arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الرياض

سقف الكفاية: منجز شعري أم روائي؟

إبراهيم أحمد الوافي

شاعر سعودي - كاتب زاوية في جريدة الرياض السعودية

(1)

أهداني الصديق الشاعر محمد علوان إصداره الروائي الأخير (سقف الكفاية) وهو عمل روائي ضخم تجاوز فيه هيئته الشاعرة ليخرج إلينا روائياً بارعاً ويفاجئنا بثوبه الجديد.. فقد كنت من المثابرين على زيارة موقع الشاعر على شبكة الانترنت والاطلاع على جديده الشعري بين فترة وأخرى.. ولأنني أعترف بقصوري النقدي أو حتى القرائي على مستوى العمل الروائي، فقد كان تلقفي لصفحات هذا العمل الأدبي تلقُّفاً شعرياً صرفا.. بل إنني أعترف بعدم استفادتي من كل الدراسات التي تناولت الرواية سواء ما نشره منها الشاعر في موقعه أو ما نشر عبر الصحافة المحلية.. ولعل أهمها تلك القراءة الجادة التي قام بها الصديق (الجاد) محمد الهويمل عبر الملحق الثقافي بصحيفة الرياض..!

ومن هذه الأرضية النفسية انطلقت في قراءة هذا العمل الأدبي.. ومع صفحاته الأولى دخلت في نوبة دهشة كبرى نتيجة اللغة الشعرية الساحرة التي حملت الحدث لتؤكد لي من جديد أن الذاكرة العربية ذاكرة شعرية في الأصل.
ومع ازدياد عدد الصفحات التي تقلبت في ذاكرتي تنامى في نفسي شعور عميق يحمل محتواه سؤالا عريضا : (هل سقف الكفاية منجز روائي أم منجز شعري؟)..

لقد تجلى لي (بنفسيتي الشعرية) ان الحدث الروائي حدث يتخلق في رحم اللغة الشاعرة.. حتى كدت أجزم أنه لم يكن لولا هذه القدرة الشعرية الفائٍقة التي يختزلها المؤلف.. فالعمل السردي يقوم على تفصيلات دقيقة عادة ما تتكون عن طريق هواجس تعتمل في ذات البطل.. ولا يمكن أن تخرج كحدث سردي كائن لولا هذه اللغة الشعرية القادرة والنادرة معاً.

ومن هنا تحديداً تتجلى القيمة الفنية لـ(سقف الكفاية).. إذ انّ العمل الروائي بكل ما يمكن أن يستوعبه من أحداث وتواريخ وأزمنة جعل منه البديل الجاهز للمكانة التي يحتلها الشعر كـ(ديوان للعرب) كما هو الشائع في كتب التراث.. لاسيما في ظل الغياب التام للقصائد الملحمية أو النصوص ذات الأحداث المتعددة، ومن هنا فقط جاء هذا العمل الروائي ليجمع بين الشعر والحدث في مزيج فني ساحر ومتفرِّد..

إن رواية الصديق (الشاعر) محمد علوان (سقف الكفاية) تنفرد في كونها منجزاً حضارياً متطوراً يؤكد على مكانة الشعر في ذاكرة العربي وقدرته على خلق الحدث الروائي مهما حاول الشاعر فصله في مواطن كثيرة بعرضه على شكل نصوص شعرية تتواكب مع الحدث وتجسد موقفاً سردياً خاصاً كما سنلاحظ في الجزء الثاني من هذه الاطلالة.

ويمكننا بسهولة رصد هذه الخاصية التي تتميز بها سقف الكفاية في مواطن كثيرة من المواقف السردية التي تتكثف (شعرياً في رواية سقف الكفاية) ففي الصفحة التاسعة كاطلالة لموقف شعري يتخلق في رحمه الحدث نجد الشاعر الروائي محمد علوان يندغم في حالة شعرية سردية حين يقول:
(يدي معلقة على قلم أبيض صغير…!!) ثم ينطلق في تفصيلات شعرية دقيقة جداً حول القلم.. وهي في مجملها تفصيلات شعرية صرفة لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون لولا تلك اللغة الشعرية التي جاءت بها بكل ما فيها من تهويمات هي أقرب ما تكون إلى الشعر منها إلى السرد الروائي.
ولعل لنا في الجزء الثاني من هذه الإطلالة وقفة أخرى مع هذا المنجز الشعري الروائي في الأسبوع القادم بإذن الله.

(2)

كنت قد طرحت في جزء سابق، وفي معرض حديثي عن رواية الصديق محمد حسن علوان (سقف الكفاية) سؤالاً عريضاً:
هل سقف الكفاية منجز شعري أم روائي؟ وسوغت هذا السؤال وأحلته للغة الشعرية الساحرة التي جاءت بها الرواية، ولن أضيف جديداً في هذه التتمة حول هذا الموضوع، من حيث أهمية اللغة الشعرية في توليد الحدث فيما يختص بالمؤلف ومنجزه الابداعي وأعني به الصديق محمد حسن علوان، لأنتقل مباشرة لمتلقى هذا العمل الروائي..

كيف سيتعامل معه؟ وما الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه هذه اللغة الساحرة أثناء تلقي هذا العمل وبعده؟
إن الذاكرة العربية ذاكرة شعرية بطبيعتها، ولهذا ستحتفي كثيراً بهذا المنجز الذي أخذ شكل الرواية شعراً، وستتعامل مع أحداثه السردية تعاملاً شعرياً بحتاً، كما هو الحال لدى الكاتب ذاته، وسيمكنها بسهولة ودهشة معاً أن تتقبل تلك الأحداث التي لا تكون غالباً إلا في خيال الشعراء.

ليست على مستوى الحدث ذاته ولكن على مستوى رصده وتوليده وإخراجه إلى حيز التاريخ السردي ذاته الذي جاءت به الرواية:
(وقفت أراقب حبات المطر التي تتوزع عشوائياً على زجاج نافذتي ثم تبحلق في وجهي بغباء فكّرت: عندما يسقط المطر على شيء فإنه يفقد ألقه المطري الذي استمده من السماء الكبيرة، ويصبح مجرد قطرة ماء غبية، وفي جفني، فقدت الدموع ألقها ذاك الذي أخذته من كبرياء الحزن.. إذن.. شيء ما.. يجمع بين القطرتين..) (سقف الكفاية ص 90).

لكن كل هذا التلقي الشعري المدهش سيصطدم حزيناً بسؤال عريض آخر؟ ماذا لو ترجمت هذه الرواية إلى لغات أخرى، ما المواصفات التي ستحتاجها حينها في ذلك المترجم.. هل ستحتاج لشاعر بارع؟ أم لروائي؟ وهل ستحتفظ بهذا البهاء وهذه الروعة؟
حقيقة لا أود الخوض في إجابة هذا الأسئلة بالرغم من أهميتها في ظل الايمان الكامل بشاعرية هذا العمل الرائع والدور الكبير الذي تلعبه هذه الشاعرية في كينونته وتخلقه.. لأننا حينها سنحتاج لمواصفات مهمة في المترجم تتوافق تماماً مع مواصفات المبدع ذاته حتى يمكنه سرد كل تلك الأحداث باللغة الشعرية ذاتها التي سوغت هذا العمل وأخرجته لحيز الوجود..

وخلاصة الإجابة عن السؤال الذي عنونت به مداخلتي هذه في جزئها الأول (سقف الكفاية منجز شعري أم روائي) تتلخص في أمر يجب الالتفات اليه والاحتفاء به معاً ويكمن في قدرة الشاعرية المتمكنة من تكوين عمل روائي ضخم بحجم سقف الكفاية، وبالتالي علينا الاحتفاء بشاعرية الصديق محمد حسن علوان كثيراً وهي تخرجه لنا روائياً بارعاً من خلال أدواته الشعرية ذاتها دون أن يشعر أو يشعرنا بها مباشرة، بل لعله وبدون قصد اختار العمل الروائي ذي الطابع (المعقد) والعالمي ذاته ليبرز لنا شاعريته المدهشة، ولعله بهذا لم يدهشنا فحسب بل هزنا من الأعماق حتى لا يمر علينا مثل هذا العمل الفريد ونحن غافلون عن دور الشعر في ملامسة الجوهر الانساني وقدرته البارعة على صياغة التاريخ بعد أن ظل وعاء حاملاً له عبر قرون عديدة..