arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

ودان، ليبيا

سقف للكفاية، أم فضاء مشرع للفقد!!

محمد زيدان

شاعر وقاص وناقد ليبي

1

سقف الكفاية..
هي الرواية البكر لمحمد حسن علوان(1)، وهي تجربته الأولى في عوالم السرد الأدبي.. هذه العوالم – والروائية منها على الأخص – التي بدأت تستدرج إليها، وبشكل شبه مخيف، أفواجاً كبيرة من الأدباء، وخاصة الشعراء !، مما يحيل مقولة “أن الرواية هي ديوان العرب الجديد”(2) إلى حقيقة شبه واقعة، تؤكدها هذه الطوابير المتراصّة من الشعراء الجدد، الذين يغادرون متردّمهم طالبين حق اللجوء البوحي لدولة الرواية، التي يتعاظم مجدها يوماً بعد يوم..!

محمد حسن علوان، بارتكابه المبكر واللافت لفعل الرواية، وتلبسه بإصدار طبعتها الأولى في عمر مراهقته الشعرية، لا يسعى لتأكيد هذه الحقيقة، وفقط.. بل يقفز – بحماس شبه مفلوت، وقبل استيفائه لشروط ذلك اللجوء – على قوانين اللعبة منذ البدء، مطيحاً – بحركة دراماتيكية – بمُنجَزه الشعري قبل أوان النضج !.

ومن خلال متابعاتي القريبة لتجربة علوان الشعرية، أستطيع أن أقول أن هذا الشاعر قد بدأ مؤخراً – خاصة في نصه الأخير: آخر الأخبار عني يا صديق – يفلت من قبضة نزار الخانقة التي أرهقت تجربته المبكرة، ويسعى لتأسيس مفردته الشعرية، بعيداً عن مدارات الجذب النزاري، الأمر الذي يزرع في جسد القراءة ألف نصل للسؤال:
أية أرض شائكة يطأها هذا الشاعر بقدميه الطريتين..؟ وما الذي يغريه بالنزوح مبكراً لمواطن الرواية..؟

هل استطاع حقاً القبض على لحظة الفعل عبر تجربته الروائية الأولى، وأسس ذاته الكتابية المفردة، بعد أن أرهقه الشعر وتلبسته روح نزار المراوِغة، حدّ التماهي..؟ أم أنه يخرج من معطف نزار – شعراً ، ليرتدي جبة غيره – روايةً..؟(3)
هل أضاف علوان جديداً إلى حقل التجريب الروائي..؟ وإلى أي مدى يراهن نصه على ذلك..؟
أسئلة كثيرة.. لكن لا شيء يدعو للتورّط في غواية الأحكام المسبقة على كل حال..

2

سقف الكفاية..
بدءاً ، العنوان – على بساطته الظاهرة وحياده المُعلَن – يشي بحزمة من التواطؤات غير المُعلَنة التي تعمل لصالح الروائي ونصه، على حدٍّ سواء..
تبدأ الرواية بعنونة بريئة جداً، ظاهرياً: سقف الكفاية.. وهي عنونة/ إلماحة، تخفي بقدر ما تعلن، وتُضمِر بقدر ما تُظهِر، ورغم أن دلالاتها تسيل عبر كيمياء الرواية وتفاصيلها (= الاكتفاء الوجودي بسقف الأنثى)، إلا أن ثمة أبعاداً أخرى، مُستبطَنة ومستترة، لا تنكشف إلا بتقشير (جلد) الرواية على مهل، والغوص عميقاً تحت طبقاتها.. وهذا ما لا تزعمه هذه القراءة العابرة، التي تحاول في مجملها استشراف (بعض) آفاق النص وإضاءة (بعض) جوانبه، وتسعى لموضعة (بعض) رؤاها في تقسيمات قرائية متفرقة، لا تتوخي أية تراتبية، ولا تلتزم بأي تعاقب سردي، يحكمها في ذلك المزاج القرائي المفتوح بكل احتمالاته، والتماهي الحر بمكنونات النص وتداعياته.. بما يُتاح لها من إمكانات وما يسعفها من وقت..

2/1

يحاول الروائي تصدير هاجس ما، إحداث مناورة استباقية تضمن له نوعاً من الالتفاف المأمون على وعي قارئه، لترويض ردة فعله إزاء النص. ومنذ البدء، يسعى لتكريس انطباعٍ ما في ذهن هذا القارئ، انطباع يقول: إنها روايتي الأولى.. فلا تذهب بعيداً..! كأنه يقدم له عذراً شفيفاً ، ماكراً(4)، يمنحه مسبقاً حق تبريرٍ شفاعي لتجربة أولى تتلمّس بداياتها بخجل، طالباً منه (الاكتفاء) بهذا (السقف) وعدم مطالبته بما هو أكثر..

هذا الالتفاف المُفتعَل، الذكي والمناوِر، يتجاوز الحدود السطحية لقارئ الوهلة، ويتعدّاه إلى متاخمة أسوار القارئ الآخر، المحترف، الذي يمتلك أدوات الوعي بممكنات فعله القرائي، ويراهن عليها اتكاءً على مرجعية قرائية رصينة، لا تكتفي بحدود الذائقة وجمالياتها، بقدر ما تصدر عن رؤيا/ مشروع، ترى في فعل الكتابة (صدمةً) تخريبية لمعمار السائد من القول، واختراقاً لكثافة المحايث منه، وجموده وتصلبه.

2/2

تضم الرواية تسعة فصول، تم توزيعها – تقليدياً، كأجنحة سرد/ شعرية، في قصر الكلام!، وعلى مدار أربعمائة صفحة وأربع، أخفق الروائي في خلخلة الكيان الشعري لنصه، فاضحاً في كل التفاصيل ذاته الشاعرة، التي تقمصت جسد الرواية بشفافية هادرة، ممارِسةً إغوائها المستحيل على روح الشاعر، المفتون بدلال القصيدة حتى الثمالة، والمسكون بهاجس الترويج للشعر حدّ الصراخ المُعلَن..

لا يكف الروائي عن التلبس المحموم بالترويج للشعر والانحياز المطلق له حتى الرمق الأخير للكتابة!، ولا تخلو الرواية، في كل صفحاتها، من لوثة الشعر التي تحشر نفسها في ثقوب النص، وتنثال عبر تقنيات السرد وتداعيات الروي، سواء عبر تداخلات الحكي وتمفصلاته وامتزاجه مطلقاً بروح الشعر، أم عبر مقاطع وقصائد للشاعر/ الروائي نفسه، وتحشيده لحضور الشعر ومتعلقاته من خلال استنفاره لجردة كبرى من أسماء الشعراء القدماء والمعاصرين وسيرهم..!، طاغور، السياب، الشابي، الحلي، الجواهري، الحيدري، البياتي، درويش، النواب، نازك، عبد الصبور، لوركا، رامبو، المتنبي، الصباح، وغيرهم.. في تظاهرة ولائية حاشدة، ترفع لواء الشعر، وتهتف بشعارات الوفاء له..!

2/3

تأتي الرواية على نسقٍ متمهِّل.. تتكيء الرواية على اللغة..
اللغة: موسوسة بصوابيتها المطلقة، رغم تناثر بعض الأخطاء مما يمكن تصنيفه في خانة (سقوط السهو)..!
اللغة: مترسِّلة، متدفقة، مدلَّلة، ومشغولة بعناية فائقة. كأن الكاتب يغمس قلمه في بئر معتقة.

نزوع محموم، وسعي مستميت للوصول إلى ذروة بوح (لغوي)، يحاول الروائي عبره إطلاق نص ملحمي أشبه بالبكائية الممتدة، المنغَّمة، مستنفراً في محاولته كل ممكنات اللغة، وآلياتها، وتراكيبها، مجنِّساً بين الشعر والنثر، مازجاً الموسيقى، بالإيحاء، الإيقاع، الرؤى.. في تشابك مبهر وحميم، يمنح الروائي شهادة اقتدار لغوي، والقارئ أفقاً جمالياً أنيقاً للحلم، لكنه لا يضيف إلى حقل التجريب الروائي جديداً، إذ يأسر النص في حدود تجربة (محلية) خاصة جداً، ومتكررة، تفتقر لأهم شروط ومواصفات الرواية الحديثة وتقنياتها المتطورة، التي تتجاوز التقليد والتكرار إلى الاختراق والنفاذ، وتطرح أسئلة مفصلية، رؤيوية، إشكالية، هاجمة، تنأى بها عن المماثلة والتطابق والارتهان لجاهزية الأجوبة، وتؤسس في أفق الراهن فضاءً مغايراً للإنسان، دون التورط في أية فخاخ تنظيرية تتكيء على حزمة من المصادرات الآيديولوجية(5)، الشمولية، التي من شأنها إهدار المضامين الأعم، واغتيال الدلالات الأشمل له!

لقد استطاع علوان تدشين أفقه البوحي (الخاص به)، وتجنيح عصافيره (الخاصة) في مداه، عبر نص روائي، ملحمي، متماسك ومتكامل، وبلغة رائقة، طازجة ومقشرة، مدعوماً برصيد قرائي لا يُستهان به، يكشف – قياساً له بعمره(6) عن عبقرية مبكرة ونبوغ استثنائي لقارئ من طراز رفيع، لكنه أخفق في الخروج من شرنقة السائد والمألوف، وفشل في اختراق الأطر التقليدية وتجاوز الأنساق المتداوَلة، فيما ظلت لغته، على رصانتها، لغةً نمطية، مُراوِحة، تدور على المحور القديم، عبر متواليات متصاعدة، تكرر نفسها، ثم تعود لذات الهوي!

2/3 – 1

لا تحاول هذه القراءة/ المقارَبة، رصد واستقصاء آليات التواطؤ اللغوي، والكشف عن ديناميات اشتغالاتها الخفية والمُضمَرة في بنية النص، ولا تسعى لاستنطاق محمولات التخديم المفهومي التي مارسها الروائي عبر سياقات الحكي وتشكيلات السرد لتشييع صوته الأوحد، بقدر ما تحاول التأشير (من بعيد) على تمظهرات الاستلاب ودوال الشطب والنفي والإقصاء(7) التي تلوح عبر شقوق الرواية وتواترات الروي، والتي تقولب العمل الأدبي بأسره، وتحد من فعاليته، باختزاله، وتحويله إلى (موضوعة) مستهلكة مسبقاً، ترتد إلى أفق الذات، تخاطبه ولا تتعداه!

2/4

“لا شيء يدعو إلى فراق الأوطان إلا حزنٌ ضال !”.
يأتي الروائي مدجَّجاً بالحزن ، ومحفوفاً بقلق السؤال.. “لماذا لا تتضح لي هشاشتي دائماً إلا وأنا أكتب ؟”.
هو الحزن إذاً، قرين الكتابة(8)، ومحركها الأزلي، وهو الهروب والنفي الاعتباري، واغتراب الذات الممسوسة بالحبر.. المصعوقة بالحلم..!

يمارس الروائي هروبه عبر تجربه بطله (ناصر)، ذلك الكائن الروائي، النموذج، بما هو صوت لإنسان هذا الواقع المأزوم، المتورِّم بخراب أزمنته حدّ اللعنة، والمتورِّط حتى العظم في ما يسميه (داريوس شايغان)(9)، بفجوة العوالم المتفارقة/ كتعبير عن مآزق النفس المبتورة في أقصى تمثلاتها بؤساً وشقاءً.

يفترض الروائي كائنه محوراً تدور عليه رحى السرد، ويتم تنصيبه كذات موازية، تُمارَس عليها كل الإسقاطات، وتُشيَّع عبرها محمولات الواقع المُعاش.
تبدأ الرواية بالفجوة..!

2/4 – 1

لا تعني الفجوة هنا، ذلك التغير النمطي الحادث في أسلوب الحياة الجديدة، بل في الطريقة الإدراكية، أو في ما يتعلق تحديداً بمفهوم إنتاج الوعي لإنسان/ جيل، يعيش متذبذباً بين ثقافتين/ سلطتين، هما الماضي والحاضر.

2/5

في سقف الكفاية، يطرح محمد حسن علوان إشكالية العلاقة الحرجة بين الجيل الجديد وأزمنته الغائبة! عبر تجربة ناصر، الذي يسافر إلى إحدى مدن الشمال هارباً من قيظ أزمنته الخانقة، حيث الخراب يؤثث كل المشاهد بفنتازية عبثية مذهلة، وتستعمر الفوضى ذواتنا المأزومة، وسط ثقافة/ سلطة، مشوَّشة، متناقضة، مواربة، تصادر قيمة وجودنا، وتشوهه منذ لحظة الخلق الأولى..

“في بلد مثل بلدي، لا ينمو فيه الحب بكثرة!”. حيث الصحراء تغتال البراعم الربيعية “في لحظاتها الأولى”، يتسائل ناصر: “كيف أصنع حباً!”.
منذ البدء، يتشكل الهاجس.. يشبك أصابعه في جذور المحنة!
هو الحظر على الحب إذاً، وعلى الحياة..! وهو اختزال قيم الوجود، كلها، في محصِّلة صفرية مربكة، وتفريغها من مضامينها الأسّية التي يصبح الإنسان بدونها مجرد كائن مُفترَض على شفير العدم..

وإزاء وضعٍ قارّ، مستفحل ومستديم، كهذا، لا بد من هروب..!
الهروب يحدثه الوعي البديل، وعي الجيل الجديد، بإنسانه وهمومه ومحنته المتوارثة، يجسده ناصر، النموذج، الذي يفترض (فانكوفر) كمدينة/ ملاذ.. أنثى اعتبارية، يعبر إليها، مُخلِّفاً وراءه تاريخاً طويلاً من الوجع المتصاعد والركام الممتد..

فانكوفر، الحلم، يمنحها ناصر زمناً آخر لذاكرته التي أعجزها الخصاء، وشوهتها أزمنة الفجيعة وقسوة المدن التي تطاردها رياح الصحراء.
إنها إشكالية الذات القلقة، المبتورة، حين يشعلها الحنين إلى تخوم جديدة، ومدارات جديدة، ومدينة لا تشبه المدن الأخرى..

3

تبدو الرواية في مجملها كرسالة حب طويلة جداً(10)، تتداعى عبرها وتائر الحزن والإحباط في متواليات بوحية هادرة، أو كاحتفالية ميلودرامية، يعمِّد فيها الروائي ذاته الوليدة بماء الحزن الأقدس، كأن الحزن قدره، وكأنه يسعى لتطهير العالم بالبكاء..!

“إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله”.. وليس عبثاً ذلك الحزن الأزلي المحموم، المضرَّج بدم الأنثى!
يضع علوان إصبعه على جرح في الخاصرة، مستعيداً فتنة يوسف، النبي الشاب، ومكابداته الشهيرة مع الأنثى، ومشهِراً بلاغه الأول على لسان أبيه في مقدمة الرواية.

أيضاً.. يوسف، النموذج، القدوة، الشهيد، ينصِّبه الروائي كذات أخرى، عبر شخصية أخيه الشاعر، الذي علّمه لغة الحب والشعر، ثم رحل، كما علّمه يوسف النبي لغة الحزن والجرح، ورحل أيضاً. ومتماهياً باليوسفين، يندفع ناصر في غيابات الاغتراب، كما دُفِع الأول في غيابات الجُبّ، والثاني في ظلامات القبر!
إنه تماهي الذات المتشظية، في فعلها اللا واعي، بالقرين!
“إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله”..، وليس عبثاً أن يستعيد الروائي الأب..!

3/1

“كان علي أن أنتظر ثلاث سنوات أخرى لأفهم أنه لم يعد لي أب !”..
يشكل الأب، كحضور حسّي، لازمة أسّية، يحيل فقدها على جملة من التداعيات التي تخلق بمجموعها مآزقنا الأولى في أفق الوجود، وتطبع حركتنا في مداه بطابع الحرمان الموصول الذي لا يكتفي بسقف ولا يرتوي بعطاء!

“يا أبي.. في الوطن يوجد حزنٌ حتماً..”..
تتواتر دوال الفقد في حياة ناصر بطريقة دائرية، متكررة، لا تنتهي، ويعيش البطل حياته متأرجحاً في سيرورة فقد مضطربة تؤسس لديه ديمومة الحرمان.
يموت الأب مبكراً.. يلحقه يوسف.. تختفي أروى، تسبقها ندى وسارة، يتوارى وجه الأم خلف غبار الوطن، يتلاشى ديار، ترحل الجدة.. ومس تنغل.. تختفي وجوه كثيرة.. يرحل الوطن، يرحل كل شيء بفقدان مها..!

الرواية سِفر الفقد..!، وهو كالبئر، وحيد لا ظل له. ولا أصدقاء.. (مجبول منذ صغري على البقاء وحيدا”..
كائن مشحون بالتوتر، ملغوم بالفقد، تطوقه حبال من نار، وتنزرع في جوفه فخاخ مميتة. حتى جسده، مهدد من داخله بكلية موقوتة!

“ستتركني أموت يا ديار..”.
يخوِّض ناصر في عماءٍ كوني ممتد، تحفه عواصف اليتم وتظلله سماء النكران!
“لأن الأكتاف تثيرني، أنا الذي لم أجد منذ طفولتي كتفاً أبكي عليه !”.
فمنذ الأب، وحتى مها.. مروراً بأسماء كل المفقودين في حياته، يعيش ناصر (كذات قلقة، مأزومة) انشطاراً وجودياً حاداً، وتشظّياً أليماً لا حدود له، ويمضي منهمِراً بفوضاه المستحيلة وضياعاته اللا متناهية في متاهة دخانية، تشكل مها بؤرتها المحرقية التي تجلد روحه بسياط الفقد اللاهبة، وتحيل وجوده بأسره إلى حزمة من هلوسات هذيانية، مرتجفة ، مُفرِطة، يعتريها قلق الهجر ويشوبها خوف المصير.
“أصبحت أحيا خارج الزمن، وخلف المدار، وقبل الشمس بأمتار قليلة !”.
الزمن هنا، هو الحاضر، بكل آلامه المعنوية والمادية، والمدار هو المكان، بكل كثافته الخانقة، ولا بد من إحداث ثقب ما في جدارهما.
لا بد من هروب!

3/1 – 1

“آن للزمن أن يُحال للتقاعد !”..
يشكل الهروب إلى الماضي – في حالات الإخفاق عن مواجهة الحاضر والفشل في احتوائه والسيطرة عليه، و حين يسقط خيار القبض على البديل/ المستقبل، وتنهار الوسائل والممكنات المُرشَّحة لاستدراجه وترويضه – ملاذاً سحرياً آمناً، يمنح صاحبه منفذاً تنفيسياً يعيد إليه اعتباره الذاتي المهدور، ويرمم قيم وجوده المنهارة..

الهروب لا يحدث دائماً إلى الأمام..!
يستعيد ناصر – نكوصياً – تفاصيل وأحداث علاقته المبتورة بمها، يجوس عبر سراديب الذاكرة مستقطراً من خزائنها المعتقة خمرة تليق بروحه الشهيدة في علياء بوحها الأقدس! في محاولة لخلق توازن ما، يقي ذاته المعطوبة سقوطها الأخير أمام الرؤيا، ويمنح عقله فضاءً آخر، يستعيد فيه قدرته على الحب والوفاء، فعلاً وتجاوزاً وإنجازاً.. عبر الكتابة!

إنها إعادة تنصيب الذات في وجه الآخر، ومحاولة تطهيرها، وإسمائها إلى أفق يتجاوز حدوده وممكناته.
“تطفئين سراج حياتي وراءك، لأبقى طيلة العمر أتخبط في الظلماء..”.. و.. “لو كنت أريده انتقاماً.. لما أبقيت للطوفان من بعدي شيئاً يمر عليه.. ولكنها جهاد مقدس.. ليس إلا..”..
إنه تدوين سيرة العطب، وفاءً.. بمداد الألم!

يختار البطل المنفى، مكاناً آخر لاستعادة ذاته الضائعة والقبض عليها، ويشهر الكتابة لتفريغ حمولة آلامه الحاضرة التي تثقل كاهله، لكنه يسقط تحت وطأة شعوره المستديم العجز وعدم القدرة على التجاوز، فيعود ملسوعاً بسياط اغترابه، ووحشة روحه القلقة في الزمان والمكان اللذين اختارهما لممارسة هروبه.
يعود لذاته، يجلدها..! في محاولة تبريرية لما يعانيه من تلاشٍ وانهيار، وعجز!

3/1 – 2

في الرواية جلد رهيب وتقريع مستمر للذات، يتوضح عبر عدة دوال:

3/1 – 2 – أ: إظهار المرض، والضعف، والبكاء، والتردد، وهشاشة الكائن. “إنها كليتاي.. أشكو من قصور في وظائف الكلية.. حصل لك هذا بسببها ؟.. الصوم يا ديار ، الصوم اليائس.. لم آكل شيئاً مدة يومين متصلين.. صباحها الأول في فراش سالم..”.. “كم أنا تافه وضئيل ، أرخص رجل في المدينة”.. “ليتني أنسرب مع هذا القيء إلى مجاري المدينة.. هذا هو قدري.. ومكاني..”..

3/1 – 2 – ب: الشعور المستمر بالذنب تجاه الذات، ممثَلةً بالأم: “كان حبكِ يمنحني كل ما أحتاجه.. فلم ألجأ إليها.. أتخلى عنها دون أن أدري(11)” ، والأب: “منذ أحببتك.. لم أعد أكتب لهذا الرجل !”.. ، والأهل..

3/1 – 2 – ج: إرباك الذات بشكل موصول وإحراجها بالأسئلة، حيث تتشابك نصال الأسئلة في كل ركن من جسد الرواية بطريقة ملحة، مربكة، كأنها سِفر الأسئلة.. هل؟ ، كيف؟ ، ماذا لو؟ ، لماذا؟..
هذا الجلد والتقريع الآتي كرد فعل مُضمَر ومُستبطَن، يكشف عن شحنة عنف مكتوم، ينفلت – ومنذ البدء – عبر انثيالات الروي.. “كنتِ طوفاناً يجرف أشجار القلق”.. “يشعل فتيل المواجهة”.. “ساحة حرب ماكرة”.. “المعول الذي أضرب به قعر مأساتي”.. إلخ..

3/1 – 3

يجنح الروائي في تكنيكه السردي إلى أسلوب التقابل، مُمرِّراً عبره جملة من الصياغات الثنائية المتكررة، التي يوحي استطرادها بالبداهة، وإفحام الذات والآخر بقطعية منطقية حتمية، لا تتسع حدودها لأي احتمال آخر للقول..

“قراراً أسعى لأخذه – قدراً يسعى لأخذي”.. “تمردي في طرف – خنوعي في آخر”.. “حنظلة مُرّة – سكر محروق”.. “موت – حياة”.. “مأتم – ليلة عيد”.. “مهرج ضحوك – دمعة”.. “هنئوه جميعاً بك – لم يعزني فيك أحد”.. “رجل السطح – لؤلؤة العمق”.. “أميرة البحر – ضفدع الضفة”.. “امرأة متزوجة – رجل ميت”.. “عقد نكاح – شهادة وفاة”.. إلى آخر هذه الثنائيات التي عبّرت في مضمونها عن تشظي الذات وانشطارها ، وفي ظاهرها عن صرامة منطقية ماكرة ، وتماسك دلالي مُفحِم.

3/1 – 4

ينزع الرواي للحكمة..
“لا أحد يعيش في صالة الانتظار إلى الأبد”.. “لا تقاس أعمار الأمهات بالسنين، ولكن بما أودع الله في قلوبهن من خير العطاء”.. “الكتابة نقص المناعة المكتسبة للروح ، كما هو الإيدز نقص المناعة المكتسبة للجسد!”.. “يبلغ الذكور بلذة.. وتبلغ الإناث بألم !”.. “ليس الحب مفارقة كبرى.. إنه انسياق فطري لنواميس الطبيعة..”.. إلخ..

مقولات كثيرة، يختم بها الرواي تداعيات السرد، مفلسفاً نهايات تجربته المريرة، كأنما يمنح نفسه سلواناً أبدياً يعزيه في محنة الفقد، ويسبغ عليه صبر الحكماء ورضى الصابرين.

4

وليس هذا كل شيء..!
فالرواية تحفل بالكثير من الدلالات، التي استطاعت – على الرغم من تقليديتها ونمطيتها ودورانها في فلكٍ مقروءٍ مسبقاً – التعبير عن الكاتب ، كمشروعٍ (خام) لروائي واعد، نجح رغم صغر سنه وحداثة تجربته، في تحريك رواكد وإثارة زوابع وملء شقوق وتعبئة فراغات..

وما هذه المقارَبة القرائية، إلا محاولة عابرة لالتقاط بعض مفاتيح النص الذي يقبض على ممكنات مستقبله الإبداعي، مبكراً، بيدين عبقريتين، ودعوة ملحة لسماعه، حين يتحول فعل الكتابة إلى صراخ!

هوامش:

(1) شاعر وقاص سعودي من مواليد الرياض 1979 ، صدرت له رواية بعنوان (سقف الكفاية) عن دار الفارابي – بيروت 2002.

(2) وباعتراف شاعر محترف من طراز محمود درويش ، فإن حجم مقروئية الرواية أصبح يتضاعف ويفوق حجم مقروئية الشعر نفسه!/ عد إلى اللقاء الذي أجرته مع الشاعر الإعلامية جيزيل الخوري عبر قناة LBC الفضائية ، والذي نشر أيضاً في مجلة إبداع الإلكترونية.

(3) انتشرت في أجواء الرواية شذرات خافتة لأنفاس الشاعرة والصحفية أحلام مستغانمي وروايتها الشهيرة (ذاكرة الجسد).

(4)هل مارس الروائي مكراً دلالياً ترميزياً بتأريخه لبدء علاقته بمها في شهر أبريل.. موسوساً بالأكذوبة منذ البدء..؟!

(5) وظف الروائي جملة من الأحداث السياسية والدينية – بطريقة تعبوية – في سياق نصه الروائي ، لاعباً على وتر الديماغوجيا ، مستخدماً دوال الانتماء المطلق للراهن السياسي والديني ، كرأس مال رمزي يمرر عبره صفقة وجوده الاعتباري.

(6) من المفارقات المضحكة التي صاحبت صدور الرواية (ومحاكمتها!) ، أن أكثر المهاجمين احتجوا في رفضهم لها بصغر سن الروائي!! لذا ، توجهوا لمهاجمة الروائي ، لا الرواية ، دون أن يقرأوها!!

(7)الهامش 4

(8) في الكتابة/ كهاجس رئيسي وثيمة أرأس.. استطاع الكاتب تنصيب المفهوم عبر ممارسته لجملة من الإسقاطات الإيحائية على (القلم).. مؤنسناً الأداة ، ومانحاً إياها قيمة ترميزية اعتبارية ملاصقة لوجوده ، وممتدة في الزمن: ذهاباً إليهما (= في الزمن = مها – ناصر) ، وتبادلياً ، يكتب قصيدتـ (ه) ليخلد لديها (= في الزمن) ، يكتب بقلمـ (ها) لتخلد في قصائده (= في الزمن).

(9)كاتب إيراني ، له كتاب شهير بعنوان (النفس المبتورة).

(10) من الأسباب التي اختزلت فعالية الرواية وألقها، طولها غير المُبرَّر، الذي أصابها بسمة الترهل في أماكن كثيرة، حيث ظل الكاتب – في شعوره بفلتان السرد – يحشو فقراته كيفما اتفق، دائراً حول محور واحد، لا يتعداه!

(11) تحتل مها مكان الأم. تتم إزاحة الأم بحلول مها ، التي لا يتم الإعلان عن الميلاد الحقيقي للبطل (هويته عبر النص) إلا عبر نطقها لإسمه لأول مرة في الرواية (ص 34).!