابن رشد قد اختفى بعد وفاة الفيلسوف ندما على ما فعل به ليظهر لاحقا في ملطية، في حين ان المؤرَّخ هو وفاته قبل وفاة ابن رشد. كذلك فانه حسب علوان عمل ابن عربي كاتبا للسلطان يعقوب بن يوسف في مراكش في حين ان عداس لا تشير الى ذلك وهذا بالتاكيد لان ابن عربي لم يذكر ذلك وليس هناك اي مصدر يؤكد هذه الفرضية.

كذلك فان قصائد ديوانه “ترجمان الأشواق” كُتبت بعد سنوات على مغادرته مكة واستقراره في دمشق، والعنوان يكشف الحنين الذي ظل يعتلج في روحه لنظام ابنة أستاذه الفارسي الأصل زاهر بن رستم الأصبهاني في مكة، فكتب قصائد الديوان مقلدا فيها اُسلوب الشاعر الجاهلي الذي يبدأ بذكر الاطلال التي تركها وراءه ومعها يأتي التأسي على فقدان الحبيب، في حين انه حسب رواية “موت صغير” قد كتبها وهو في مكة تشببا بنظام التي سلبت عقله، وحسبما تذكره الرواية فانه خطبها من والدها لكنها رفضت الاقتران به. يجر الكاتب علوان هذا ‘ القطب’ كي يتبادل القبل والغمزات مع الفتاة نظام كلما سنحت الفرصة من دون الأخذ بنظر الاعتبار السن التي بلغها ” الشيخ الأكبر” والمنزلة العالية التي احتلها في الوسط التصوفي، ففي عام ١١٩٧ حسبما تذكره عداس أيقن ابن عربي وهو ما زال في الأندلس بانه خاتم الاولياء المحمديين!

عند إقامته في دمشق تأتيه رسالة من والد نظام ( المتوفى عام 1212 في حين أن عام نظم الديوان هو 1214) يعاتبه فيها على ذكر اسم ابنته في قصائد الديوان وكيف ان ذلك الحق بِه العار فاضطُر الى الهجرة الى بغداد مع نظام!

في أكثر من قصيدة في ترجمان الأشواق يشير ابن عربي  الى نظام التي كانت انذاك تقيم ببغداد بعد موت والدها وعمتها اذ سكنت في بيت مخصص للنساء العازبات المتفرغات للعبادة وهذا ما يؤكد ان قصائد الديوان كتبت خلال فترة إقامته في دمشق:

أحٓبُّ بلاد الله لي بعد طيبة    ومكةَ والاقصى مدينة بغدانِ

فقد سكنتها من بُنيّات فارسٍ    لطيفة إيماءٍ مريضة أجفانِ

تُحَيّي فتُحيي من أماتت بلحظها فجاءت بحسنى بعد حُسن وإحسانِ

لعل الفرق الثاني بين الكتابين ذو أهمية كبيرة فكتاب كلود عداس يشمل بطريقة مبسطة بعض أفكار ابن عربي الأساسية في حين أن رواية موت صغير تُقصي تقريبا كل أفكاره وتأخذ شذرات منها هنا وهناك لتدسها في الحوارات وهي غالبا ما تتعلق بالحب مثل ذلك الحوار الذي يدور بينه وبين رفيق سفره الحصّار حين يسأله الاخير عن القلب والعقل والوحي فيجيبه ابن عربي بان ما يجمع الوحي بالعقل التفسير وما يجمع الوحي بالقلب التأويل وما يجمع القلب بالعقل الحب. عدا تلك الشرارات الضئيلة وعبارات مأخوذة من كتابات ابن عربي قدم فيها فصوله كنوع من التوابل المقطوعة عن الأصل تجنب علوان أفكار ابن عربي التي عُرضت خصوصاً في كتابيه “الفتوحات المكية” و”فصوص الحكم”، والتي تزيد صفحاتهما عن العشرة آلاف. سنجد ضمن هذه التوابل (المتوافرة بكثرة على النت تحت عنوان أقوال ابن عربي) تعابير جذابة لا تثير اي خلاف او جدل، ولا تبدو لي أن لها علاقة بالنصوص التي تعقبها: الإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير؛ من سكن ما عشق؛ العطاء بعد السؤال لا يعوَّل عليه؛ كل حبّ يزول ليس بحبّ، أو الخفيّ في الجليّ…  ولعل هذه الاقوال تلعب دور السوط الذي يوقظ القارئ اذا اصابه ملل ما من اللغة الرتيبة والإيقاع البطيء وسرعة السرد الثابتة.

الفرق الثالث بين الكتابين هو الدافع الذي حرك ابن عربي نحو السفر صوب الشرق: كلود عداس تقدم لنا من خلال رصد كل أنواع المجاهدات والرياضات والأحلام والمعلمين الذين تتلمذ ابن عربي على يدهم أن السفر صوب الشرق جاء نتيجة طبيعية، فهناك حلم يرى فيه العرش وخلال الرؤيا يُؤمَر بالسفر بعد المرور على شخص اسمه الحصّار يقيم في فاس. كان ذلك عام ١٢٠٠ ميلادية أي أن ابن عربي كان في سن الخامسة والثلاثين اذ إنه ولد عام ١١٦٥. ولعل السفر الى المشرق بالنسبة للكثير من المسلمين في الأندلس واجب على الأقل مرة واحدة في حياتهم للقيام بالحج، إضافة الى ان الصراعات كانت متواصلة بين ملوك الطوائف وبروز التشدد والتزمت مع السلطان الموحِّدي يعقوب بن يوسف في الأندلس والمغرب. بالمقابل يبرر الروائي علوان رحيل ابن عربي الى المشرق بحثا عن أوتاده الأربعة اي الشيوخ الأربعة حسب الرؤية الصوفية. ومن خلال هذه اللعبة الفنية خلق الروائي فضولا لدى القارئ لمعرفة هؤلاء الأوتاد وهذا ما سمح للسرد الروائي بالتمدد عبر ما يقرب من ٦٠٠ صفحة.

البناء المعماري للرواية

تتبنى الرواية ضمير المتكلم لِمن يروي الحكاية، والراوي هو ابن عربي الذي يقص علينا سيرة حياته فمن البدء يخبرنا بانه قد كُشِف له مسار حياته بالكامل في أوائل شبابه ابتداء من ولادته وحتى وفاته، بل حتى  كُشِف له عمن سيدفنه، لذلك فان صوت الراوي يخترق ما يقرب من ثمانية قرون ليصلنا نحن الأحياء عبر قلم الروائي علوان. اضافة الى هذا الراوي هناك راوٍ آخر يظهر ( ولا اعرف كيف سُمح له بالظهور) في آخِر فصل من كل قسم ( سُمِّي كل منها بالسِّفْر  اي الكتاب). والراوي الآخر يحكي لنا عبر هذه القرون من قبره ما جرى للكتاب الذي أملاه ابن عربي على تلميذه سودكين ( وهذا شبيه مع الفارق بدرجة الاقناع في رواية سمرقند لامين معلوف حيث يتنقل ديوان عمر الخيام عبر القرون ) . وهكذا يصبح لدينا ١٣ راويا بضمنهم ابن عربي، كُتبت الحياة لواحد منهم هو المرأة السورية التي وصلها كتاب ابن عربي غير المنشور من قبل عام 2012!

يستخدم الكاتب علوان اسلوب السرد التقريري في نقل الأحداث وهذا ما يجعل البناء الروائي أفقيا لا ينمو بشكل تصاعدي وهذا ما يجعل النبرة واحدة، ومع بروز شخصيات واختفائها مع كل سفر وغياب شخصيات تتعارض مع ابن عربي او تتقاطع معه وبغياب أفكار ابن عربي يصبح تعاطف القارئ معه لا لما كتبه من كتب بلغت ما يقرب من المائتين رغم أسفاره الكثيرة بل مع شخص مهووس بفكرة العثور على أوتاده الأربعة وعلى معاناته من فقدان الأصدقاء والأحباء، والأذى الذي يلحقه هنا او هناك نتيجة سوء فهم البعض له، رغم ان القارئ لم يتعرف على أي من أفكار ابن عربي التي اثارت جدلا كبيرا وجعلت شيوخا جاءوا بعده مثل ابن تيمية  يكفِّرونه. في جملة للأخير عن ابن عربي  نقرأ: “ما للمُغَيربي وديننا”. لنقرأ هذا المقطع توضيحا لهذا السرد الأفقي التقريري الذي يقترب أكثر من اُسلوب الحكاية في حكايات الف ليلة وليلة او في بعض الأجزاء من كتاب الفتوحات المكية مع اختلافه عنهما بوجود الحشو غير المبرر له.

“هكذا قضيت ستة وعشرين يوما في مجلس الخليفة الذي طاب له المقام في إشبيلية. جلس للناس كل يوم منها ونظر في امورهم ووقف على شؤونهم وأنا حوله اسمع وارى. يفتتح مجلسه بالقرآن ثم يقرأ عليه قدر صفحة او صفحتين من الأحاديث النبوية مع شرح بعضها، ثم يشرع في النظر في شؤون الناس. فإذا انصرفوا وأغلِقت أبواب القصر ارتاح قليلا وتسنى لي ان أخرج من القصر وأعود الى بيتي”. (ص ١٦٢) .

أو في حديثه عن زواجه من مريم بنت عبدون:

” كلمت أبي فأرسل الى أبيها من فوره فاستقبلنا في بيته بعد أيام وقد أعد لنا طعاما وفيرا وبدت حفاوته بِنَا بالغة وسروره كبيرا. خرجت أمي الى السوق وجلبت أمساكا وعطورا وقطعا من الحرير والكتان وقباقب للعروس حملتُها جميعا مع مائة دينار موحِّدي صداقاً لها. ولم تمض أسابيع قليلة حتى تزوجتها. واستأجر لنا أبي دارا على أعتاب ضاحية الشرف فيها أربع حجرات جعلت منها حجرة لدرسي، وحجرة لزوجتي ، وحجرة لفاطمة بنت المثنى وحجرة لعبد أهداه أبو مريم لابنته اسمه عدّاد.

أحببت مريم. ذقنها الحاد وعيناها الثابتتان وجسدها  المائل للامتلاء وكفاها السمينتان اللتان تخجل منهما اذا أطلت النظر إليهما لتدسها تحتها وتجلس جلسة مائلة فاضحك. أقبلت عليّ بكل ما في قلبها من شجر يؤرق للتو. أطعمتني رضا وسقانا سلاما وافرشتني طمأنينة وراحة. ما كنت لأطيق إشبيلية لو لم تكن فيها”.  (ص١٦٤)

بعد انتهائي من الرواية حضرني السؤال التالي: كم هو مسموح لمن يكتب رواية تاريخية تغيير الوقائع التاريخية المسلَّم بها؟ في رأيي ان الرواية التاريخية تستخدم الخيال  لملء الفراغات التي تتركها كتب التاريخ والتي تخص اللحظات الحميمية الخاصة بالبطل من تأملات الى لقاءات لا تتعارض مع المادة التاريخية  وقد تضيف شخصيات ثانوية هنا وهناك لتحقيق التوازن  وتدفق السرد تلقائيا وإلا فان القارئ سيقع في حيرة حين يقرأ المادة التاريخية فيجد تعارضا حادا في الوقائع بين الاثنين.

كذلك فسؤال كهذا قد يكون مناسبا: ماذا لو ان القارئ اطّلع اولا على كتاب كلود عداس: ابن عربي: حياته وأفكاره قبل  قراءته لرواية علوان ” موت صغير”؟ انا شخصيا قرأت كتاب الباحثة الفرنسية قبل اكثر من ١٠ سنوات بترجمته الإنجليزية، واستمتعت كثيرا ببنائه وأسلوبه التشويقي. وكان أحد أسباب صدوره أيضا تصحيح ما رأته عداس أخطاء وقع فيها المستشرق الإسباني  آسين بلاثيوس في كتابه الصادر عام 1926عن ابن عربي، والذي ترجمه عبد الرحمن بدوي عن الاسبانية وصدر عام 1979 تحت عنوان “ابن عربي: حياته ومذهبه”.

علي ان أعترف بأن رواية محمد حسن علوان ” موت صغير” تحمل رسالة ضمن صفحاتها، وهذه الرسالة هي دعوة للحب والتسامح ونبذ التعصب في وقت يسود العالم العربي والإسلامي قدر هائل من الكراهية والتعصب ونبذ الآخر المختلف عني دينيا او مذهبيا، وكم يشبه وضعنا بالذي كان سائدا في عصر ابن عربي!

ولعلي لهذا السبب اتفق مع لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية في منحها جائزة هذه السنة له.

أستطيع أن أتلمس جهود المؤلف الكبيرة في احتضان جبل هائل كابن عربي عبر احتضان صورة مصغرة له ، فكأني أجده يسعى إلى عزف السيمفونية التاسعة لبيتهوفن – بما تتضمنه من كمّ هائل من اَلات موسيقية وألحان بوليفونية متنامية باندفاع وتدفق لا متناه – لكن بربابة واحدة.