arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة الفجر المصرية

رحلة شيخ المتصوفين ابن عربى

من دمشق إلى "البوكر"

رشا سمير

كاتبة مصرية

فى رواية بديعة للروائى للسعودى الشاب محمد حسن علوان الذى يحمل شهادة الدكتوراه في التسويق من جامعة كارلتون، يروى لنا ببراعة فائقة سيرة إبن العربي فى الرحيل ومخطوطته التى جابت البلدان من حلب إلى دمشق..ومن الكرك إلى سمرقند..ومن أماسيا إلى إستانبول..ثم إلى دمشق من جديد..

إنها فى المُجمل رحلة هذا المخطوط، بل ويشهد هذا المخطوط على أحداث تاريخية هامة عاشتها بعض البلاد في أكثر من زمان، أحداث تتوالى لتعرف القارئ بأحداث هامة منها تدمير هولاكو لحلب، وزمن الظاهر بيبرس في الكرك، وزمن الامبراطورية العثمانية، والاحتلال الفرنسي لدمشق وحتى أحداث 1982 في بلدة حماة السورية..

الرواية تقع فى 591 صفحة من القطع المتوسط وصادرة عن دار الساقى للنشر وقد حازت على جائزة البوكر للرواية العربية لعام 2017..

الجدير بالذكر أن هناك اهتمام غربي واضح بأعلام المتصوفين، ظهر وتكرر فى كثير من الأعمال، منها القصة التى غيرت معالم الرواية الطويلة في (قواعد العشق الأربعين) لإليف شافاق التي قصت فيها سيرة مولانا جلال الرومى وتلميذه شمس التبريزى، وكذلك فعلت نهال تجدد في (الرومي نار العشق)، وقبل ذلك كان هناك إهتمام غربي بالسير الذاتية للعرب بصفتهم يحملون نصف حضارة العالم بين ضلوعهم..حيث كتب الفرنسي جيلبرت سينويه فى هذا السياق عن ابن سينا، وكتب عن (محمد علي) روايته الفرعون الأخير، وبالمثل تجلى الأسبانى أنطونيو جالا فى الكتابة عن سيرة آخر سلاطين الأندلسيين في روايته (المخطوط القرمزي)..

تدور الرواية فى قسمين متوازيين كلاهما سردى من الدرجة الأولى..هكذا يختار محمد حسن علوان لروايته حبكة تسير وفق خطين، الثاني منها هو سيرة ابن عربي، التي تحتل القسم الأكبر من السرد، غير أن الخط الأول يعطي الرواية معنى مختلف متميز ويزيد من قيمتها التاريخية والإنسانية، فالروائى يتخيل وجود مخطوط كتبه الشيخ بنفسه مدونا فيه سيرة حياته، وقد انتقل هذا المخطوط من يدٍ إلى يد، تاريخ انتقال المخطوطة تحكي سيرة ابن عربي منذ عام 610هـ/1212م حتى تصل لأيدينا عام 1433هـ/2012م وهى التي تدون الأيام العصيبة في التاريخ الإسلامي وتسردها بواقعية..

وفى الجزء الثانى أيضا تأتي سيرة ابن عربي منذ ميلاده وحتى وفاته وما مر به هو شخصيًا من ابتلاءات وصراعات مع البشر وإضطهاد كل من عاصروه ولم يتفهموا رسالته حتى إنتهى به الأمر فى السجن.. يدخل الكاتب منعطفا آخر وينبش فى منطقة لم تكن معلومة لدى كثيرين وهى رحلته الطويلة من الأندلس حيث وُلد وترعرع إلى دمشق مرورًا بالقاهرة ومكة وغيرها من حواضر العالم الإسلامي للبحث عن أوتاده الأربعة، حتى ينتقل بجوار ربه.

 

الأوتاد الأربع:

تظهر من بين صفحات شخصية كان لها تأثيرا عظيما فى تشكيل شخصية الشيخ الجليل..وهى شخصية مرضعته “فاطمة بنت المثنى” وهي صاحبة الأثر الكبير عليه، فهي التي تنبأت منذ ولادته أنه سيكون مختلفاً عن أبيه، وهي من أخبرته أن له أربعة أوتاد في هذه الأرض وكي يجدوه أويجدهم عليه أن يطهر قلبه من كل الأثام الإنسانية..

يكبر إبن العربي رجلا مختلفاً عن كل من حوله، ويظل تائهاً إلى أن يحين موعد الجذبة الأولى التي يعرف بعدها الطريق الذي يجب أن يسلكه. هكذا يبدأ أسفاره من بلد إلى آخر، بحثاً عن أوتاده الأربعة، غير أن البحث يكون شاقا ولا يخلو من الجملة المحفورة فى ذاكرته وهى العبارة التى أوصته بها أمه الروحية فاطمة، حيث قالت له:

“طهّر قلبك، عندها فقط يجدك وتدك”..فتظل مهمة عثوره على الأوتاد طوال رحلته الصوفية الإنسانية البحتة مهمة ليست سهلة على الإطلاق..

 

 

تاريخ الصوفية:

اختار محمد حسن علوان أن يكون الراوى العليم فى هذه الرواية هو إبن العربي نفسه، وهو سلاح ذو حدين، فالكتابة فى التاريخ مهمة شاقة ووعرة جدا..إما أن ترفع الكاتب إلى قمة الجبل وإما أن تقذف به إلى سفح الإنتقادات والهجوم..فما بالك بالحكي على لسان الشخصية التاريخية نفسها..حينذاك يجب على الكاتب أن يُحيك كلماته لتناسب الشخصية بمنتهى الدقة، فهو مُكلف بأن ينقل طريقته وأسلوبه وكلماته ومواقفه على الورق، بل ومُجبرا على تقديم تلك اللوحة بكل صدق خصوصا لو كانت الشخصية معروفة..

تنقسم حياة إبن العربي إلى أكثر من محطة..ويبقى الهدف فى كل محطاته واحد..إنه ينتقل من مكانٍ لآخر بحثًا عن الأوتاد الأربع  الذي لا يستقيم قلبه ولا ولايته إلا به.

فالحقيقة التاريخية تشير إلى أن المتصوفة قد قاموا بتقسيم مراتب الولاية عندهم  إلى (القطب) أو(الغوث) وهو أكبر الأولياء جميعًا وهو واحد في كل زمان ويأتى من بعده الأوتاد الأربعة، وكل واحد منهم في ركن من أركان العالم يقوم به ويحفظه، لذلك كان لزامًا على ابن عربي حتى يحصل على مرتبة (الولاية) أن يصل إلى هؤلاء الأوتاد الأربعة، والذي ينكشف لنا من خلال رحلته أنه لا يصل إليهم  بسهولة، بل وأنهم قد كانوا بجواره فى بعض الأحيان وهو لم يعرف أنهم أوتاده.!

على سبيل المثال، حين يصل إلى مكة.. ويقابل (نظام) كريمة الشيخ (زاهر الأصفهاني) فيقع فى غرامها، ويكتب لها ديوانه الأشهر «ترجمان الأشواق» الذي بث فيه أكثر شعر الغزل المنسوب إليه، وأراد أن يتزوجها، ولكنه فوجئ برفضها فى البداية، ليكتشف فيما بعد أنها كانت وتدًا من أوتاده التى لم يراها في حينها ولهذا لم يكن ممكنًا أن تتزوجه!

بالفعل نجح علوان فى رسم بورتريه إبن العربي بنفس ألوانه ورتوشه وساعده على ذلك من وجهة نظرى عدم وجود سيرة ذاتية حقيقية للرجل على لسانه هو شخصيا، اللهم إلا  القليل الذى  كتبه هو بنفسه في كتابه الأشهر (الفتوحات المكيّة)، أو الإجتهادات التى جمعها المستشرقون والباحثون من سيرته..إذن عدم كفاية المراجع أعطت مساحة للروائى أن يترجل بحرية فى تفاصيل حياة الإمام.

 

لقائى بالكاتب:

إستطاع محمد حسن علوان بحرفية شديدة أن يبتعد عن مجرد سيرة إمام متصوّف زاهد فى الدنيا وعاشق لله فى ملكوته، وأن يتجول فى منطقة أخرى بعيدة غير نمطية..فيتناول سيرة الرجل من منطلق أنه إنسان من لحمٍ ودم، أعطاه الله بعض العلم والفضل، ولكنه لم يكتفى بهما بل يسعى للحصول على المزيد، محاولا تطهير قلبه من أى شائبة تشوبه، وحتى عندما تتحامل عليه الدنيا فتُلقى فى طريقه الكثير من الحمول والهموم يصبر ويتحمّل، ويُصبح تصوفه حملا مُلقى على عاتقه بجانب الأحمال الأخرى..

أتذكر أننى يوم التقيت الروائى محمد حسن علوان فى معرض كتاب أبو ظبي وكان ذلك بعد فوزه بجائزة البوكر لعام 2017، سألته:

من أى منظور أردت أن تصل الصورة التى كتبتها عن إبن العربي؟

 

رد دون تفكير:

“أردت أن أنزع الهالة الأسطورية التي يتعامل بها البشر مع الإمام..وأردت أن أكشف عنه الغطاء لتظهر إنسانيته، فهو ليس بالملاك الذى ينطق بالوحى ويعلم الغيب كما يراه أتباعه ومريديه، وهو ليس بالشيطان الزنديق الذى يتحدى الأعراف كما يراه أعدائه من المتشددين..إستوقفتنى سيرته فى الترحال..فقررت أن أتتبع خطواته فى السفر والرحيل وأكتب عنه من منظور مختلف..منظور الرحلة إلى الله”..

هكذا سرد علوان لنا كيف إلتقى ابن عربي ببشر مختلفين، ألهمونه وألهمهم، تعلم منهم وعلمهم، كيف صحب أولياء وفارق أوتاداً حتى وصل إلى نهاية الرحلة، وكيف أنه سُجن بسبب معتقداته وأفكاره، وتعلق قلبه بأكثر من امرأة..هذه هو ملخص حياة إبن العربي كما سرنا في دهاليزها خلف الروائى..

 

كلمة فى حق الروائى:

مما لا شك في أن الجهد البحثي الكبير الذى بذله الكاتب فى هذه الرواية كان جليا وكبيرا، وقد أداه الكاتب باقتدار، سواء في البحث عن تفاصيل سيرة حياة الشيخ الجليل أو فى صياغته فى وصف دقيق للأحداث من حوله..

محمد حسن علوان فى الأصل شاعرا، وهو ما خدمه كثيرا فى كتابته لتلك الرواية، فلغة الرواية قوية منضبطة وفى نفس الوقت حالمة شاعرية مُغلفة بحالة من التصوف اللغوى الذى إستطاعت كلماته الرصينة أن تأخذ معها القارئ، فعادة ما يقول القارئ فى نفسه وهو يقرأ أى عمل أدبي:”ماذا لو إستبدل الكاتب هذه الكلمة بتلك؟”..وهذا ما لم يحدث ولو مرة واحدة وأنا أقرأ الرواية بشغف كبير..الكلمات منتقاة بحرص وحب، سطور متناغمة وسلسة تجعلك تلتهم الرواية بعقل يفكر ويتضرع إلى الله..

كما أن الروائى إستطاع أن يصل لتفاصيل العصر القديم، بأوصاف نجح كثيرا فى أن ينتقيها لتعبر عن الحقبة الزمنية بملابسها وأدواتها وملامحها المختلفة، وكأنه كان يعيش بينهم..

الأكيد أن كم البحث المبذول فى الرواية يدفعنى للإنحناء أمام عبقرية الكاتب وقدرته الروائية على الحكي والتصوير..فعادة عندما تطول الرواية وتكثر صفحاتها، يفقد الكاتب فى مرحلة ما قدرته على المُضي فى السرد دون الوقوع فى فخ الملل أو التطويل..أما هنا فعلى العكس، بالرغم من أن الرواية تقع فى 591 ورقة بل وهى رواية دسمة وثقيلة إلا أنها لم تصيبنى أبدا بالملل، بل جعلتنى كقارئة فى كل صفحة أقرر أن أُحزم حقائبي من جديد وأقتفى آثر إبن العربي فى رحلة أخرى..علنى أنتهل من سيرته المزيد من عشق الله..