arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

مجلة اليمامة

سقف الكفاية / فتنة التجاوز..!

د. فاطمة القرني

كاتبة وشاعرة سعودية - تكتب صفحة (إذا قلت ما بي) في مجلة اليمامة السعودية

1 / 2

آخر الأخبار عني يا صديقْ
لم يزل صدقي متاهاتي التي تستنزف العمر الشفيقْ
مبدأي في الأرضِ إحساسي..
وإحساسي نقيضٌ موغِلٌ في السُّكْرِ..
لا أصحو على ما جدَّ من بؤسي لديه
ولا أفيقْ!
* * * * *
آخر الأخبار عني يا صديقْ
لم يزل في الروحِ نحَّاتانِ من وجْدٍ.. وضيقْ
لم يزل بحري الذي أغرقتُ فيه الصمت مخنوقاً بتذكار المضيقْ
لم يزل دهري الذي أخشاه نخاساً..
وأحلامي رقيقْ!
* * * * *
آخر الأخبار عني يا صديقْ
نمتُ قبل الأمس محموماً..
ولم يحدث، طوال العمر ، أني دون عينيها.. أفيقْ!
قاءني صمتي..
وجاع الجوع في جسمي..
وراحت آكلاتُ الجلد تستلقي
على تلك الحروقْ
* * * * *
آخر الأخبار عني يا صديقْ
هاتفتني قبل أسبوعٍ فتاةٌ تدَّعي
أني على وصلٍ بها..
”ربما كانت هيَ!
ربما أني نسيتُ النبرة الحسناء
والصوت الرقيقْ !“
قلَّبتني فوق شكِّي نصف أسبوعٍ
ولم ترجعْ..
وألقتني على الأمل المعرَّى كالغريقْ
حلم بحارٍ بكف الرملِ مغشياً عليهِ
يسفُّ أصدافاً..
ويهذي..
ذات ملحٍ.. أستفيقْ!
كان حولي كبريائي..
بضع أشلاءٍ..
وأصداءٌ..
وبروازٌ عتيقْ!.
* * * * *

…………………………..
…………………………..
…………………………..

آخر الأخبار عني يا صديقْ
صار صوتي كائناً من صرخةٍ شوهاء
جاءت.. كالنقيقْ!
ضفدع الحزن أنا!..
مستنقعي وهمي..
وتحتي..
طحلبُ الدنيا.. يضيقْ!
كلما أوغلتُ في الإيمان عاد الشك يغويني..
طريقاً في طريقْ
كلما قدَّمتُ للأوطان قرباناً
تراءى داخلي منفى .. وأغراني رفيقْ!
منذ أن راحت جراح الغيب تسري
في دمي..
من ذلك اللوح العريقْ
منذ أن أيقنت أن الرغبة الصعلوكة الحمقاء
ميلادي..
ومشواري..
وإيقاعي الشقيقْ
لم أفكر أيَّ ثوبٍ سوف يرفو كل عُريي..
كان بحثي يا صديقْ..
عن بكاءاتٍ تليقْ!) (*)

… ووالله.. أنه منذ تلقفي لرواية شاعرنا المذهل محمد حسن علوان: وأنا أبحث عن تناول نقدي يليق بمبدع مثله.. أقولها وأنا متيقنة من أن ساحتنا الأدبية.. العربية عموماً لم تبشرنا من قبل بأحد مثله.. هذا الفتى الألمعي ولد مبدعاً أصيلاً عملاقاً بأصدق ما تجسده هذه العبارة، وبالمناسبة.. فهو ينتمي جذوراً إلى (رجال ألمع) في جنوبنا الخلاق، شهورٌ عديدةٌ مرت.. وما زلت مفعمة بهزة انبهاري.. دهشتي.. احتفالي حين وصلتني روايته (سقف الكفاية) في فبراير 2002م.
((محمد حسن علوان.. من مواليد الرياض.. 1979م ، 1399هـ، موقع المؤلف على الانترنت alalwan.com))

.. هذا هو التعريف المحدود جداً والمتسع جداً الذي يحمله غلاف الرواية لمؤلفها!!.
حسناً.. أقلب الرواية في حيرة، مقاطع شعرية جميلة وعديدة تتخلل صفحاتها، وهذا ما يزيدني حيرة!… ألاّ أعرف ناثراً، روائياً كان أو غير ذلك.. فتلك جنحة هينة أغفرها لنفسي، أما الشعراء.. والسعوديون منهم تحديداً فجهلي بالمميزين منهم جريمة حقها ألا تغتفر لي.. ولا لسواي ممن لهم صلة بميدان الأدب السعودي!!.. فقط.. حين لا ينشر أولئك.. أو يُنشرون.. يمكن تقبل هذا الجهل.. وقد كان!!.. فعلوان كما تبين لي من بعد من أولئك الذين اكتفوا بمنفذ الانترنت في نشر معظم أشعارهم..
وإذن.. فلا تثريب!!

.. الأسابيع الأخيرة من العام الدراسي.. ونحن في مرحلة تشطيب المناهج و((تحطيب)) الامتحانات، ومنها إلى نار التصحيح والتطويح بين قاعات المراقبة ، ولجان الرصد، ومن ذلك إلى فوضى الإجازة بكل ما نجمِّعه لها وما تجمِّعه لنا من مرجآت مناسباتنا.. الهام منها والغام، إجازاتنا تتميز عن كل فواصل الاسترواح في العالم باستيعابها للنقائض.. ((أفراح وجنائز!!))، وبالمعدلات الأعلى على مستوى العالم!!.. وقد كانت هذه الأخيرة من أهم معوقات إتمامي للرواية والتعليق عليها خلال الأسابيع الماضية، إذ قُدِّر لي أن أعايش حالتين من فقد مفاجئ فاجع لأسرتين من المعارف والأقارب، رحم الله فقيديهما. ثم إن مساحة الزاوية قيدتني إلى حد كبير، فالمجلات الأسبوعية قلما تحتمل تجزئة الموضوع إلى عدة حلقات، وفي مجال ((نقد النصوص)) تحديداً.. تزداد الصعوبة، لأنك تنتظم، شئت أم أبيت، في سباق مع غيرك ممن تتوقع أن العمل المنقود يستهويهم.. أيكم سيكون له قصب السبق في تسجيل.. ومن ثم ضمان حقوق الحفظ لملحوظاته الخاصة!!.. والحق أني لم أنج من هذه العثرة.. فقد ((أحرق)) تأخير نشر مقالتي كثيراً مما دونته من تعليقات حول هذه الرواية بعد ظهور عدد من القراءات النقدية في الصحف، أو في موقع المؤلف الالكتروني.

.. أن أصدر التعليق على الرواية بنص شعري لعلوان.. كان هذا أيضاً من أسباب احتياجي لمساحة متسعة، فهو أولا شاعر.. وقرائي، مثلي، يرون في الشعر بطاقة التعريف الأوجز.. والأصدق.. والأسرع وصولاً إلى قلوبهم، وعنوان ((سقف الكفاية)) لوحده.. قد يصيب المتلقي بشئ من الرهبة.. وربما العزوف.. وإذن فليكن الشعر وسيلتي لتخطي حاجزٍ كهذا، وليكن في ذلك تأكيد.. يتلوه تأكيد.. ثم تأكيد: أن محمد حسن علوان روائي مختلف.. أحدث بعمله البكر هذه الهزة العنيفة لأنه (ابتداءً) شاعر حقيقي، وإلا.. فما أكثر الحكّائين.. والهلاّسين.. هذه الأيام!!.

هناك أيضاً سبب آخر يقف وراء انتقائي للشعر ولهذه القصيدة الجميلة من بين قصائد المؤلف لتكون استهلالاً لما يليها من أسطر.. وهو كونها قابلة للبروز في موضوع الحد الفاصل لقضية ((حدث.. أو لم يحدث؟!)) التي توقف عندها عدد من القراءات النقدية للرواية: ((… لقد بدأ المؤلف الرواية بالحدث الذي انتهت به، وهو حدث الكتابة، فالرواية، إذا استعرنا تقنية شعرية، هي رواية مدورة زمنياً أولها يفضي لآخرها وبالعكس… إن البدء يفضي إلى الختام، وبالعكس، فهل يريد المؤلف أن يقودنا إلى أن تجربة هذه الرواية منوطة بأحداث الحياة المتكررة؟، أو يشير إلى أنها دورة إنسانية لا بد منها؟، أو أن تجربة العاطفة متكررة زمنياً منذ المجنون وإلى اليوم؟!.. الرواية، وهي تجربة حب كبيرة، هي رواية شخصية..!))(1)، هذا رأي يعبر عن وجهة من مالوا إلى تحقيق حدوث تجربة الرواية الرئيسية لمؤلفها، ومن الفئة المقابلة يبرز رأي د. معجب الزهراني إذ يقول بعد عرضه لأهم الملامح المأساوية لشخوص الرواية: ((… هكذا تتحول مآسي هذه النماذج إلى مرايا تعكس كل منها الأخرى لترسم ملامحها وحدودها كيما يعي كل طرف حجم ما يخصه منها فتبدأ رحلة الشفاء والتجاوز أو التسامي… في هذه المرحلة ذاتها بدأ مشروع الكتابة يتبلور في ذهن وكيان ناصر، بطل الرواية الرئيسي، لأن روايته المنتظرة هي طريقته الجديدة للحياة ووسيلته الوحيدة لاستعادة الحبيبة، وهنا تبرز اللعبة الماهرة والماكرة للروائي الشاب، فرواية هو/هي حكاية هذه الرواية المتخيلة مثلها مثل شخصيته المركزية، ولا أدري كم قرأ من الروايات المتميزة حتى يتوصل إلى هذه الحبكة التي تكشف عن تمثله لروح الفن الحديث..))(2)

… تأتي قصيدة المؤلف التي أوردت معظم مقاطعها هنا، والمؤرخة في 9 فبراير 2002، في حين أرخت آخر صفحة في الرواية في 30 أكتوبر 2001م، لتشي بأنه كان ولم يزل… ((في الروح نحاتان من وجدٍ وضيقْ!))، ولتبرهن على أن تميز المؤلف الذي تجاوز به إطار ((الشخصي.. المحدود)) يكمن في إيجابية احتياله على نفسه.. ولنفسه ايضاً.. قبل أي كون آخر.

الزمن.. زمن محمد.. زمن الرواية!!

.. معظم من سجلوا تعليقاتهم على الرواية اتفقوا على كون أربعة عشر شهراً من علاقة عاطفية جمع الهاتف بين طرفيها تعد زمناً قصيراً جداً قياساً إلى ما فجره من تداعيات وانثيالات محمومة كانت صفحات الرواية ال(404) محصلتها النهائية، وعلى أن ((عبقرية)) البطل/المؤلف قد تمثلت في قدرته على امتلاك زمام أمره، حتى وهو يهذي، واعتداده بهذيانه ذاك، ومصابرته أثناء محاولات لملمته حتى تشكل بهذه الصورة مع أنه هو، أي المؤلف، لم يتخطّ بعد زمن البعثرة!!.

أجل.. اتفقوا على ذلك، ولكنهم قفزوا متعجلين عن هذا المرتكز المهم الجدير بأن نطيل الوقوف عليه، داعين بالسقيا لمحمد، باكين مستبكين على السواد الأعظم من مجايليه!!

ما هو خط السير المتوقع لشاب واعد في مثل سن محمد، يعتاد موهبة ما للتعبير عن مشاعره؟!.

أولاً: أن يكون، وأقولها بالعامية ((ماشي في الدراسة))، وإن تفوق.. وخطا راكضاً.. فهذا إنجاز!!

ثانياً: ألا يغفل أهمية الاطلاع على المجال الذي تنتمي إليه موهبته… وإن فعل ذلك بتوازن.. ولم تستلبه أحلامه من مواصلة دراسته الأكاديمية التقليدية ((وهي الأصل عندنا.. كما تعلمون)) فهذا إنجاز!!

ثالثا: أن يقدم نصوص موهبته الواعدة بحذر.. وخوف.. ورهبة أيضاً.. ((للقائمين بالأمر)) في الملاحق الثقافية في مطبوعاتنا.. أو لأساتذته في الجامعة.. أو للأسماء البارزة في الميدان الذي يطمح لاحتلال موقع فيه ذات يوم.. بعيد.. بالتأكيد!!. فإن فعل ذلك.. ولم (يحترق) كمداً.. وإحباطاً.. من ردود الأفعال التي قلما أنصفت اسماً طارئاً لا سند له ولا جلد… فهذا إنجاز!!

هذا هو أقصى المتوقع.. لكن محمد فاجأنا بميلاد جيل مختلف من شبابنا ..جيل طموح مثابر، فقد كان حين أصدر روايته في السنة النهائية من دراسته الجامعية في تخصص علمي جاد (حاسب آلي/نظم معلومات).. والرواية (لغةً وبناءً) تؤكد بوضوح جلي أن مؤلفها قارئ نهم.. نهم.. أما الثالثة.. فقد تقدم (فتاتاً) بكل جرأة.. وثقة.. ليقدم عمله (الضخم) للجميع.. معلناً: ((ها.. أنا ذا!!))

هوامش:

2 / 2

من تُرى..
يا رجال فلسطين
كان نبياً.. يقاتلُ من أجل
أرضٍ نبية!

من تُرى..
قد سقى منبت البرتقال
دماه..
فأورق في الغصن طفلٌ
وفاح على السفح شعر صبية!

من ترى..
كلما بسط الكفَّ من حوله
يشتهيها الحصى..
يترامى عليها..
ويقفز فيها..
ويرضع من كلِّ ظفرٍ معاني القضية!

…………………………..
…………………………..

من ترى..
ينقش الموت مثل القصائد فوق
شوارع حيفا..
ويرسم شكل توابيتهم في نتانيا..
ويضحك حين تسافر في
جسمه الغض ألف شظية!

…………………………..
…………………………..

من ترى..
سهر الليل يصنع مقلاعه
من خيوط الغضبْ
من ترى..
نام والحلم يطرد عن شفتيه
ذباب التعبْ
من ترى..
قبَّل الدمع في وجنتي أمه.. ومضى
وهي تلمح في جيب سرواله الرثِّ
قنبلةً يدوية!

…………………………..
…………………………..

من ترى..
يا رجال فلسطين
يوماً توضأ حتى تأوه في وجهه النور
ثم سعى ليصلي..
ولو وقفوا دونه.. سيصلي..
ولو قطعوا رجله.. سيصلي..
ولو نسفوا رأسه..
سوف يسجد لله سجدته الأبدية!

* * *

كلكم ذلك النور
يا أنبياء فلسطين..
لكن ترى..
أين حل القضية؟

كلُّ من حولكم مثل أعدائكم
كلهم حفنةٌ
من بغاث البرية!

…………………………..
…………………………..

كلُّ من حولكم
ضدكم..
فاضربوا بيد الحق تلك الجباه
وتلك الجباه..
فلا فرق بين الرعاة..
وبين الرعية!

من ترى..
سوف يزرع في جسمه
عشراتِ القنابل..
ثم يهاجر نحو الخلاص..
الخلاص.. الخلاص..
وينسف جامعة الدول العربية! (1)

.. للمرة الثانية.. ألتمس في ((القصيدة)) مدخلي الأنسب لمواصلة الحديث عن النص المتجاوز ((سقف الكفاية)) وعن مؤلفه المتجاوز أيضاً.. وذلك في محاولة صادقة لمقاومة التيار الذي تلقف هذه الرواية وحصر مؤلفها في فضاء دلالاتها الإبداعية والاجتماعية أيضاً، فالنص الشعري السابق يرسم للمتلقي شيئاً من ملامح صوت ((محمد حسن علوان)) المفارق الشخصي.. والمحدود.. والمحلي، وهو قابل أيضاً للبروز كشاهد من شواهد جدلي مع من رأوا في ((علوان)) صورة مستنسخة لقسمات سابقة فرضت وجودها الطاغي في ساحتنا الأدبية العربية: ((.. في ظني أن الشاعرية الطافرة التي سأفيض في تناولها أشبعت غريزة علوان في الاستنساخ الأصم لهيكلية رواية ((ذاكرة الجسد)) لأحلام مستغانمي من حيث المراوحة بين المشهد واللوحة والموسيقى التصويرية التي تسبق الحدث وتتلوه، فضلاً عن شطر الفضاء الروائي إلى عالمين حتم على أحدهما ان يكون قصياً ثرياً بموجودات قابلة للتشريح ومعجم يمنح المشاهد بعدها التكاملي، ومن زاوية أخرى يخشى أن يفقد الطابع النزاري الذي هو نواة ومدار المضمون الروائي، فأثقله كثيراً هذا العبء من الموروثات النفسية فكان ضحية تلاقح أحلامي نزاري أنجب علوان إنجاباً خديجاً سيسعى وحيداً اتحقيق نموه وتكامله دون تدخل أبوي. لكن ما نوع الأبوية هنا..؟)) (2).

.. ونقرأ في موضع آخر من القراءة النقدية نفسها: ((.. إن ما يقدمه علوان في خطابه أداء شعرية مقهورة قَولَبها بمهارة لغوية فائقة صيغت على نحو معادلة محكمة بلغت لدى المتلقي العجول مبلغ الفلسفة أو تأملات عين دامعة لدى المتلقي الفاحص في الوقت الذي لا يُرى فيه حقل دلالي جدير بهذا الانفعال العملاق، فالمضمون ضامر تكراري أكثر منه تعاقب الليل والنهار، وأهل بأن يعالج في قصيدة شعر شعبي، إلا أن علوان يتأبى على التصنيف الآنف، فهروبه إلى كندا والتقاؤه بـ((ديار)) العراقي، و ((مس تنغل))، والعرض الفائض في الشأن العراقي والعربي إيماءة تشي لقراءه بهذا التأبي!))(3).

وفجأة.. يتحول هذا الكائن المستنسخ ((الخديج)) الذي كان حقه ألا يتجاوز ميدان الشعر الشعبي في التعبير عن ذاته إلا أنه ملك الإفلات، والاحتيال علينا من خلال عولمة نصه الروائي بحشر حكايات ((ديار)) العراقي و((مس تنغل)) الكندية، فجأة يتحول لدى الأستاذ الهويمل إلى: ((.. ظاهرة كتابية فريدة نادرة وحقيقة بالمراهنة، ولا أحسب احداً من مجايليه وأترابه يحتكم على شئ من أسرار برنامجه النووي القادم!!))(4)… ربما هي قسوة الصديق المحب الذي يريد لصاحبه أن يتفرد في كل شئ ؟!.. ربما كان هذا هو الباعث لما كتبه الناقد الهويمل ، ولما تضمنته قراءة أخرى (5) من إشارات مشككة بدت أهدأ لغةً ربما!، بل إنني أغلب هذا الظن على أي دافع آخر.. ولكن.. ألستم معي في أن قراءاتٍ كهذه تستهلك جل طاقتها في رصد أوجه التشابه، ومن ثم رفض المشبه تماماً، وتشويه مسعاه حتى لو استشعرنا اعترافه ضمناً (بل وصراحة بالنسبة لعلوان) بتاثره بفلان وفلان من سابقيه؟، وحتى لو لمسنا بأعيننا وأرواحنا نبرته الخاصة وصوته المتفرد القادر على التحلل من سلطة وأسر ذلك النموذج والمثل السابق؟!.

.. أظنكم معي في هذا.. وأظنكم ستتفهمون كذلك فيم حمدت الله على قراءتي للرواية قبل أن أقرا أي تعليق نقدي عليها، خاصةً مثل هذه القراءات الصادة والمنفرة التي تذكرنا بأسلوب الحوار في بعض المسلسلات العربية: (( فلان صحيح حرامي.. بس هو ّ برضه ابن حلال!!)).

… وأظن أيضاً.. أنه بالاعتماد على مبدأ الناسخ والمنسوخ، والسابق واللاحق، فما أسهل أن أقول إن نص علوان الشعري الذي صدرت به مقالتي لا يعدو كونه استلاباً واستنساخاً لصوت محمود درويش أو سميح القاسم، أو ربما (بسبب حدته الصارخة) كان أقرب لصوت أحمد مطر ومن سار في ركبه!!،.. وهكذا.. نظل ما حيينا بعيدين عن الإنصاف في طبيعة استقبالنا لكل من كتب غزلاً بجرأة أحلام ونزار، ولكل من كتب شعراً وطنياً حماسياً بحرارة درويش والقاسم!!.

المكان/الرياض.. ((التي لا تعد بشئ، ولا تفي بشئ!!))

.. دقيقٌ وصف محمد هذا.. إنها فعلاً مدينة الرياض.. السحر.. الأسر.. الاستحواذ.. الأماني.. ثم غالباً أقل القليل منها.. أو لا شيء.. لا شيء.. لا شيء على الإطلاق!، هي كذلك فعلاً.. كشبيهاتها من المدن الكبيرة ((الطافرة)) بكل فتنتها والقها دفعةً واحدةً على وجه الوجود، هي كذلك حين تتلقف طارئيها.. لاهبةً حادبة، ثم تنفيهم (أو هكذا يتوهمون) عصيَّةً متأبية!!… ربما نحمِّلها أكثر مما تحتمل، ربما نُغرق في مطامحنا جامحين.. ثم ننقلب ضاجِّين ناقمين.. حين نسأم من استنجازها أحلاماً لم تقطع بها وعداً، ولم تُقاسم بها أحداً… ربما!!.

((ثمة ارتباط قديم بين اليأس والعادات السيئة، لا يوجد ما هو أشد خطراً على مبادئ انسان من حالة يأس، كل المخالفات نمارسها عندما نشعر أنه لم يعد أمامنا ما نحتفظ بمبادئنا لأجله، دائماً يعصف الحزن بالمثل، فيصمد القليل، ويهوي الكثير، وتنكشف عورات في أجساد كان يسترها الاستقرار، ويبقى إنسانها عارياً في فصول الحياة، يبحث عما يدفئ جلده، ويغطي عريه يدخِّن ويشرب.. ربما يتعهَّر أو يتعاطى مخدراً ما، كل هذه الأشياء كبسولات النسيان المؤقتة التي يخدِّر بها الحزانى جراحاتهم التي أزمنت!!، أي يأسٍ تركتني فيه أنتِ؟!..)) (6)

هل يغني تعاطفنا مع شخصية (ناصر) بطل الرواية المحوري، ومع تداعيات أزمته العنيفة، هل يغني من الحق شيئا؟، وهل يكفي لحملنا على تمرير تلك السقطات الاجتماعية والدينية التي وقع فيها هو .. والمؤلف، بطبيعة الحال، من خلاله؟، لا.. بالتأكيد.. فهنا يحسن بل يجب الوقوف والاستيقاف!!.

لا شك في أن من شاركني منكم قراءة الرواية سيشاركني أيضاً الإحساس بكونها بلغت من الفتنة في حرارة لغتها وعمقها وعذوبتها درجة تحمل القارئ على ((التجاوز)) عما فيها من عثرات، بل ربما حملت بعضنا على إسقاط شئ من لاءاته الحادة والحاسمة حتى حين!!

أجل.. لقد جاءتني ((سقف الكفاية)) متجاوزة إلى حد ((الفتنة))، وفاتنة إلى حد ((التجاوز))، وهنا مكمن الخطر في هكذا نوعية من النصوص الأدبية شعرية كانت أو نثرية.. ومع تسليمي بأن الرياض.. الكيان المكتنز.. الفائر بكثير من صور الصدام بين أرسخ الثوابت وأعتى المستجدات واشدها إغراءً، مع تسليمي بأنها أهلٌ لأن تكون الموطن الأمثل لتجربة كتجربة ((ناصر ومها))، إلا أن عرض الحال في سقف الكفاية تجاوز أحياناً حد العرض والجدل المنطقي إلى فضاء مصادمة الضد والاستهانة بمنطلقاته وإن كان منها ما هو شرعي عَقَدي منفصل عن أطر التقاليد والعادات التي تنتسب إليها كثير من قيود تعاملاتنا و علاقاتنا الإنسانية قد تشفع لأديبنا المبدع فورة شبابه وحداثة تجربته الحياتية والإبداعية، لكن… الشفاعة أيضاً ستقف هنا عند حد لا يمكن غض (الحرف) عنه:

((… الحب مثل الأنبياء، يبشر بالسعادة وينذر من الشقاء، ويحمل بين يديه قنديل الهدى السني، ويمشي وحده في الطريق المظلم… ولا يتبعه إلا قلة!!.. ماذا فعلنا من أجل حبنا… رب رجلٍ هام على وجهه سنوات حتى استعاد حبه، ورب فتاة تدلت من شرفتها حتى صارت قاب قوسين أو أدنى من السقوط ليخلوا لها سبيلها مع حبيبها، وكلهم يظنونهم مجانين، ويرجمون سيرهم ومبدأهم، بينما هم ليسوا إلا فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى))! (7)

لا يا أخي.. حتى وإن قيل إن معجمنا الأدبي تشكل في جزء كبير من صيغه ودلالاته من روح القرآن الكريم والسنة المطهرة، حتى وإن قيل ذلك، فإنه لا نص ولا روح اتباعاً أو ابتداعاً يجيزان التواءً صعباً كهذا!!.. تعلم ، وأعلم، وتعلم معنا أمة محمد يا محمد أن أهل الكهف غير أهل الهوى، وأن ربعنا الهائمين كلما انغمسوا ضلوا، وزادهم الشيطان ضلالاً وغواية!!.

ناصر.. ثم ناصر.. ثم.. لا أحد:

((.. كلما ذهبنا نحو الماضي، كلما بدا الخليط السيكولوجي: ذاكرةً/تخيلاً غير قابل للانحلال، غذا أردنا المساهمة في وجودية (الشاعري) يجب أن نعزز حدة التخيل والذاكرة، لهذا يجب التخلص من الذاكرة التاريخوية التي تفرض امتيازاتها الفكروية، انها ليست ذاكرة حية تلك التي تسير على سلم التواريخ دون البقاء ما يكفي في أمكنة الذكرى، إن الذاكرة / التخيل تجعلنا نعيش مواقف لا حدثية، في وجودية شاعرية لا تشوبها الحوادث، ولنقل أفضل من هذا: إننا نعيش جوهرية شاعرية، وبامتزاج التذكر بالتأملات الشاردة الجانحة يستحيل مخزوننا من الماضي إلى ذاكرة كون شامل لا تاريخ خاص بنا فحسب، وبهكذا ممارسة أيضاً يمكن أن تفر بنا عزلاتنا من ضيق ما نعيشه إلى رحابة ما يمكن أن يُعاش ولو بعد حين، وهنا.. يعرف الكاتب كيف يغرس نوعاً من الأمل في ثنايا الكآبة.. قدرة تخيل يافعة في ذاكرة لا تنسى، نحن حقاً أمام سيكولوجيا حدود، وكأن الذكريات تتردد في تجاوز حدود لانتزاع حرية ما!)) (8)

.. في ضوء تفسير كهذا، لطبيعة تعامل الشعراء مع إرثهم من جراحات الماضي، يمكن تبيُّن الباعث وراء هيمنة شخصية ناصر على ما عداها من شخصيات سقف الكفاية، وليس لأن علوان شاعر.. بل لأن بطله في الرواية صُنِّف كذلك، أجدني محكومة في الاستمرار في النظر إلى هذا المنجز الإبداعي كقصيدة/رواية، في آن واحد، ناصر.. اليتيم.. المتوسط الحال، ينغمس فجأة في غمرة حب عاصف متدفق تغيبه فيه ملكة متوجة على عرش الجمال والفتنة والذكاء والمال أيضاً، ويلفظ أيضاً فجأةً خارج مملكتها المنيعة وكأن شيئاً لم يكن!!

ما الذي ننتظره من متفجع موتور غير صوت الندب والعويل والانجذاب فقط إلى كل ما يستدعي الندب والعويل فيما حوله من الأشياء والأحياء، بل إنه يتجاوز هذا الـ((حول)) إلى أكوان أخرى قصية أمرُّ تفجعاً، وأحرُّ لوعةً، آملاً في أن يتداوى.. بالتي كانت هي الداء!!

أسرف المؤلف وبالغ في تسييد ناصر على كل ما عداه ومن عداه، أجل.. استطرد كثيراً، واستعرض وهو يفلسف حزنه، مستعذباً بكائياته، مهدهداً انكساراته، أجل.. ولكن.. الم يكن الجرح مسرفاً في عنفه، بالغاً في نزفه، بليغاً في زلزلة كيان وكون ناصر؟، ألم تكن هذه هي حاله، على الأقل من وجهة نظره التي لا نملك إنكاره عليه؟!.

لا أعتقد أنه كان من السهل أن ترتسم لنا تلك الصورة الحية المجسدة لآلام البطل لو تم الاستغناء عن بعض مقاطع الرواية كما أشار إلى ذلك عدد من النقاد، وإذا كان التكرار مملاً بشكل عام، فهو في مواقف التفجع والأسى رافدٌ يضيف للعمل ولا يسلب منه، خاصة وقد امتلك الكاتب هنا القدرة على تجديد صوره، وابتكار تعبيراته، واستدعاء المواقف المعينة (9) على إبراز تلك الصور والتعبيرات طافرة بالتوقد والحيوية، رغم كونها تتضافر إجمالاً للتعبير عن أزمة محورية وحيدة.

إن في امتزاج حالات التذكر والاستدعاء لدى ناصر بتدفق سيل وراء سيل من تأملاته الشاردة الجانحة محاولة شبه يائسة لما يمكن تسميته ((اقتصاصاً للذات)) ونشداناً للتحرر من حال الاستسلام تلك بإضفاء سمة من سمات التفرد والخصوصية لطبيعة تعاطي شخصيته مع الحب كعاطفة جارفة قد تسوق المبتلى بها إلى أحدّ منحدرات التعاطي وأعمقها، فتفاصيل علاقته بمها، وتحديداً الأجزاء التي تصور مدى ما بلغته حالة التقارب الحسي بينهما، ثم محاولة تحجيمها عند حد ما لا يمكن استيعابه منطقياً حتى وإن كان لصاحبنا جذور ضاربة في أعماق الهند (10)، هذا المسلك.. أو هذه الممارسة.. يصدرانه في ذروة التسامي والتعفف، نبلاً وإخلاصاً، مع أنه كان قاب قوسين أو أدنى من…!.

ذاك في ظني ضرب من الاحتيال النفسي المتواتر على ممارسته على مدى عصور القدم.. والندم.. ولا أكثر!!، ورحم الله إبراهيم ناجي و((الغبار الآدمي)) الذي أبدع في تصوير نجاته من مسه، فقد ساقتني مقاطع من الرواية إلى أعتاب أطلاله التي عجز البِلى أن يفنيها في أرواحنا!.

هوامش: