arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الرياض

سقف الكفاية وآثار الموهبة الروائية العبقرية

د. معجب الزهراني

ناقد و باحث سعودي - دكتوراة في الأدب المقارن من جامعة السوربون - أستاذ الأدب المقارن في جامعة الملك سعود بالرياض

حينما نشر الطيب صالح ”موسم الهجرة إلى الشمال“ في نهاية الستينيات ثارت من حول النص والشخص ودار النشر الشبهات. كانت المبررات واهية إذ تتصل بجوانب خلل وعلل في وسط التلقي وشروطه، ولذا ما إن قدم عنها رجاء النقاش قراءة جادة كشفت ملامح التميز في نص تجاوز كل ما سبق من نصوص في مجاله حتى تداعى مجموعة من النقاد لإصدار الكتاب الشهير ”الطيب صالح – عبقري الرواية العربية“!. قبيل سنوات أثيرت شبهات من النمط نفسه ودالة على الخلل ذاته حول ”ذاكرة الجسد“ التي زعم بعض مثيري القضايا المزيفة أن كاتب هذه الكتابة المتميزة بكل المعاني هو سعدي يوسف وليست أحلام مستغانمي!. ولقد بلغ الغبار الأعالي حينما صدرت رواية ”الحزام“ لأحمد أبو دهمان بالفرنسية ولاقت استقبالاً احتفالياً في مختلف الأوساط الثقافية الفرنسية حينها. قيل وكتب الكثير من الترهات، ومن طرف مثقفين عرب في فرنسا كما من طرف بعض ”نقادنا“ الذين نصبوا أنفسهم خبراء أسرار ونوايا ونظريات أدبية ونقدية وترجمية وكتابتهم دالة بذاتها على أنهم لا يحسنون كتابة مقالة نقدية جادة!!. (آخر ما سمعت منذ أسبوع من أحد الأصدقاء هنا أن ناقداً ومترجماً عربياً باريسياً يدعي أنه يعرف شخصياً من كتب ”الحزام“ لأحمد، وهنيئاً لأحمد ولأمثاله)!. أردت من هذه المقدمة أن أشير إلى قضية آمل أن يتنبه إليها القارئ الجاد باستمرار لأنها قد تكون وراء العديد من حالات ”التلقي المرضي“ الذي قد تكون له آثار سلبية على الحقل الثقافي والوسط الأدبي في مجمله، وبخاصة إذ يتعلق الأمر بنا نحن الذين لا نزال نعاني مرحلة التشكل الصعب لمختلف خطاباتنا الحديثة معرفية كانت أو إبداعية فحينما نقرأ عملاً إبداعياً يتجاوز ما ألفناه من جماليات الألفة السائدة من قبل في الأعمال السابقة (يقزع) البعض منا إلى مثل ذلك المزيج من سوء الفهم وسوء الظن الذي تتولد عنه مختلف التوهمات المؤذية وما إن يتم تداولها في الكلام أو الكتابة حتى تتحول إلى حقائق صلبة تغلق أفق الحوار أو تربكه وتعيقه ولو لفترة ما. فحينما لا نشتغل بشكل معمق ومنتظم في سبيل تطوير أدوات التلقي التي ترهف الذوق وتنمي المعرفة وتعمق الفكر وتوسع من أفق الحوار لا بد أن نظل نمارس القراءة الاستمتاعية من دون متعة والقراءة النقدية العارفة من دون معرفة، ويا للمفارقة!.بعد هذا سأقول كلمتي فيما يتعلق بمغامرة روائية فذة أنجزها الشاب محمد حسن علوان وأؤكد منذ عنوان هذا المقال أنها مترعة بآثار موهبة عبقرية آمل أن نساهم جميعاً في الاحتفاء بها لتكون من بين أصواتنا الإبداعية الأجمل في المستقبل. ذات يوم مر علي شاب صغير السن في كلامه ونظراته وحركاته آثار قلق حيي لا يواري ذاته إلا بمشقة. قدم لي “عمله الروائي الأول” فشكرته على ذلك مؤكداً له أنني سأقرأه باهتمام في أقرب فرصة مواتية. ونظراً لكثرة المغامرات الروائية التي بدأت تتلاحق في العقد الأخير باشرت فور خروج الكاتب الطالب الجامعي نمطاً من القراءة الاختبارية لمقاطع مختارة بشكل عشوائي من نص مطول ولو كتب بخط أكبر لتجاوز حجمه الحالي بكثير. في كل المقاطع لمست ما ينبئ أن العمل الراهن يختلف عما قرأت من أعمال روائية سابقة، وعندها قررت ألا أعود إليه إلا وأنا مهيأ لقراءته كما يليق بعمل مثله. وحينما واتت الفرصة كنت أقرأ وفي يدي قلم رصاصي أعلم به الصفحات التي تتضمن عبارات أو فقرات متميزة من حيث جماليات الأسلوب وعمق الفكرة وبعد الرؤية واتساع آفاقها، وهكذا ما إن فرغت من القراءة حتى وجدت معظم الصفحات موسومة بآثار دهشتي التي تجاوزت كل توقعاتي. فالكاتب يمتلك لغة شاعرية عالية إذ تعبر عن مشاعر مرهفة وخلجات دقيقة غامضة في الذات الإنسانية وهي فوق ذلك ثرية المعجم وجريئة كل الجرأة في اختلاق التعبيرات التي لم تعرف من قبل. هذه اللغة هي إذن المؤشر الأول والأهم على امتلاك الكاتب الموهوب أدوات الكتابة الإبداعية إذ إن الأمر يتعلق بالشرط الأولي لأي إبداع في فنون القول. ثم إن اللغة لا تبرز جمالياتها الفاتنة في مستوى الصور الشعرية الخلاقة وإلا لأمكن لكل شاعر موهوب أن يكتب رواية كهذه أو أجمل. فهناك فيض دافق من الانفعالات والعواطف المنبثقة عن تجربة الحب العميق بين ”ناصر“ و”مها“ وهذا الفيض هو الذي يخترق النص من أول عباراته إلى أواخرها ليشكل خلفية عامة لحكاية حب وصلت ذروتها السعيدة فيما هي تتحقق بين الشخصيتين في لحظة ماضية تستعيدها الكتابة بمهارة عالية عبر التذكر والحلم والبوح الهذياني والإرجاع الواعي، وها هي الحكاية في ذروة بعدها المأساوي لأن لعبة الكتابة ما تحققت إلا على أطلال علاقة الحب ذاتها!. وحينما تتقدم الحكاية تنفتح على أفق إنساني واسع تطل منه حكايات شخوص أخرى تبدو معاناتها أشد وأقسى من معاناة شاب وقع في مرض الحب لأنه توهم وصدق أن محور الارتكاز لحياته محلها هو تلك الفتاة اللعوب التي أحب. ففي فضاءات الغربة، في مدينة فانكوفر بكندا، حيث يرحل هارباً من أطياف حبه المحبط ومتنذرعاً بمواصلة دراساته هناك، يصادف شخصيتين تصلح كل منهما أنموذجاً لأبطال الحكاية المأساوية. ”مس تنغل“ المرأة التي يسكن في بيتها معاقة إثر حادث قدري عابث ذهب بروح زوجها وحرمها من حق رعاية طفلهما الوحيد لأن “القانون” لا يبيح لعاجز قاصر أن يربي طفلة. هكذا تبدو هذه السيدة وكأنها ظلت تنتظر قدوم هذا الشاب السعودي المغترب ليخفف من غربتها ولتفرغ عليه من فيض عواطف الأمومة ما أثقل على قلبها وجسدها طيلة ثلاثين سنة. أما هو فمن المؤكد أنه وجد فيها ما كان يفتقد إليه من عواطف إنسانية ومن معاني الحياة الصغيرة والكبيرة التي تبدأ من الانشغال بحطب المدفأة أو بدفع كرسي السيدة المعاقة في ساحات المدينة وحدائقها لتنتهي عند لحظات التأمل الفكري المعمق في مصير الكائن إذ لا ينقذه من مآسي الحياة إلا الصبر عليها والتسامي فوقها وفق منطق الحكم المتجاوز لكل منطق مألوف. الشخصية الثانية هي شخصية المهاجر العراقي ”ديار“ الذي تعاقبت عليه المصائب حتى لم تعد تجد لديه منفذاً وفق منطق ”تكسرت النصل على النصال“!. فبكلمة خرجت من فمه وهو طفل محمول بين يدي أبيه تسبب في قتل أبيه على يدي نظام بوليسي يتخذ من كل شيء ذريعة للفتك باعدائه المتوهمين، وحينما كبر وجد الموت الفاجع يهدده من كل الجهات في عراق كأنما لا يحسن الحياة إلا في قصيدة فاجعة للسياب ولذا هاجر ليعمل سائقاً لشاحنة في كندا وهو الفنان المرهف الذي ما إن يقابل ناصر حتى يستعيد ذاته الشاعرية المرهفة فيما هو يسخر بانتظام من هذا الشاب المهمش الذي حطمته حكاية حب أولي، ومن طرف واحد!!. هكذا تتحول مآسي هذه النماذج إلى مرايا تعكس كل منها الأخرى لترسم ملامحها وحدودها كيما يعي كل طرف حجم ما يخصه منها فتبدأ رحلة الشفاء والتجاوز أو التسامي في هذه المرحلة ذاتها يبدأ مشروع الكتابة يتبلور في ذهن وكيان ناصر لأن روايته المنتظرة هي طريقته الجديدة للحياة ووسيلته الوحيدة لاستعادة الحبيبة، وهنا تبرز اللعبة الماهرة والماكرة للروائي الشاب. فرواية هو هي حكاية هذه الرواية المتخيلة مثلها مثل شخصيته المركزية، ولا أدري كم قرأ من الروايات المتميزة حتى يتوصل إلى هذه الحبكة التي تكتشف عن تمثله لروح الفن الحديث حيث تتعاقب وتتجاوز وتتراكب وتتداخل المنظورات في سياق ألاعيب تقنية متقنة تكشف كل منها الأخرى فيما تنبني عليها مشكلة المعمار الجمالي الأخير للعمل الفني!. هذه إذن هي العلاقة الأكثر دلالة على الموهبة غير المعتادة للكاتب الشاب، والتي تتجلى آثارها في كل صفحة من صحفات روايته، ولا غرابة بالتالي ألا أجد مفهوماً واصفاً لمحصولها النهائي غير مفهوم ”العبقرية“. فالمفهوم هنا لايستمد معناه من مرجعية متخيلة أو ميتافيزيقية كأرواح جن وادي عبقر” الذين كانوا يعلمون الشعراء ”علوم الشعر“ بل من مرجعية معرفية – واقعية حديثة حددها كانط بالتناسب بين الموهبة القوية والعمل الجاد المنتظم لتملك أدوات تحقيقها في شكل فتي ملموس يتجاوز المعتاد في مرحلة ما. نعم لا شك لدي في أن في ”سقف الكفاية“ استطرادات لغوية كان يمكن الاستغناء عنها كيما تزداد اللغة كثافة وعمقاً، وفيها ولع بمحاكاة بعض الصيغ التعبيرية لبعض الشعراء والكتاب المعروفين جيداً للقارئ اليقظ (نزار، غادة السمان، أحلام مستغانمي)، وفي نهاياتها ما يذكر بالنهايات السعيدة للحكايات الشعبية. لكن هذه الملاحظات، وغيرها، لا تلغي سمات عبقريتها بقدر ما تعززها بالنسبة لكاتب شاب لم ينجز بعد دراسته الجامعية لكنه أنجز ما هو أهم وأبقى له ولنا. أعني هذا النص المترع بالمفاجآت سواء في مستوى لغته الشعرية العالية الفنية أو في مستوى أبعاده الدلالية الفكرية التي كثيراً ما توقفنا أمام أفق الرؤى الفلسفية التي تجعلنا نحلق بعيداً وراء أطياف الوجود الإنساني المتسع للمزيد من التأملات والمعاني. وسأعود للحوار مع هذا النص ولكن لعل العودة تأخذ شكل دراسة مطولة ومعمقة هي وحدها ما يمكن أن يبين للقارئ وجاهة الكتابة عن النص والشخص بهذا الشكل الاحتفالي الذي يستحقه أمثاله من المبدعين المتميزين.