arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الرياض

سقف الكفاية: ويل لهذا من هذا!

د. عبدالله محمد الغذامي

ناقد سعودي - كلية الآداب بجامعة الملك سعود

ما إن ظهرت رواية محمد حسن علوان (سقف الكفاية) حتى تسربت التهم بأن الرواية ليست لصاحبها وأن شخصاً ما قد كتبها له، وهذه شهادة للنص بأنه نص متفوق حتى ليستكثره الناس على صاحبه، ولقد جاء شئ من هذا أيضاً حول رواية الحزام لأحمد أبو دهمان، ومن قبل كانت حكاية المتلمس مع طرفة بن العبد حينما قال له أخرج لسانك فلما أخرجه أشار المتلمس إلى رأس طرفة وإلى لسانه وقال: ويل لهذا من هذا! ،وما ذاك إلا لأن طرفة تجرأ وهو الفتى الغض فانتقد المتلمس وهو فحل يفوقه سناً وشأناً، وويل لفتى يخرج على سنن الفحول.

تلك علة نسقية ترى أن الصغير سناً صغير شاناً، وإذا أتى بما لم يستطعه الأوائل فلا بد أن في الأمر لغزاً أو مؤامرة، وفي القديم كانوا ينسبون العبقرية للجن و الشياطين، وكل موهوب يصنعون له روحاً سرية تعطيه، وفي هذا استكثار على البشر أن يكونوا عباقرة من ذات حالهم وبجهدهم، كما أن فيه انفصالاً عن الواقع العملي وعن قيم الكدح البشري حتى لا بد من خوارق ومعجزات تفتح للناس دروبهم، تلك لغة النسق وعقليته، وهي في الزمن الحديث تحولت من معجزات الجن إلى خوارق أخرى هي في حالة أبو دهمان وعلوان ستكون من عربي مجهول تولى في السر كتابة النصوص، وهذا تحول في اسم الجني وهويته، حيث صار عربياً، والمهم هو أن الكاتب ليس له أن يكون عبقرياً، هكذا وفجأة وبدون إذن مسبق من الطبقية الفحولية.

ما حدث لأبي دهمان وعلوان لم يكن بالأمر الشخصي الخالص، ولكن كما أشرت يعود إلى ذهنية نسقية مترسخة تتوسل للتعبير عن نفسها بمختلف الطرق، ولو وجدوا مطعناً على رواية علوان لهبوا إليه واكتفوا به عن التشكيك، وليس من طبع النسقية أن تكون مفتوحة على الجديد أو متسامحة معه.

ولقد سمعت عن التهمة ضد علوان قبل أن أشرع في قراءة الرواية، ولم أكن لأصدق مثل هذا الكلام، ولكنني أخذته شهادة على تميز النص، وحينما شرعت في قراءة النص وجدت ما يبرر هذا الغلو في التعامل معه، وحضرتني صورة طرفة مع خاله المتلمس، وويل لهذا من هذا، هو فتى جاء للتو ليفاجئ الجميع بنص يتحدى ما قبله ويحقق تقدماً نوعياً حقيقياً في كتابة النص الروائي عندنا، وهذا لا بد أن يكون من تسريبات الجن، أو بعض الإنس من العرب أشباه الجن، وإن لم يكن كذلك فلا بد في الأقل أن يكون محاكاة لنص سابق في رواية ناجحة في مكان ما، ولقد وجدوا لأبي دهمان نصاً من الممكن أن يكون النص المثال، وكذا اقترحوا لعلوان رواية أخرى، وهذا كله من الضاغط النسقي الذي يفترض الفحولة المسبقة، ومن ليس بفحل لا بد أن يكون نسخة عن فحل سابق، كما القانون الطبقي الفحولي.

ولقد جرى لي شئ من ذلك حينما صدر كتابي (الخطيئة والتكفير) ونشرت جريدة الندوة أن الكتاب من تأليف أستاذ مصري، ثم قالوا إنه عراقي، وكان أحد زملائنا في الجامعة يبدي إعجابه بالكتاب حتى ليرى أنه لا يمكن أن يكون لرجل سعودي، ولكن هذا الزميل نفسه عاد بعد عشر سنوات ليقول عن كتابي (المرأة واللغة) بأنه أفضل كتاب صدر في الثقافة العربية على مدى القرن العشرين كله، ونشر ذلك في جريدة المدينة. ولسوف يأتي يوم يكون فيه علوان أحد فحول الثقافة مثلما صار طرفة فحلاً بعد أن كان طفيلياً، وهنا يأتي الخلل الذي لا يشير إلى قيم العمل بقدر ما يشير إلى سلطوية الذات وقوتها الفحولية، وسيكون علوان مبدعاً إذا كان فحلاً بلا منازع، وكم أرجو ألا يكون محمد حسن علوان قد ضاق صدراً بتلك الاتهامات التي تعرضت لشرفه المعنوي، وله أن يعرف أن الاتهام كان يتضمن الثناء على النص وتفوقه، ولو كان نصاً ضعيفاً لما تعرض لمثل هذه الردود.

جاءت رواية سقف الكفاية لتكون نصاً تجاوزياً فعلاً على مستوى الكتابة الروائية السعودية، وستقف بجوار روايات سعودية أخرى لا تتجاوز البضع العددي، وكم أنا ممتن لذلك الكم الكبير من الروايات التي صدرت أخيراً لأن هذا الكم أفرز بعض تغير نوعي، ورواية علوان علامة على هذا التطور النوعي، ومن بين خمسين رواية سنجد بضع روايات تستحق مسمى (رواية)، وسنحمد للآخرين محاولاتهم لأنها ستدفع بحركة النصوص مثلما يتدافع الموج لتظهر منه موجات تصعد على وجه اليابسة وتنحسر الأخريات بعد أن أوصلت بعضها إلى السطح، وهذه ميزة التراكم مهما كان، حيث يتدافع وينتج أخيراً.

في سقف الكفاية يحضر قيس وليلاه في صورة حديثة ومبتكرة، ولو قُدِّر لقيس أن يكتب نصاً نثرياً لليلى لاستعان بمحمد حسن علوان ليكتب له هذا النص، لقد كتب قيس عن حبيبته شعراً وكتب علوان عنها نثراً، وهو نص يتفوق على ذاته في جلب المتعة للقارئ، وذلك لأنه قد امتلك زمام اللغة وسبر أسرارها وغاص في قيمها التعبيرية، وهذا دليل على اكتشافه للعبة اللغة ولعبه معها إلى أقصى مدى.

ولكن ومع كل المتع التي في النص، ومع تفوقه تكتيكياً إلا أنه يقع في مآزق تمس استراتيجية الكتابة الإبداعية مساساً خطراً جداً، وذلك أن النصوص العظيمة هي تلك التي تملك حباً عظيماً، وسقف الكفاية ينطوي على حب كبير، لكنه لم يبلغ درجة الحب العظيم، ولقد صدمني هذا وهشم فرحي بالنص، وذلك حينما أجده يعجز عن قراءة الحب من تحت سطح الجفاف، ولقد نعى على الصحراء عدم قدرتها على الحب وهجاها في ذلك حتى لتكون قصص الحب القديمة مجرد غلطات تاريخية يندثر بعدها بنو عذرة وتذوب قصص الحب الكبرى عند كل العاشقين، وهذا مالم يفعله قيس ولا يفعله أي كاتب عظيم الخيال وواسع الروح، فالعاشق الكبيرللغة والخيال والنصوص الراقية يستطيع أن يدرك الماء من تحت الصخر والحياة من تحت الموت، ولقد وجد قيس الحب في الكواسر وفي الصخور لأن قلبه فاض بالحب والحبيبة فملأ عينيه بهما، ورأى السياب دفء الشتاء وارتعاشة الخريف لأن له عيناً تشم ما لا يشم وتسمع ما لا يسمع، أما عجز رواية سقف الكفاية عن استنبات الحب في الصحراء وتعمدها هجاء المكان فهو ليس سوى لحن ثقافي يقابله اللحن اللغوي الذي يشوه النص مع ما يتبعه من أخطاء املائية في مواقع كثيرة من النص، وهذا خلل خطير لا بد للكاتب من تداركه، ولن يعجزه ذلك إن أراد أن يكون مبدعاً كبيراً يشار إلى أعماله بفخر ومحبة، وليس اللحن مما يجوز التغاضي عنه، وتصوروا لو أن المتنبي أو الجاحظ أو طه حسين لا يعرفون قواعد لغتهم، أي عباقرة هم (…؟؟!!) إذا ما كانوا جهلة في أبجديات اللغة، هذه هي الفواحش في لغة الإبداع.

وليت الكاتب تخلى عن تلك النصوص التي جاءت على شاكلة نصوص شعرية، وقد كانت نشازاً فلا هي شعر ولا هي نثر، ومن الواضح تميز الكاتب في الكتابة النثرية، ولكنه في النص الشعري جاء عادياً، واربك نصه وشوه جماليته وانسيابه.

وأختم القول إنني استمتعت بنص (سقف الكفاية) ووجدت فيه سياحة ذهنية وجمالية، وسيظل النص ضيفاً على بحوثي لزمن طويل – إن شاء الله – ففيه لي أمور كثيرة، وهي أمور بحثية تضاف إلى متعة القراءة وجمال السياحة.

وإني لأبتهج لثقافتنا أن يصدر فيها نص سردي عميق ودقيق وشفاف حتى ليحتوي ذاته ويعميك عن نفسك، وهذه سمات نادرة في أي عمل، وإذا ما بلغه عمل ما فهو حقاً إنجاز متميز ومبهج، ولقارئه أن ينسبه إلى الخوارق والغيبيات، كما صار فعلاً. وربما أشير إشارة يفهمها اللبيب إلى أن النص قد أصابه شئ من الإرهاق مع مرور الصفحات، وهذه مسألة لا بد من الحيطة منها بما أن البطل الحقيقي في الرواية هي اللغة التي صارت ذاتاً مسرودة، وفي نصوص من مثل هذا النص الذي يلعب على اللغة كذات ساردة ومسرودة يصبح من المهم جداً ألا ننساب وراء الإغراء اللغوي إلى آخر مداه كيلا نقع في إرهاق تعبيري وقرائي.