arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

بيروت برس - رصيف 22

رواية (موتٌ صغير):

سيرة حياة الشيخ الأكبر ابن عربي

فايز علام

كاتب وباحث سوري

يعود “محمد حسن علوان” في روايته الأخيرة “موت صغير” إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر ليروي سيرة واحد من كبار المتصوفين في التاريخ الإسلامي، هو الشيخ محيي الدين ابن عربي.

يبدأ الكاتب تلك السيرة بولادة “محيي الدين” لوالدٍ كان يعمل في بلاط الملك المرابطيّ “ابن مردنيش”، ولأمٍ لا تترك أثرًا في حياة ابنها، في حين تكون مرضعته “فاطمة بنت المثنى” هي صاحبة الأثر الكبير عليه، فهي التي عرفت منذ ولادته أنه سيكون مختلفًا عن أبيه، وهي من أخبرته أن له أربعة أوتاد في هذه الأرض وكي يجدوه عليه أن يطهّر قلبه.

“حملتني فاطمة إلى أبي ذلك المساء فهشّ وبشّ. وعلمت فور أن وقع بصري على وجهه المستدير أن ولادتي هي تأويل الشامة التي عاشت تحت عينه اليسرى طيلة حياته وبشّرته بها فاطمة: يا علي، إن موقع الشامة من وجهك يعني أنه يولد لك ابنٌ يرفع لك ذكرك ويحفظ لك قدرك ولكن مكانها تحت عينك يعني أنه يخالف دربك”.

يكبر “محيي الدين” مختلفًا عن أقرانه، ويظل تائهًا إلى أن يحين موعد الجذبة الأولى التي يعرف بعدها الطريق الذي يجب أن يسلكه. هكذا يبدأ أسفاره من بلد إلى آخر، بحثًا عن أوتاده الأربعة، غير أن البحث عنها سيكون مضنيًا وشاقًا، فالعبارة التي أوصته بها أمه الروحية: “طهّر قلبك، عندها فقط يجدك وتدك”، ليست سهلة التحقق.

من إشبيلية إلى قرطبة مرورًا بإفريقيا والإسكندرية والحج إلى مكة، ثم التوجه إلى بغداد فالبقاع حتى عودته أخيرًا إلى دمشق حيث سيموت، سيلتقي ابن عربي بناسٍ كثر، ويتعلم منهم ويعلمهم، ويصحب أولياء ويفارق أوتادًا، ويؤلّف الكثير من الكتب، ويُسجن بسبب معتقداته وأفكاره، وسيتعلق قلبه بأكثر من امرأة، ومنهن “نظام” التي كتب فيها كتابه الشهير “ترجمان الأشواق”.

وفي هذه الأسفار الطويلة التي استغرقت كل عمره سيظل “الشيخ الأكبر” باحثًا عن معنى طهارة القلب، إلى أن يلتقي بآخر أوتاده “شمس التبريزي”، فيخبره أن الإنسان يطهّر قلبه بالحب، ما يعيدنا إلى أشهر عبارات ابن عربي: “أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني”.
تسلط الرواية الضوء على الأحداث التاريخية والأوضاع السياسية التي كانت موجودة آنذاك، إذ تترافق سنوات طفولة ابن عربي مع الصراع بين المرابطين والموحدين، الذي انتهى بانتصار الموحدين وحكمهم للأندلس، كما تترافق أسفار الشيخ مع محطات مهمة في التاريخ الإسلامي، منها الحروب مع البرتغاليين، وثورات بني غانية في تونس، والحروب مع الإفرنج في مالطة وغيرها، والفتن والنزاعات التي كانت تحصل بين الملوك والأمراء، خاصة أن ابن عربي تنقّل بين عدة أماكن ما جعله يعيش تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة.

يختار “محمد حسن علوان” لروايته حبكة تسير وفق خطين، الثاني منها سيرة ابن عربي، التي تحتل القسم الأكبر من السرد، غير أن الخط الأول يعطي الرواية إيقاعًا مختلفًا ويزيد من جمالياتها، فهو يتخيّل وجود مخطوط كتبه الشيخ بنفسه ودوّن فيه سيرة حياته، وقد انتقل هذا المخطوط من يدٍ إلى يد، ومن زمنٍ إلى آخر حتى وصل إلى بيروت عام 2012.

هكذا ومن خلال 12 فصلًا قصيرًا تتخلل السرد، يتابع الكاتب رحلة المخطوط، ليكون شاهدًا على أحداث تاريخية مهمة عاشتها بعض البلاد في أكثر من زمان، منها تدمير هولاكو لحلب، وزمن الظاهر بيبرس في الكرك، وزمن الامبراطورية العثمانية، والاحتلال الفرنسي لدمشق وحتى أحداث 1982 في حماة السورية. يصلح كل مقطع من هذه المقاطع ليكون حكاية مستقلة بحد ذاته، سواء في موضوعه أو في مضمونه وفرادته، غير أن ما يجمعها كلها ويشبكها مع الخط الأول، عدا اللعبة السردية التي اختارها “علوان”، هو تصويرها الحروب والصراعات والأيام العصيبة التي عاشتها البلاد الإسلامية عبر تاريخ طويل.

تطرح الرواية، إلى جانب الكثير من الأفكار التي يصعب ذكرها كلها، فكرة أساسية هي المعاناة التي عاشها الصوفيون في مجتمعاتهم، والمضايقات التي تعرضوا لها بسبب معتقداتهم وأفكارهم التي جاءت صادمة للناس ولرجال الدين التقليديين، والخصومة التي نشأت بين الصوفيين والفقهاء، إذ إن الفقهاء لم يفهموا الصوفية فهمًا صحيحًا.

وعلى العموم، فإن هذا الصراع ما زال قائمًا حتى وقتنا الراهن، وإن كانت أشكاله قد اختلفت وصارت أقل حدة وعنفًا عما كانت عليه في الوقت الذي عاشوا فيه، إذ تمت محاربتهم بشراسة وصلت في بعض الأحيان إلى سجنهم، “أرجو ألا تأخذ كلامي بمحمل الاعتراض. ولكن الرقص طيلة الليل، والذكر الذي يردفه ضربٌ بالدف والطبل، تجعل بعض الفقهاء لا يأخذ تدريس الخوانق بجدية. (…) كلام بعض المتصوفة يا سيدنا أيضًا عسير الهضم على معدة العامة. كيف يمكن أن يفهم العامة أن فرعون مؤمن؟ كيف يفهمون أن الله والوجود واحد؟ كيف يفهمون أن الألوهية تسري في جميع المعبودات حتى الأوثان؟”.

وليس هذا حال الصوفيين فحسب، بل هو حال كل شخص يأتي بجديد غير مألوف، فإحدى الشخصيات التي تتطرق إليها الرواية هي شخصية الفيلسوف “ابن رشد” الذي عاش في ذلك العصر، وأُتلفت كتبه، وحُكم عليه بالسجن لوقت طويل بسبب أفكاره الفلسفية التي لم يتقبّلها العامة من الناس.

تفتتح الرواية كل فصلٍ من فصولها المئة بعبارة صوفية لابن عربي، محاولةً أن تجاور جنبًا إلى جنب الأفكار الصوفية للشيخ الأكبر مع تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها، لتعرّفنا إلى “ابن عربي” الإنسان الذي من لحم ودم، بعد أن عرفناه صاحب فكرٍ صوفيّ، وهذا من بين أبرز نقاط قوتها وجمالها.

ولا شكّ في أن الجهد البحثي المبذول لكتابة هذه الرواية كان كبيرًا، وقد أداه الكاتب باقتدار، سواء في البحث عن تفاصيل سيرة حياة الشخصية الرئيسية، أو في الإضاءة على المسارات التاريخية واختيار الكاتب لأكثر من حادثة كي يضيء عليها عبر رحلة المخطوط، كما يدلنا على هذا الجهد: الوصف التفصيليّ للأماكن الجغرافية التي عاش فيها “ابن عربي” أو سافر إليها، وأيضًا، لغة الرواية التي اختار “علوان” مفرداتها بعناية كي تعكس الزمن الذي تجري فيه، فلا تكون حداثية أكثر من اللازم، ولا تراثية فتجعلنا نستثقل قراءتها. غير أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ننتقد الكاتب عليه هو أنه لم يضع لائحة بالمراجع التي استند إليها في كتابته.

أخيرًا، نجح “علوان” في إيهامنا بأن هذه هي السيرة الحقيقة لابن عربي، سواء أكنا قرأنا مسبقًا عنه أم لا، فإننا مع “موت صغير” نعيد تشكيله من جديد ليظهر أمامنا كما اختارته الرواية أن يكون، وما الذي تطمح إليه الرواية – أي رواية – أكثر من ذلك؟