arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

الرياض، السعودية

سقف الكفاية.. نظرة أخرى..

عائشة القصيّر

قاصة وكاتبة سعودية

أتساءل إن كانت مهمة إعلامنا الأزلية هي غناء الكلمات نفسها على اختلاف الوقت والظروف المحيطة بالحدث… وما إذا كانت مهمته لن تتجاوز الغناء على طريقة مطرب يترك العروس وهي في كامل زينتها (وبألف داهية إلى أين تؤول) وينكب صوته في الليلة التالية على عروس أخرى بهية.

سقف الكفاية، نتاج أدبي، جاء في ظروف غير عادية… أولها كون الكاتب شاب لم يجتز المنتصف الأول للعشرين بعد! وثانيها، أنه رغم قصة (الحب) (المراهق) التي تضمنتها الرواية فإنها لم تستقطب بني المرحلة فحسب وإنما جمهور من الناضجين من آباء وأمهات وتربويين ونقاد و…

وقد ضمّنت الحب المراهق بين قوسين لأن نسبة كبيرة من الجمهور حديث السن قرأت في الرواية لسان حالها وترجماناً لصراعات العاطفة (الحب؟) التي تعانيها، ولأن نسبة كبيرة من الجمهور (الأنضج؟) توقفت عند هذا الحد في تناول المضمون، ولأن النسبة الصغيرة المتبقية من الجمهور الناضج (وليس العمر مقياسا هاهنا بالتأكيد) ستضيف إلى صفة الحب، المُرَاهَقَة، قائلة بأن الرواية لم تعد عن كونها خواطر مراهق…

الفئة الثالثة، ضئيلة النسبة، هي المعنية كما أؤمن بالأمر.. بسقف الكفاية…وهي التي ستخولها الرواية لاتخاذ موقف خارج قوقعة العزلة والخواء التي تجسدها الخواطر عن قصد ووعي يكاد يفتضح أمره في الفصل الأخير… أوليس من مهام الرواية، وأنا أتكئ هاهنا على فهمي البسيط للأمور، أن تصنع موقفاً ما..أو تعاون على صناعة موقف!؟ أن تقوض حاجزاً يحول بيننا وبين الاطلاع الكامل والفهم العميق لواقع معين!؟ والرواية في نظري قد جاءت لتفضح (اللاقضية)… لا سخريا ولا تهكما أقولها، إنما لأن الكاتب كان يلمح – موظفا هذا المصطلح بالتحديد – لهذا الواقع، فمثلا:

*البطل الضعيف (الذي يتصف باستسلام وخنوع مريض)

(بي كمد الأسير في سجن العدو، وهو يؤمن أنه لن يتوانى عن تفجير نفسه من أجل قضيَّته، ولكنه عاجز مقيد.. لا يملك لذلك سبيلا! فأي حطام نفسي صار إليه، بعد أن دك العجز أركان روحه، وثار بركانه الصغير في داخله، فاحترق به وحده!
سأدعو لو تشتعل في جنبيك هذه القضية…)… فصل2، ص98

(بدأت أقرأ بعض كتبها في غرفتكِ…
نادرا ما كانت تغريني الكتب-القضايا، أشعر أني في شغل عن قراءة الاتهامات والخصومات،..)… فصل3، ص116
“”وهنا مفارقة تعامله مع مصطلح “القضية”.. مها قضيته العظمى..لكنه أيضا لا تشغله الكتب-القضايا!!؟””

(من يخسر امرأة مثلك، فلن يعنيه أن يخسر شعره ومجده وطموحه أيضا…)… فصل2، ص59
(كل الأِشياء صارت تأخذ طابعا استهتاريا.. وأنا أشعر وكأني مريض نفسي، يتنصل من كل المسؤوليات، ويتقلب على يومه وغده مثل الحيتان التي تنتحر على الشاطئ!..)… فصل2، ص67

*البطل المفرغ من الاهتمامات، غير ذي التجربة ولا الخبرة مع الحياة (الفتيات كجزء منها)، المحشو رغم ذلك بأحكام لا أول لها ولا آخر حول (المرأة!!) والحب.. وسير العشاق.. الممتلئ – على حداثة سنه – بظنون الرجولة!!

(لم تكوني أنتِ امرأة عادية.. حتى يكون حبي لكِ عاديا!.(…) نوعكِ هذا من النساء لا يرفق بي، أنا عاشق المرة الأولى.. (…) كنتُ أكثر رجال الدنيا اشتهاء لكِ…)… فصل1، ص7

(قرأ الحب ماذا ينقصني…) فصل1، ص8

(وأنتِ وجدتِ عندي ذاكرة لم تُمَسّ أصلا من قبل، وقلبا خاليا لا يشغله شيء أبدا، فدخلتِ فيه بسلام، وعززتِ مكانكِ، ووطدتِ ملككِ، وسخرتِ الدماء والشغاف و…)… فصل1، ص16

(بعد أعوام من الأمنيات والرغبات، وسنوات من الرجولة المعطلة الصامتة، هاهي أخيرا فتاة تكلمني.. وتخجل مني!)… فصل1، ص33

(تعلمت آنذاك أن للحب ثلاثة ملامح: ممنوع، وجميل، وللكبار فقط!.. وقررت أن “ارتكب” الحب عندما أكبر! كبرتُ.. وكبرت.. وبعد العشرين بسنوات.. جاءني حبك.. وأخيرا قلدت عمر فيما فعل…)… فصل1، ص37

*والبطلة غير واضحة الجمال، إنما جلية القبح الأخلاقي

(جمعت كل ما آذيتِني به طيلة أشهرنا الأربعة عشر، علاقتكِ الماكرة بسعد، حبكِ القائم لحسن، خيباتي الكبيرة عندما أطلقتِ عليّ عياركِ الناريّ الشهير: ((لست إلا مثلهم))، وارتماءك في أحضان سالم بعد ضجة الحب معي،..)… فصل1، ص27

*والأب الذي مات في طفولة البطل وأخوه الذي مات في شبابه والأخت الأقرب (أروى) التي قطعت عنه الخيط الأخير الذي يربط اهتمامه بما هو خارج جدران صومعته..

*وسفر ناصر البعيد إلى مجتمع خارجي و الذي لم يكن فيه طلب لطموح ولا صيغة تواصل جديدة مع المستقبل بقدر ما كان بهدف العزلة والإمعان في الانفصال عن واقع الحياة.. كان يدور في إطار القضية(!) الحب..

يلتقي البطل في فرنسا برسام عربي، فلا يدور حوارهم سوى حول فكرة أن ناصر عاشق.. ويعيش البطل مع مس تنغل، فتدور حواراتهما في الغالب حول الحب/الفقد/المعاناة… ويلتقي بديار، رفيقه العربي، فتدور حواراتهما هناك حول ذات القضية(!)

*وسقوط معلم الحب الأعظم، ديار، في نظر طالبه البطل.. ناصر.. في الفصل الأخير

(عندما علمني ديار دون أن يدري كيف أحرق الدنيا من أجل حبي، لم أكن أدري أني سأشهد على سقوط معلمي.. قبل أن أبدأ في تطبيق ما تعلمته..).. الفصل الأخير، ص393
.
.
في كل ما سبق
يتراءى لي أن الكاتب كان يكرس ظروف وملابسات وواقع البطل بطريقة مغرية على التصفح ومحرضة على اتخاذ موقف في آن… ليس إنسانا في وضعه الأخلاقي السليم ولا وعيه الكامل من سيقر بأن ناصر، البطل، يعاني الحب، ولا أن مها حقيقة بالمعاناة، ولا أن الأمور تتخذ مجراها المقبول والصحيح (فطرة.. وأخلاقا.. ودينا.. و منطقا.. الخ)… القارئ الواعي سيتفاعل مع الخواطر تفاعله مع اللذة الأدبية والتأملية التي تخلقها، ثم سيستخلص في آخر الطريق ضخامة التجويف وخواءه وعفنه… ذلك الذي استبقاه طيلة أربعمائة وأربع صفحات…

ستؤرقه، إن كان ليكترث ويتفاعل مع قضايا تمس مجتمعه، أسئلة على شاكلة:
أي عطالة مجتمعية تحكمنا!؟ وأي سبل اتصال وتواصل توظفها مراهقتنا (المرحلية) كمعابر لهروب أشد وعزلة أكبر عن واقعنا.؟ ألمنا؟
أقول ألمنا، لأن تخلي ديار، العربي في منفاه، عن فلسفات الحب في الفصل الأخير بالذات لم يكن بريئا على الإطلاق…
ديار استنطق وعيا معطلا في خواطر ناصر وتأملاته حديثة العمر:
(أهذا إذن ما جاء بديار إلى لندن؟ كان هذا علة تغيره الطفيف الذي شعرت به في كالجاري، لقد ألقى ديار وشاح لا مبالاته بالكون.. وقرر أن يحيا.. من أجل عقيدة..من أجل وطن.. من اجل حياة لها معنى!..
وبمجرد أن قرر تغيير حياته، اجتمعت عليه أحزان لا يدري من أين جاءت!، ها هو ذا يدرج اسمه ضمن قائمة المطلوبين للنظام، وهاهو ذا يفجع في أخيه لأبيه.. عدنان، وهاهو ذا يبصر بأم عينه ما حل بجاره، وما يمكن أن يحل به هو…) الفصل الأخير، ص393

أثمة ما يطرق أبواب خدرنا بإلحاح هنا!؟
هل التجاء ديار، من الأصل، بالعزلة وفلسفات العاطفة كان هربا من سيطرة وحكم لا يريد له يحوز عقائد أيا كانت ولا أن يؤسس في حياته كيانا له مواقف وقرارات ناضجة مسؤولة!؟ وهل كانت ظروف شبيهة ما حدت بناصر أن ينمو ويتمدد في اتجاه المعاناة/الهرب/العاطفة… هذا الناصر الذي يمثل خمسين في المائة من المجتمع.. كأكبر نسبة شابة في سائر أوطان المعمورة!؟ هذا الناصر الذي صنعت الرواية ثغرة في حصنه المنيع فأتاحت لنا أن نتجسس على الحقيقة الكاملة لحياته والتي لا يستطيع أن يطلع عليها أشد الناس التصاقا بحياته اليومية:
(لكن أمي لن تتركني أبكي طويلا عند هذا الحد…هي تخشى علي من كتمان يقرضني، وأنا أخشى عليها من بوح يؤلمها! ستستجوب دموعي حتما! وهذا ما يمنعني من اللجوء إليها!.
ماذا لو علمت بأمر حبي؟ ماذا لو علمت بأمر مرضي وصحتي التي تتدهور؟ ماذا لو قرأت ما يدور في صداعي من قلق.. ويأس.. وطموح خائب!)… فصل2، ص69

إن كان الإعلام سيتمادى في تناول هذا المنجز الأدبي/الاجتماعي بسطحية ومراهقة.. وهرب.. مماثل لديار وناصر.. وإن كان سيختزل الرواية في “قصة حب”… فأنا أعتقد أنه حري به أن يغلق صندوقه الغنائي ويفتحه في قاعة.. نتاج عادي آخر..
أما إن كان يفكر في أن يتسم ببعض الجدية والحرص في تعامله مع ما يمس (قضاياه) التي من ضمنها (اللاقضية).. وإن كان ينوي أن يرهق نفسه قليلا في العمل على بحث وتأسيس رؤية مستقبلية جادة… فأنا أرفع يدي للتصويت:
نعم، “سقف الكفاية” تستحق الأضواء الفاحصة..
ونعم، يحق لعشريني، موهوب وحديث السن/التجربة، أن يكتب رواية من هذا النمط.. لأنه وحده دون الكتّاب/الأكبر لا يزال مقتدرا على الدخول إلى حجرة ناصر.. دون استثارة حفيظته وخوفه.. وصمته.