arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

مجلة اليمامة

سقف الكفاية، سقف اللغة

ليلى إبراهيم الأحيدب

كاتبة وقاصة سعودية

في الإجازات، وفي ليالي الضجر الطويلة فقط، عادة ما ألجأ إلى الكتب التي أؤجل قراءتها، أتصفح العناوين، وأنتقي مجموعة منها، ولكي أنتقي ما سأقرأه أولاً أفتح الصفحة الأولى، فإن اجتذبتني أكملتُ القراءة، أو انتقيتُ كتاباً آخر، وفي إجازتي هذه انتقيتُ مجموعةً من الكتب لكتّاب سعوديين، وكان أول هذه الكتب هو رواية (سقف الكفاية) لمحمد حسن علوان، وحقيقة لم أضطر لانتقاء كتاب آخر، فقد جذبتني الرواية من الأسطر الأولى، استدرجتني بعذوبة وإغواء، ومن يستطيع أن يقاوم الحزن المجدول بقصة حب مستحيلة؟

شدتني الرواية كثيراً، هل لأنها مبنية على قصة حب؟
أم لأن لغتها أنثوية حالمة وفيها صدق جارح؟

وعندما أقول أن لغة الرواية لغة أنثوية فأنا أعني أن بها ليونةً ودفئاً، لغة مليئة بتفاصيل أنثوية، فيها الأنثى هي البطلة!، والرجل تابع ذليل بحبه، مذعن لهذه الأنثى التي تعشقه وتعشق غيره وتتزوج من ثالث!، الرواية أنثوية البناء، فيها تتصاعد الحكاية الحالمة من باب الذكريات القديم الذي تطرقه دائماً أيدي النساء، اللغة في رواية سقف الكفاية رواية أخرى!، لغة محملة بالصدق الفني الجارح، تقرأ الرواية وتشعر أن الرواي لا يكتب رواية بل يروي حقائق حياتية صادقة.

لماذا قلت إن اللغة في رواية سقف الكفاية أنثوية؟

ربما لأنها لغة أعرفها جيداً، تشبهني وتقترب مني كأنثى، لغة دافئة وموحية، بينما أغلب ما قرأت من كتابات الرجال تبدو اللغة لديهم جافة ليس فيها رواء الأنوثة، خاصة حين يتحدثون عن الحب، فتجد كتاباتهم مليئة بالوصف الحسي الجامد الذي يصورهم كرجال يكتبون عن أنثى لا تشبهني، رجال يصورون المرأة كما يرونها جسداً وتفاصيل مغرية!، بينما في لغة علوان تجد الوصف الحسي موجوداً ولكن بروح أنثوية أليفة، وعندما أقول أليفة فأنا أعني غير منفرة، ولا مهينة، لأني أذكر في رواية لتركي الحمد كان الوصف الحسي لجسد المرأة تقليدياً جافاً ومرتكزاً على الإرث الإغرائي لجسد المرأة، شعرت معه أنه وصف مهين ومبتذل، ورغم احتشاد رواية علوان بهذا النوع من الوصف إلا أنك لا تجد فيه ابتذالاً بقدر ما تجد إسهاباً يصل إلى درجة التكرار أحياناً، لكنه مع وصفه الحسي الجريء لا يبتعد عن روحانيته كمسلم، فهو يشعر بالذنب بعد كل رحلة ليلية يقوم بها لمحبوبته، ويذكر التوبة والاستغفار، تشعر في الرواية بهويته كمسلم بذكره لصلاة ودعوات أمه وأذكارها، دون وعظية أو مباشرة فجة، بل تأتي هذه الروحانيات في ثنايا روايته كجزء من حياته كمسلم، مذنب ربما لكنه لا ينسى أبداً أن له رباً سيؤوب إليه وسيحاسبه، بينما في كتابات أخرى ترى الكاتب يروج لروايته بشيئين وهما: الوصف الجنسي الفاضح والمرتبط بأخلاقيات المجتمع الذي تكفل هو بفضح مستوره، وكيل الاتهامات المبطنة للدين ورجاله، معتقداً أنه بهذين الشيئين سيروج لروايته، وسيجعلها مقروءة عربياً، وربما، إن حالفه الحظ، عالمياً. لكنك في رواية علوان لا تجد هذا الزيف، فهي قصة حب عادية، نهضت بها لغة صادقة وبناء محكم.

لماذا شدتني رواية سقف الكفاية؟

ربما لأن اللغة في رواية علوان صادقة وليس فيها ادعاء، وأعني بذلك أن الكاتب هنا لا يصور ذاته الكتابية بنوع من الادعاء، بل يصورها بطقوس عادية ليس فيها تفخيم للصورة المطروحة إعلامياً للكاتب، بينما في كتابات أخرى لكتاب آخرين، ترى كتّابها يصورون ذاتهم الكتابية بصورة مفخمة لأدوارهم في الحياة، وكونهم مختلفين، لا يجدون من يفهمهم، بينما في رواية علوان لا تجد هذه الذات المتضخمة، بل تجد شاباً يافعاً يرى في الكتابة أنيساً، لا يصورها كهالة تحيط به، بل هي فعل حياتي مندغم مع تفاصيل حياته اليومية والعادية.

لماذا شدتني الرواية وأكملتها في يومين؟

ربما كما يقول صديقي الغائب عبدالله باخشوين لأنها استطاعت أن تجعلني أكملها!، هكذا كان باخشوين يعلل عدم قراءته لأعمال بعضهم، لأنه ببساطة لم يستطع أن يكملها، وباخشوين من الذين لا يدعون، بل يكتبون بنقاء حبات المطر، ذكرتني الرواية برؤى باخشوين عن الكتابة، لذلك تمنيت لو يقرأها ويبدي رأيه، بعض الكتابات لا تستحق أن أضيع نهاري في تتبع زيفها، إلا إن كنتُ أرغب في أن أتحدى حدس الأوليّ، أو أؤكده.

هناك بعض الهنات في الرواية، كنت أتمنى لو لم تكن موجودة، مثل إطالة المقاطع التي يصف فيها لقاءاته مع مها، مثل المقاطع الشعرية الكثيرة في الرواية، مثل بعض حواراته السياسية مع صديقه ديار، وهذه بالمناسبة فيها شيء من الادعاء الكتابي، وربما هي محاولة من الكاتب لجعل الرواية ذات عمق سياسي، وليس فقط عاطفي، لكني أقول لعلوان الكتابة الجيدة لا تحتاج لترويجها عبر السياسة، لأن الفن الذي يدعي النضال، كما يقول باخشوين، فاسد بالضرورة. ويقول أيضاً إن الفنان الذي يريد لفنه أن يكون فاعلاً ومؤثراً عليه أن يعبر عما هو حميم وخاص، انتهى النقل عن باخشوين، وباخشوين مدرسة حقيقية استفدتُ منها في بداياتي ولا أزال، لذلك أنصحك أن تتعلم من هذه المدرسة، إن سمح لك باخشوين بذلك.

بقيت نقطة أخيرة، لو لم أفتح الصفحة الأولى وأقرأ، لما جذبني العنوان أبداً، سقف الكفاية عنوان جاف، لا يليق بهذا الطقس العاطفي الممطر، أليس كذلك؟