arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

جريدة الحياة

صوفيا رواية لمحمد حسن علوان

حب بين سعودي ولبنانية على شفا الموت

سلمان زين الدين

كاتب لبناني

تشكل الحياة بصخبها وضجيجها العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية العربية عادة، وتمتاح منه فضاءها وأحداثها وشخصياتها لترسم حياة موازية تزول فيها الحدود بين الواقع والفن، ويختلط الحقيقي بالمتخيل. فالفن، سواء كان سردياً او غير سردي، يتخذ من الواقع مواده الأولية، ويعيد تصنيعها في واقع فني موازٍ للأول، أو مفارق له، أو متقاطع معه، إلى ما هنالك من العلاقات التي تقوم بين عالمي الواقع والفن.

غير أنها قليلة هي الروايات التي تجعل عالمها المرجعي تلك المنطقة الفاصلة بين الحياة والموت، وترصد التحولات الخارجية والداخلية على شفا الموت. ومثل هذه الروايات تُعتبر فتحاً لتلك المنطقة الملتبسة، حيث كل شيء معلق بانتظار حتمية ما. وفي مثل هذه الحال يتغير كل شيء، الناس والأشياء والمكان والزمان. ومن الروايات التي تدخل هذه المنطقة رواية ”صوفيا“ للسعودي محمد حسن علوان. (دار الساقي)

وكما المنطقة التي تفتحها تقول الرواية علاقة ملتبسة بين بطليها، الآتي كل منهما من مشكلة ما، والباحث عن سلامه الداخلي لدى الآخر المختلف. يأتي كل منهما من منطقة مختلفة في الجغرافيا والدين والحال الاجتماعية. ويلتقيان في ظل المرض وعلى شفا الموت. لذلك، ترص انعكاسات المرض والموت على جسد امرأة شابة ونفسيتها من جهة، وعلى نفسية وسلوك الرجل/الطرف الآخر في العلاقة من جهة أخرى. وتتعدى هذه الانعكاسات طرفي العلاقة إلى المكان والزمان والناس والأشياء، حيث يُسقط كل من صوفيا ومعتز حاله النفسية على ما حوله. وعليه، يذوي الجسد وتصيب تداعيات المرض أجزاءه، من الشعر واللون إلى العينين والعنق والسيقان… وتغدو الأشياء في مواجهة الموت أجمل، وتصبح للوقت قيمته. لعله الخوف من تصرّم الزمن هو الذي يمنح الاأشياء قيمتها ويجعلها أجمل.

تبدأ العلاقة بين الكاتب/ الراوي/ معتز وصوفيا عبر الإنترنت. ويأتي كل منهما اليها بدوافع مختلفة، فهو المسكون بالملل، الخارج من حال طلاق، يبحث عن تجربة جديدة مختلفة تخرجه من حاله، وتُبعد عنه الملل. وهي المصابة بمرض عضال، المهددة بالموت، تقرر أن تتمتع بما تبقى لها من العمر، وأن تعيش أنوثتها قبل أن يغلقها المرض. ومع استمرار العلاقة تتغير الدوافع بالنسبة إليه على الأقل، فيتحول من مجرد باحث عن الاختلاف والدهشة والمتعة إلى باحث عن موقف نبيل يتخذه أو نجمة يضيفها إلى حياته الخاوية. وبغض النظر عن دوافع البطلين، تتخذ العلاقة مساراً معيناً تنكشف فيه الكثير من المواقف والمشاعر الإنسانية، وتمتزج الرحمة والشفقة والحب والألم واليأس، وتظهر هشاشة الإنسان وقوته في آن. وهذا المسار يقوم معتز، الراوي الوحيد في الرواية، الكاتب، برصده. بل هو يرصد صوفيا ليرفع عنها بالكتابة غبناً ألحقته بها الحياة. يقول الكاتب على لسان معتز: ”وأنا لا أعرف الكثير من الكتابة، ولست معتاداً عليها، ولكنني أصر على رصد صوفيا في أوراق، لأني شعرت بأنها شهابٌ مغبون جداً في أطراف السماء“. (ص 51 ، 52) وهكذا، يحسن البطل الى شريكتــه مرتــين، مرة بمشـاركتهـــا العلاقة باحثاً عن سلامه الداخلي أو مسبغــاً عليهــا هذا الســلام، ومـرة بتدوين تلك التجربة رافعاً بالكتابة غبناً أنزلته الحياة.

ولعل شخصية معتز هي إفراز للحياة التي أنتجتها الطفرة النفطية في الخليج العربي، فتوافر المال جعل بعضهم يعيشون الحياة بعرضها وطولها، ويخوضون التجارب المختلفة ما جعلهم في نهاية المطاف يتردّون في مهاوي الملل والفراغ واللامعنى. وهذا النمط قريب مما شهدته بعض الدول الاوروبية في مرحلة معينة، لا سيما السويد، حيث أن توافر الحياة السهلة دفع بالكثيرين الى فقدان الهدف والمعنى. على أي حال، فإن معتزاً يعيش أحداث الرواية بين مللين، يقول الكاتب على لسانه في بدايات الرواية: ”جئت مريضاً بالملل أبحث عن الغريب المختـلف“، (ص 12)، ويختتم على لسانه بالقول: ”أشعر بالملل“ (ص 144).

وهكذا، فالرواية هي هذا الغريب المختلف الذي يعيشه بين مللين. وفي هذا ترفٌ ما بعده ترف. فبينما يبدأ معتز علاقته بصوفيا تعبيراً عن هذا الترف، تبدأها هي تعبيراً عن حاجة أخيرة الى إنسان يعيش أيامه الأخيرة. ومعتز هذا هو شخصية قلقة، مصابة بمس التغير منذ الطفولة وبسرعة الملل.

ويروح يبدل في حالات الأشياء والكلام والسلوك والعلاقات والعمل، حتى أنه يعتبر موت والديه تغيراً في الحياة له وجهه الايجابي، ويطلّق زوجته بعد سنوات ثلاث من الزواج بدافع من هذا المس، ويبرر انجذابه الى صوفيا بقوله: ”هي امرأة نهرية لا يعنيني مجراها، المهم انها لا تكف عن الجريان“ (ص 62).

ولعل ولعه بالغرابة يدفعه إلى خوض تجربته مع امرأة على شفا الموت، فيراقب ”كيف تموت الملائكة“ وتذوي وتتغير، ويرصد ما يتعاقب عليها من حالات تتمثل في: تغير السلوك، التشبث بالأشياء البسيطة، النضج، اليأس، الهرم، الصدق، الوضوح، الإقبال على الله، الاهتمام بالورائيات، تغيير مكان السكن، تعزيز المكان والنفس… كما يكتشف ويكشف عن أفكاره وخواطره واعتمالاته في مواجهة الموت. وتنتاب البطل من خلال هذه التجربة مشاعر إنسانية مختلفة، بعضها حب المغامرة والرحمة والإحساس بالواجب والشفقة والحب والرغبة في الهرب والضياع والحيرة والإرهاق والشعور بالذنب والضعف والسعادة والانقباض والنفور والضيق والغثيان… فتتحول شخصيته الى مختبر من المشاعر الإنسانية.

غير أن تخلي البطل عن صوفيا، في المرحلة الاخيرة من حياتها، وعودته الى بلاده تاركاً إياها تصارع المرض، يطرح أخلاقية تصرفه هذا على بساط البحث، وتأتي عودته اليها تكفيراً عن هذا التصرف.

مواجهة القدر

وفي المقابل، تشكل صوفيا شخصية قوية، شجاعة، تواجه قدرها برباطة جأش، ووعي بما تريد وتفعل، فهذه المشارفة على الموت تتخذ من القرارات الجريئة ما يجعلها تعيش الشهرين الاخيرين من عمرها كما تشاء، غير عابئة بالأعراف والحواجز والتقاليد. ولذلك، تقدم عن سابق وعي وتصميم على جملة من التصرفات، تترك العمل وتختار شقة واسعة تجهزها لتليق بما تبقى من عمرها، تؤثر أن تموت جميلة على ان تعيش قبيحة فترفض العلاج الكيميائي الذي يمكن ان يمنحها أشهراً او سنوات عدة لأنه يؤدي الى تساقط شعرها البني. وهكذا، الحياة عندها مسألة نوعية لا كمية، فهي تفضلها قصيرة جميلة على ان تكون طويلة من دون جمال، تقرر أن تعيش أنوثتها وأن تتخلى عن عذريتها غير عابئة بالنتائج ما دام الموت بانتظارها، تحافظ على روح معنوية عالية وتتابع حياتها من دون انزواء. وعلى رغم الاختلاف بينها وبين معتز في الجغرافيا والدين والدوافع والحال الاجتماعية، لا تتردد في الانخراط معه في علاقة أرادتها نهاية سعيدة لحياتها، ومختبراً لأحاسيس جديدة وتجربة مختلفة. يأتي الموت في نهاية المطاف ليضع حداً لها، وتأتي الرواية لترفع عنها غبن الموت.

هذه الحكاية يصوغها محمد حسن علوان في خطاب روائي بسيط، يتخذ فيه راوياً واحداً هو معتز الذي يروي بصيغة المتكلم ولعله يقول تجربة الكاتب نفسه، وينطلق في السرد من نقطة معينة في العلاقة تتموضع زمنياً في بداية الشهرين الأخيرين من عمر البطلة، ومكانياً في الرياض، ويمضي قدماً في السرد حتى انتهاء العلاقة بالموت بعد شهرين في مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت. غير أن خط السرد ليس مستقيماً في سيره، بل يتكسر أحياناً، فيعود الراوي إلى الماضي البعيد أو القريب متذكراً أو مستطرداً، ومن ثم يتابع سرده من حيث عاد. ويترجح السرد بين الذكريات والوقائع التي تطغى عليه، وقد يجنح نحو التخيل أو التصور، وفي هذه الحال يستخدم صيغة المستقبل في سياق الماضي المسرود نفسه.

أما اللغة التي يصطنعها علوان فهي سردية في شكل عام وشعرية أحياناً، تمزج بين التقرير والتصوير، وتنتقل بين التصريح والتلميح. وقد يشكل السرد إطاراً للشعر، كما في قوله: ”وجرت وراءها ضحكة طليقة عذبة. كان هاتفي يحمل شيئاً من عسل لهجتها، ويغرقني في لزوجة طيبة، وأصغي الى ريقها… وهي تتكلم…“. (ص 37)

وبعد، ثمة مفارقات كثيرة تقوم عليها الرواية، غير أن أبرزها هي غرابة الحكاية وبساطة الخطاب ما يجعل الرواية دانية القطوف ويحيل الغريب اليفاً. إنه الفن يروض قساوة الواقع. أليست هذه رسالة الفن؟