arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

مجلة نزوى

«مـوت صـغـير» لـ محمد حسن علوان

حكاية مـتخيلة عن ابن عربـي

مها بنسعيد

ناقدة مغربية

رواية موت صغير” للكاتب والروائي السعودي محمد حسن علوان، صدرت عن دار الساقي الطبعة الأولى عام 2016، والطبعة السادسة سنة 2017، وهي من الحجم الكبير عدد صفحاتها 591 صـفحة. زيّن غلاف الرواية بصورة البطل الرئيسي للرواية المتأمل، والعالم الصوفي، والعاشق، والباحث. صممه ببراعة فائقة الفنان سومر كوكبي.

تصب هذه الرواية المتخيلة في خانة المغامرة والتجريب، بموضوعها المتعلق بالرواية التاريخية، والسيرة الروحية لعالم صوفي، ورمز التراث الأدبي والفكري. أرخت كذلك لسيرة شيخ الصوفية “محيي الذين بن عربي”، إذ جعله الكاتب بطلا للأحداث وحياته محورا لها، من خلال أداء سردي واع، اتخذ من العالم الأبرز في التصوف الإسلامي موضوعا لها، ناطقا إياها بضمير المتكلم، تاركا للقارئ فرصة اكتشاف عالم المتصوف، وحياته، ومؤلفاته، وتفاصيله المليئة بالدهشة والغرابة واللذة والترحال والشطحات والعشق والوجدان والحب الإلهي والجذبة والحياة والموت.

من خلال تأملنا للعنوان ”موت صغير”، الذي استنبطه الكاتب من قولة “ابن عربي” الشهيرة “الحب موت صغير” والتي سيجت وأضاءت فضاء الرواية، من خلال حضور ثنائية ”الحياة والموت”، في تجربة الحب التي عاشها البطل، وهي تعد من أجمل المقولات له؛ إذ لخص فيها مفهوم الحب والعشق، لكن مدلوله لا يتحقق إلا في منتصف الرواية. وهذا ما يجعلنا نستحضر بيت “ابن عربي” :

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ
رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني

لا يفصح العنوان علنا عن هذا الحب، بل تركه للقارئ ليكتشف الموت الصغير، الذي يصنعه الحب في روح وجسد المحب، الحب الإلهي، لا ينفصل عن الدنيوي، ومن ذلك تصدير الروائي للرواية بقولة “ابن عربي”:

”إلهي
ما أحببتك وحدي
لكن أحببتك وحدك”.(1)

تقع الرواية في اثني عشر سفرا، شكلت مائة مقطع منها، وختمها بالسفر الأخير، لتتبع مخطوطات “ابن عربي” الموازية لحياته، والمكتوبة بخط ضاغط. تبدأ الرواية بتوقيت أذربيجان 610 هـ / 1212م ، وفي الصفحة 50 نكون في حلب 646هـ /1248م، وفي الصفحة 95 ما زال المخطوط في حلب 657هـ/1259م ، وفي الصفحة 175 نكون في دمشق 658هـ /1260م ، وفي الصفحة 240 نكون في الكرك 708 هـ / 1309م ، وفي الصفحة 287 نكون في سمرقند 804 هـ / 1401م، وفي الصفحة 336 نكون في أماسيا 811هـ /1409م، وفي الصفحة 375 نكون في استانبول 1022هـ / 1617م ، وفي الصفحة 487 نكون في دمشق 1344 هـ / 1925م ، وفي الصفحة 540 نكون في حماة 1402هـ /1982، وفي الصفحة572 نكون في بيروت 1433هـ /2012م.

وما إن قلبت صفحة ظهر الغلاف نجد ما يلي : ” منذ أوجدني الله في مرسية حتى توفاني في دمشق، وأنا في سفر لا ينقطع رأيت بلادا، ولقيت أناسا، وصحبت أولياء، وعشت تحث حكم الموحدين، والأيوبيين، والعباسيين، والسلاجقة، في طريق قدره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. المؤمن في سفر دائم . والوجود كله سفر في سفر . من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم. ”
تسلط الرواية الضوء على الأحداث التاريخية، والأوضاع السياسية، المرافقة لسنوات طفولة “ابن عربي”، مع الصراع بين المرابطين، والموحدين. انتهى بانتصار الموحدين وحكمهم للأندلس. كما قدم المؤلف محطات مهمة من التاريخ الإسلامي، منها: الحروب مع البرتغاليين، وثورات بني غانية في تونس، والحروب مع الإفرنج في مالطة، وغيرها… بالإضافة إلى الفتن، والنزاعات بين الملوك، والأمراء، خاصة أن “ابن عربي” تنقل بين عدة أمكنة، الشيء الذي جعله يعيش تحث حكم الأيوبيين، والموحدين، والعباسيين، والسلاجقة.

اختتم المؤلف كل سفر من الأسفار بحكاية من المخطوط، وانتقاله من مكان لآخر. كما أن كل وحدة من الوحدات، يتصدرها استهلال بعبارة “ابن عربي” المنسجمة مع موضوع السفر. وفي بعض مقولات ابن عربي نذكر منها: “” من لا حكمة له لا حكم له””، ”السفر إذا لم يكن معه ظفر لا يعول عليه”، ”كل فن لا يفيد علما لا يعول عليه”، ”يا حذري من حذري ! ”، ”كل نور لا يزيل ظلمة لا يعول عليه”، ”الممكن برزخ بين الوجود والعدم”، ”الحب موت صغير” ،”الحب سر إلهي”، ”كل معرفة لا تتنوع لا يعول عليه”، ” ما في الوجود إلا محب ومحبوب”، ”كل إرادة لا تؤثر لا يعول عليها”، ”كل حب يزول ليس بحب”، ”الصبر عند الصدمة الأولى. الصبر الثاني لا يعول عليه”، ”الإنسان عالم صغير. والعالم إنسان كبير”، ” المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه”.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية، فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية بوكر 2017. فوز مستحق لروائي، وباحث مثقف، انشغل بالقضايا الصوفية، لكن برؤيا علمية حديثة. فاستطاع أن يخوض بجرأة حياة المتصوف العالم “ابن عربي”، كشخصية مثيرة للجدل فكريا، وعقديا، وأخلاقيا، واكتشاف عالمه، وتفاصيله في كتبه، ومؤلفاته.
تتخذ الرواية بدايتها، موقعا جوهريا للدلالة على الشخصية التاريخية، والصوفية، “لمحيي الدين بن عربي”، كشخصية إشكالية طرحها الكاتب لإعادة إنتاج سيرتها، بمنظور روائي، فاستحضره في سياق الكائن البشري، لتحقيق متعة النص ولذته، في إطار عمل أدبي محكم .

جاءت الرواية على لسان الشيخ الأكبر متحدثا عن نفسه، من قبل ولادته في مرسية (الأندلس)، في عهد الموحدين إلى بعد مماته في دمشق، إذ اتخذ منه الروائي ساردا لكل أحداث الرواية. حيث وظف كرامات المتصوفة مستهلا السرد بقوله: ”أعطاني الله برزخين: برزخ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني، وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني.”(2) بين هذين البرزخين يعيش “ابن عربي” الإنسان حياته وموته. من هنا ابتدأت رحلة “ابن عربي”، رحلة الكشف، والحب، والبحث عن المجهول. بقوله : ” ما أوجع أن نفارق البرزخ، الذي كله كشف في كشف لندخل الدنيا التي كلها جهل في جهل”. (3)

فقد كان مولد “ابن عربي” في مرسية، من أب يعمل في بلاط الملك ابن مردينش، الذي تحالف مع الفرنجة ضد دولة الموحدين، ومن أم لم تترك أثرا في حياة ابنها، باستثناء مرضعته فاطمة بنت المثنى، التي تنبأت منذ ولادته أنه لن يسلك درب أبيه:””حملتني فاطمة إلى أبي ذلك المساء، فهش وبش، وعلمت فور أن وقع بصري على وجهه المستدير، أن ولادتي هي تأويل الشامة التي عاشت تحث عينيه اليسرى، طيلة حياته وبشرته بها فاطمة: يا علي إن موقع الشامة من وجهك يعني: أن يولد لك ابن يرفع لك ذكرك، ويحفظ لك قدرك، ولكن مكانها تحث عينيك يعني أنه يخالف دربك””.(4) كما أخبرته مرضعته، أو أمه الروحية، أن له أربعة أوتاد أولياء، مقيمين في بقاع الأرض، ولكي يجدهم يجب عليه تطهير قلبه. “”طهر هذا… تم أتبعه وعندها فقط يجدك وتدك””.(5) فتظل مهمة البحث عن الأوتاد المتميزين الذين يثبتون قلبه طوال رحلته الصوفية. وقد كان لهذه المرضعة الأثر الكبير، في جذبه إلى الوله الإلهي، ولكي يصل إلى المرتبة العليا في التصوف ينبغي أن يصل إلى أوتاده، وهم لا يجدهم بل يجدونه. تلك السيدة الحالمة، الفقيه، مثلت “لابن عربي” المعلمة، والمربية، فقد شكل حديثها حول الأوتاد حبكة الرواية.

احتل الأب في الرواية موقعا مهما في بلاط الخليفة، مقربا من ذوي السلطة، والجاه. وقد كان حرصه الشديد على تعليم ابنه الوحيد، جميع المعارف، والدروس المتعلقة بالسباحة، والرماية، وركوب الخيل، التي اعتبرها “ابن عربي” دروسا بلا جدوى لكرهه للسباحة وغيرها.” ما عرف أبي أن السباحة هي العوم في ملكوت الله، والرماية هو قول الحق موقف الخوف، وركوب الخيل، هو السفر في طلب العلم. أخذ أبي الظاهر وكشف لي الباطن. فأجبرني على ما لا أحب وأمرني بما لا أطيق.”(6) كما حرص أيضا على تعليم ابنه، جميع العلوم بحضوره حلقات الدروس في المساجد، فدفع به إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فنشأ ملما بالقرآن والحديث والتفسير.

عمل الروائي على تقديم شخصيات الرواية بشكل مباشر، فعمل على رسم تفاصيلها النفسية، والجسمانية، بشكل دقيق. مع رصد التحولات الخاصة، مثلما حدث في تحول العلاقة بين “ابن عربي” وزوجته الأولى مريم بنت عبدون ”أديبة خلوقة عالمة أريبة وأيضا جميلة “”(7)، أنجب منها “زينب” غير أن الحياة الأدبية، والعلمية لم تتحقق بينهما باستثناء حضور “مريم” المرأة الجميلة، التي تسافر صحبة ابنتها وتفجع بموتها، كما تحضر جسدا يتغنى به زوجها “أحببت مريم ذقنها الحاد وعينيها الوثابتين جسدها المائل لامتلاء وكفيها السمينتين اللتين كانت تخجل منهما” ، “وما أجمل جسد مريم وما أنعمه وأصفاه… جسمها ريان بسمنة خفيفة”. إلى أن تصبح مريم مجرد حدث عابر في حياة زوجها. ”ولم أر مريم بعد ذلك إلا في المنام”. وبعد جمع شملهما بمكة في أول خلوة لهما، بعد انتهاء عزاء ابنتهما الوحيدة، يكون جسد مريم مفاجئا “لابن عربي” بقوله: “”خلوت بها أخيرا ؛ فإذا بها تغيرت علي، زادت شحومها وكأنها لم تسافر ولم تتكل”(8).

لم يكتف السارد بمكة سببا للنفور والجفاء بين “ابن عربي” وزوجته “مريم” والمسؤولة عن فراقهما: “”خرجت من قلبي وخرجت من قلبها دون وداع. هكذا شاء الله. وهكذا أرادت لنا مكة””.(9) بل تحدث عن موتها بعد مرور ست عشرة سنة في بجاية “” استأنفت الناقة سيرها بعد قليل وغابت في الأفق ولم أر مريم بعد ذلك إلا في المنام، عادت إلى بجاية وأقامت مع أهلها ست عشرة سنة ،ثم ماتت وجاءني من يعزيني بها بعد أشهر طويلة وأنا في ملطية [… ] شعرت بألم في ضلعي وأنا نائم دون جهد فعرفت أنها ماتت، فقمت وتوضأت وصليت صلاة طويلة دعوت لها فيها بمقام كريم في الجنة وعدت إلى النوم”(10). من هنا يكون خروج “مريم” من حياة ابن عربي ومن السرد.
من مرسيلية إلى إشبيلية، انتقل “ابن عربي” للتدريس في جامع القصبة، وفيها حدثت خلوته الأولى ”الجذبة الصوفية”، فالتقى وتده الأول الشيخ “”يوسف الكومي” و ”أخيرا التقى المريد بمراده”.(11) حيث تأثر “ابن عربي” بمثونه، وشروحه، والتقى بصديقه “أحمد الحريري”، وتعرفا معا على مجلس فريديريك، لترجمة المخطوطات اليونانية، والرومانية. ومن اشبيلية إلى قرطبة، التقى “ابن عربي” “بابن رشد”، وحاوره حول قوانين الفلسفة، والكشف، والتنبؤات الغيبية، في لقاء اتسم بالبرود.

كان ”ابن رشد” موضع احترام الخلفاء، إلى أن تم إهانته من طرف الحاكم، خصوصا عندما أمر السلطان بنفيه إلى ”أليسانة”، وحرق كتبه باستثناء كتب الطب، والحساب، وعلم النجوم. كما طال هذا الغضب عالما آخر، هو ”الشيخ الغوث بن أبي مدين”، الذي وافته المنية في طريقه إلى الخليفة عند استدعائه له، وكان وقع موته مؤلما عليه، خوفا من عتاب طلابه، وتلامذته، مما نتج عنه إصدار العفو على “ابن رشد”، رغبة منه في التكفير عن تسببه في وفاة ”الغوث”، بعد قضاء “ابن رشد” ثلاث سنوات في السجن، وموته بعد خروجه منه بعدة أسابيع، فدفن بقرطبة. الأمر الذي جعل الوراقين يعملون على نسخ كتب ابن “رشد”، وبيعها، تحديا للخليفة الذي أمر بسجنه ظلما، وطرده من المساجد، مما أدى إلى اختفاء الخليفة بعد وفاة الفيلسوف نادما على ما فعل فتمت مبايعة ابنه ”محمد بن يعقوب”. بالإضافة إلى ما تعرض له “ابن عربي” من مضايقات تبعا لمزاجية الخلفاء، ومنعه من إقامة الدروس في أي مسجد بمراكش.

جعل الروائي “ابن عربي” يشعر بالذنب، لكونه كان مشاركا، ومساهما، في غضب الخليفة على “ابن رشد”، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا التفكير، معللا ذلك بأن الخلفاء يكرهون الفلاسفة، ومنه استدل على طريقه إلى وتده الثاني في إفريقيا. غادر “ابن عربي” الأندلس، لما عرفته من مشاكل سياسية من طرف كل من الفرنجة، والبرتغال، والموحدين، فقصد المغرب، وبالخصوص فاس، ومراكش، ظنا منه أنه التقى بوتده الثاني “الشيخ أبا بكر الحصار” ، فعلمه الحساب، والأرقام، وعلم الأدوية، وجمعت معارفهما، وسوّدت في كتاب واحد، جمعهما ”بدر الحبشي” خادم “ابن عربي”، ونظمها على هيئة كتاب، أطلق عليه “ابن عربي”، اسم ”البيان والتذكار في علم مسائل الغبار”، في ما أطلق “الحصار” على الكتاب الثاني، عنوان ”إنشاء الدوائر والجداول”.

رحل “ابن عربي” رفقة “الحصار”، قاصدا مكة علّه يعثر فيها على مفاتيح روحه، وفي الطريق إليها، وتحديدا في القاهرة مات “الحصار”، وورثه “الخياط” الذي نصحه بأن يكمل طريقه. في مكة تركته زوجته، عائدة إلى أهلها بعد موت ابنتهما. دفن “ابن عربي” ابنته، ولم يدفن حزنه عليها، طاف ألوفا حول الكعبة ودخل حلقة الشيخ “”زاهر الأصفهاني”” إمام المقام الإبراهيمي، فمكث في درسه عاما تعلم على يد أخته ”فخر النساء”، امرأة مسنة، وعالمة، تلقى منها الكثير من العلم من فنون المعارف. في مكة ألف كتاب “الفتح المكي”، ذكر فيه جميع ما فتحه الله عليه من فنون المعارف في مكة. وفي حضرة العلم التقى بمعشوقته الفارسية ”نظام”، وهما يتلقيان العلم ، تبادل معها الإعجاب، والغزل، والقبلات، والأحضان.”” وانشغلت بي العجوز المسكينة فأصبحت أقرأ عليها كتبا قد قرأتها من قبل فلا تدري لأنها نسيت. وأغمز لنظام وتغمزني، فنبدأ كتابا جديدا نعلم أنه سيستغرقنا أسبوعا من الزمان، أسبوعا من التحليق في جبين نظام الوضاء مثل طائر ضائع.”(12) تقدم “ابن عربي” لخطبتها لكنها رفضت الزواج منه، رغم حبها له، فكتب عنها مجموعة من القصائد، يحكي فيها أشواقه، ولهفاته، ولوعاته، تحول إلى ديوان شهير يحمل عنوان “ترجمان الأشواق”، ولم تنكشف له أسباب رفضها للزواج منه، فسافر إلى دمشق للبحث عن وتده الثالث، ورافقه “بدر الحبشي” لخدمته ونسخ مخطوطاته.

يكشف عنوان ديوان “ترجمان الأشواق”، الحنين الذي رافق “ابن عربي” وحبه “لنظام”، فكتب فيها ديوانا مقلدا في ذلك أسلوب الشاعر الجاهلي، مستهلا قصائده “بالأطلال” معاناته جراء فقدانه للمحبوبة. لكن عند إقامته بدمشق تلقى رسالة من والد “نظام” معاتبا فيه، على ذكر اسم ابنته في القصائد، مما سبب له العار. فاضطر للرحيل من مكة، إلى بغداد رفقة ابنته، الشيء الذي دفع “ابن عربي” إلى إعادة كتابة الديوان بشروح توضح أنه ذو رمزية دينية، وأن قصائد الغزل، والتشبيب، ما هي إلا إيماءات، ورموز من الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، من أجل توضيح الديوان، وتبريء ذمته، في ما نسب من عار لنظام وأبيها. فأطلق على شرح الكتاب عنوان “”ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق””، وأمر “بدر الحبشي” بنسخه، وتوزيعه في كل من مكة، وحلب، وبغداد، والقاهرة، والإسكندرية، وفاس، وقرطبة.

دار “ابن عربي” ثلاثة دوائر في مدن الشام، والعراق، وعاد إلى القاهرة، وصارت له فيها أوسع حلقات الدرس، إلى أن اعترض عليه طلاب العلم في القاهرة، وتعرض للإهانة، بدعوى إفساد الدين، وعلمه غير النافع. فقدم للمحاكمة، ثم سجن في سجنها، بسبب آرائه التي تخالف عقائد الفقهاء والعوام . ”كيف يمكن أن يفهم العامة أن فرعون مؤمن؟ كيف يفهمون أن الله والوجود واحد؟ كيف يفهمون أن الألوهية تسري في جميع المعبودات حثى الأوثان.”
دخل “ابن عربي” في سلسلة المحاضرات الغيبية عند مكوثه في السجن، التقى بكل من شيوخه الذين أحب لقاءهم : السهر وردي في بغداد، والكومي في سلا، والسبتي في مراكش، والغوث في تلمسان، وحضر مع الخياط والحريري في الخانقاه، وجلس معهم بقلبه، وجسده، كما زار مشرق الأرض مغربها، ولقي عشرات الشيوخ، وقرأ عشرات الكتب، وصعد إلى السماء ونزل إلى الأرض.

دافع “ابن عربي” عن نفسه ببلاغة شديدة أمام القاضي، لكن ما أنقده من السجن هو أحد الأولياء “أبا الحسن البجائي” يخرج من قبره، ويشفع له ويتعهد بأنه لن يخرج عن مقاصد الشرع، قبل أن يسير في الهواء ويودعه ونصحه بالخروج من مصر إلى الشام، فأخبره أنه هو وتده الثاني، وليس “الحصار”، ولا “الخياط”، وأوصاه أيضا أن يطهر قلبه ويرحل إلى بغداد، حيث ينتظره وتده الثالث الذي لم يكن إلا “نظام” المرأة التي أحب، وسلكت في بغداد درب التصوف بعد وفاة والدها وعمتها، إذ سكنت في بيت مخصص للنساء العازبات، المتفرغات للعبادة، ونذرت نفسها لرعاية الأيتام .

اعترف “ابن عربي” عند لقائه “بنظام” بحبه، واشتياقه لها، وولعه بها، ومعاتبتها، برفضها الزواج منه، فأخبرته أنها لا تملك ذلك ”لأنها وتده الثالث والأوتاد يتزوجون الأرض يا حبيبي. ”(13) دلته نظام على وتده الرابع في ملطية في الأناضول، كان اسمه “شمس التبريزي”، الذي أمره بتطهير قلبه بالحب. ”الحب يملأ قلبك، مثل بحر عذب تعيش كل سوابحه بسلام[…] إن ديننا هو دين الحب وجميع البشر مرتبطون بسلسلة من القلوب.”(14)

سافر “ابن عربي” إلى حلب رفقة “سودكين”، و”بدر الحبشي”، تزوج “فاطمة” بعد انتهاء عدتها، وأنجب منها “عماد الدين”، فطلقها بعد رجوع زوجها الأسير من بلاد الروم، اعتبرها امرأة سهلة التعويض لكونها لا تبادله نفس المشاعر. من حلب إلى دمشق حتى انتهى به المطاف إلى البقاع بفضل دابته، التي نزعت به غربا والتقائه بالصدفة بالشيخ “يعقوب يوسف” المنزوي في كهف يتعبد. وإصابة “بدر الحبشي” بالجذام وانتقاله إلى حارة المجذومين التي مكث فيها حتى الممات.

اختار “ابن عربي” قبل دنو أجله أن يدفن في الأرض، التي كانت مهبط عيسى عليه السلام. فماجت تيارات الحياة العنيفة “بابن عربي” بدمشق خصوصا عند مناقشة كتابه الأخير “فصوص الحكم” من طرف القاضي، بعد تلقيه عدة شكايات من الفقهاء يحذرون فيها من الكتاب، ومن خطره مما نتج عنه توقيف “بنو الزكي” عطاءهم، في محاولة للضغط على “ابن عربي” بعد أن كثرت ضده الشكايات. فافتقر مما اضطر للعمل كأجير يكسب قوت يومه بتقليم الأشجار، وقطف ثمارها، وجمع الأوراق، وسقي الزرع مقابل درهمين. قضى “ابن عربي” على هذا الحال ثمانية أشهر إلى أن انتهى به المطاف بالموت عن سن يناهز السبعين سنة، وليس قربه سوى زوجته الأخيرة “صفية”، وولده “عماد الدين”، و ”سعد الدين” وخادمه “سودكين”.

تتمثل حبكة الرواية في رحلات “ابن عربي” بداية عن بحثه عن الله، وسعيه للوصول إلى مقام الولاية، بعد رحلة طويلة للبحث عن الأوتاد الأربعة، والتي تشكل الحبكة الأكبر في النص. كما ركز المؤلف على الأحداث التي شكلت سيرة “ابن عربي” وفكره، وحياته الإنسانية، واقفا عند تقاطيع شخصية الإنسان وتحولاتها فيه. بالإضافة إلى ما تركه “ابن عربي” من كتب، وأعمال، ومخطوطات، تتحدث عن سيرته من الولادة إلى الوفاة .

وعلى سبيل اللغة وظف الروائي لغة تراثية تقليدية، ممتعة تحكي تفاصيل حياة متخيلة، تتماشى مع روح الموضوع الصوفي. كما تميزت الألفاظ، والمصطلحات، ولغة الحوار، بالدقة، بما يتناسب مع عالم النص، وروحه، والفترة الزمنية، التي يرصدها، ومن مستويات الإبداع اللغوي هو: اعتماد المؤلف على تقنية وصف الحالات النفسية، والمزاجية المختلفة، والجسمانية للشخصيات، ونحن لا يمكننا أن نتجاوز لغة المؤلف الشعرية، فالشاعر يجيد فن التعامل مع الخيال، والوصف الدقيق، للمشاعر التي تمتد من مظهر الشخص إلى جوهره.

كما ترصد الرواية بؤرة مهمة متمثلة في الصراع الفكري، بين الخلفاء والفقهاء مع المتصوفة، مثل: نفي “ابن رشد”، ومحنة “الغوث ابن مدين”، وما تعرض له “ابن عربي” من مضايقات ومنعه من إقامة الدروس بالمساجد، وسجنه بمصر بسبب معتقداته وأفكاره. فقد اتخذ منه المؤلف شخصية إشكالية مثيرة للجدل لمصادمته للفقهاء والخلفاء. يقول ابن عربي وهو يخاطب قاضي قضاة دمشق : ” أنت تعلم أن بين المتصوفة والفقهاء خصومة […] وأن للفقيه السلطة المطلقة في الدولة من الناحية التعليمية […] هذه المدارس التي يربون تلامذتهم فيها على كراهية المتصوفة، والتقليل من شأنهم والتشكيك بعقائدهم، كل يوم يدخل علينا في الخانقاه من يسبنا ويسفه كلامنا، ومن يدعي أنه منا ليتجسس علينا وينقل كلامنا إليهم. ومن يحاول أن يعظنا ويأخذ على أيدينا وكأننا ضالون. سبحان الله ! ماذا نقموا منا إلا حبنا الإلهي. عجزت عقولهم عن إدراك الباطن فأخذونا بالظاهر.” 15 بهذه الكلمات يوجز الروائي قصة الصراع الفكري بين الفقهاء، والمتصوفة، والفلاسفة، وكيف شلت العقل العربي بانتصار الفقهاء. كما كشف الروائي في نفس المضمار العلاقة بين المريدين بالمتصوفة حيث يخضع المريد حياته وشخصه لشيخه دون نقاش.

تعزز الخط الدرامي بحضور النص الموازي ضمن جميع الأسفار، “مخطوط سيرة ابن عربي” كتبت جميعها بخط داكن وهي إحالات غير معلنة عن كتابات وتجربة “ابن عربي” الصوفية ، مستعرضا انتقاله من يد إلى يد ، ومن زمن إلى زمن، فعاين زوال الأيوبيين، وتدمير هولاكو لحلب، صراعات المماليك، من مصر، والشام ، من البحريين إلى البرجيين وانتصارات العثمانيين عليهم، واحتلال الفرنسيين لبلاد الشام.

أرخ الروائي عام 1212 مفتتحاً لروايته. يتماشى هذا التاريخ مع زيارة ورحلة “ابن عربي”، لمنطقة أذربيجان. في هذه المنطقة كتب سيرته الذاتية في تلك الأصقاع النائية، حيث كان يمارس الخلوة مع الذات الإلهية، كما عمل على وصف دقيق للمكان والطبيعة والرؤى. وبتتبعنا لمسار المخطوط الذي نسخه “ابن عربي” والذي استهله ب : “”قال السالك المقام واسع ورب الدار كريم”” .16 احتفظ “سودكين” بالمخطوط، وأمن ابنه “طاهر” عليه وأولاده من بعده، حمل “طاهر” المخطوط إلى حلب، وعاد به إلى دمشق، بعد تدهور أحوالها، أودعه في ضريح “الشيخ ابن عربي” قرب قاسيون في دمشق، لكن بعد تخريبها من طرف التتار، حمل خادم الضريح المخطوط إلى الكرك، وبعدها حمله أبو الفداء إلى حماة، ومنها إلى سمرقند، وأماسيا، حيث قدمه أبناء تيمور لنك، هدية للخاقان الأعظم محمد بايزيد بك، وبعدها انتقل المخطوط إلى ضريح “جلال الدين الرومي” في قونية، حيث حفظت المخطوطات الصوفية في عهد بني عثمان، ومن هناك بعث الأمير “عبد القادر الجزائري” من يستقدمه إلى مكتبته في دمشق. وفي عام 2012 باع أحد النازحين من دمشق المخطوط بألفي دولار إلى دكتورة لبنانية قدمت أطروحتها في السربون عن ” الرمز والنزعة العدمية في فكر ابن عربي”.

ورغم كبر حجم الرواية إلا أن إيقاع السرد المتزن المائل إلى الإسراع مع استخدام تفاصيل جد دقيقة عن الشخصيات، والمجتمع المحيط بها، ما يجعل الإشادة بالجهد المبذول في عمليات البحث، وجمع المعلومات، والمصادر عن الشخصية الرئيسية، وعالمها الصوفي، وحقبتها الزمنية؛ فهو عمل ضخم تطلب جهدا في البحث والتدوين. ومنه نستحضر أعمال الروائي المتميزة بجودة الصياغة، وانتقاء الكلمات المناسبة في الزمان والمكان، ما يجعلنا نقر باستحقاق الروائي الفوز بجائزة البوكر العربية، ويستحق مؤلفها الكثير من الثناء على مجهوده، وثقافته الموسوعية، التي تجاوزت الثقافة المحلية، وجرأته على إثارة شخصية جدلية “كابن عربي” نزل بها من مكانتها الدينية، والصوفية، ليقدمه لنا كإنسان له مشاعر، وأحاسيس وبين ضعفه، وقوته، وعشقه، وهو ما جعل القارئ على يتطلع لقراءتها وتتبع أحداثها.

لا شك في أن الجهد البحثي المبذول لكتابة هذه الرواية، كان كبيرا وقد أداه الكاتب ببراعة فائقة سواء في البحث عن تفاصيل الشخصيات، وكذا الجانب التاريخي والسياسي والفضائي.
تتبنى الرواية ضمير المتكلم، والراوي هو “ابن عربي”، الذي يقص علينا سيرة حياته من الولادة مذ أن كشف له مسار حياته حتى مماته، استخدم الروائي أسلوب السرد التقريري في نقل الأحداث عاملا على سردها، على الطريقة الأعمال الموسوعية التاريخية، مما جعله يعتمد على مجموعة من المصادر، والمراجع التاريخية لكنه لم يثبتها . تحمل الرواية رسالة الدعوة إلى الحب، والتآخي، والتسامح، والسلام في وقت ساد في العالم العربي الكراهية والحقد.

فكتابة رواية متخيلة عن سيرة العالم الصوفي “محيي الدين ابن عربي” ليس بالأمر اليسير، منذ ولادته بمرسية حتى وفاته بدمشق، ومرورا بكل رحلاته انطلاقا من الأندلس، والمغرب، ومصر، ومكة، والشام. عمل من خلالها الكاتب على تعرية الوقائع التاريخية التي عرفها العالم الإسلامي من قوة، وضعف، ووهن، وحرب، فكان “ابن عربي” شاهدا على العصر، وعلى انهيار الأندلس منذ خروجه منها، كما شهد أيضا على الإهانات، التي تعرض لها أصحاب الفكر، والعلماء، من اضطهاد، ونفي، وسجن . فقد عاش “ابن عربي” هاربا من مكان للآخر، من أجواء واقعية، وأخرى روحية. فاهتم بالتصوف وولع بالمتعالي الصوفي، مما جعله ينصرف عن الدنيا، والسياسة، والواقع. فكانت الرحلة الطويلة الطريق الذي يتشوف من خلاله ولاية أو وتدا أو كشفا من الكشوف.

استنادا لما سبق تمثل الرواية سيرة “ابن عربي” المتخيلة من طرف الروائي، الذي أبحر ببراعة ماهرة في تاريخه السياسي والثقافي، الذي طالما قرأ خارج مداره الاجتماعي. فبحث عن إشراقاته الذاتية، فأجاد الغوص، وقدم لنا نصا تراثيا مركزيا من خلال تقديم الروائي لسيرة المخطوط ، الذي كان ينقل عبر أزمنه مختلفة من بلد لآخر، ليشهد على انهيار المجتمع الإسلامي، ويؤكد كذلك على أن الموت الصغير يمكن أن يتحول إلى موت كبير بكل سلبياته. لذا يمكننا أن نعتبر هذه الرواية الممتعة من روائع الأدب العربي، التي صدرت عام 2016 كما روجت للرواية العربية على المستوى العالمي.

 

المصادر والمراجع :

1 -محمد حسن علوان ، رواية موت صغير، دار الساقي، ط، السادسة ، 2017، ص، 5.
2 – محمد حسن علوان ، رواية موت صغير، م،س،ص،13.
3 – م،س، ص،14,
4 – م،س، ص، 14-15.
5 – م،س، ص،42.
6 – م،س، ص،75.
7 – م،س، ص163.
8 – م،س، ص،308.
9 – م،س، ص،315.
10 – م،س، ص،316.
11 – م،س، ص،89.
12 – م،س، ص،59.
13 – م،س، ص،429
14 – م،س، ص،538-539.
15 – م،س، ص،557.
16 – م،س، ص،55.