arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في القندس

صحيفة الزمان

تناص الخطاب الروائي وانفتاح الدلالة

مروان ياسين الدليمي

كاتب عراقي

غالب، الشخصية المركزيةالساردةلأحداث رواية القندس كما رسمهاالمؤلف محمد حسن علوان شخصية إغترابية في انتمائها للزمن الذي وجدت نفسها فيه، ولاتملك هاجساً قويا ًيدفعها لأن تخلق تواصلا ًحميما ًمع المحيط والاخرين.ولم يكن سفره بين فترة وأخرى خلال عشرين عاما الى مدن أجنبية لأجلِ أن يلتقي بعشيقته غادة إلاّ علامة َفشل ٍوعجز ٍتام في التفاعل مع الزمن، بموجوداته، وهروبا ًمُركبا ًمن ذاته ومن عالم ٍيُشعرهُ بأنَّ قدره قد أسقطه فيه، لذا ليس هنالك من صلة انتماء إليه، سواء كان مقيما ًفي مدينة الرياض أوعلى ضفّة نهرِ ويلامت في مدينة بورتلاند الاميركية. وقفتُ لعلّي أرى صفحة الماء بوضوح.كانت مجموعات عِدَّة من البَط تسبح بشكل دائري وأنا أحاول تجاهل هذه الطيور الكريهة .. تعاني هذه الشخصية من إحساس عميق بالقلق إزاءمايحيطها من اشياء وعلائق اجتماعية محاولاتي الدائبة للانفصال لايفهمها أحَد، حتى أنا.لطالما فسَّرُتهاعلى أنّها فشل ذريع، بينما لم تكن إلاّتمرينا ًغيرمكتمل على إنفصال موعود، ولتوّهِ إكتمل بصعوبة بالغةٍ وأنا في الاربعين… يبدو هنا، وكأن المؤلف وهويرسم الملامح الداخلية للشخصية، يعيدُ وفق فكرة التَّناص إنتاج َنمط الفرداللامنتمي الذي سبق للأدب الروائي أن طرحه في ستينيات القرن الماضي، بمايحمله مِن قلق ٍواغتراب ٍازاء الوجود والمحيط الأجتماعي وحده القلق الذي أبقى بينناالعهد وجَعَل كل مابيننا كعائلة مجرد عهد .. هنا أجد تساؤلات معينة تفرض نفسهاونحن نتأمل الصورة التي بُنيت عليها هذه الشخصية المركزية هل يمكن بعد كل المتغيرات العميقةالتي حصلت في العالم من حيث الافكارالفلسفية والمفاهيم والايدولوجيات، والتي شملت شتى أوجه الحياة الانسانية مع مطلع العقد التاسع من القرن العشرين وماجاء فيه من احداث دراماتيكية احالت عالما ًبأكمله إلى انقاضٍ، ليبدأ عصرٌآخرلاصلة له بما سبقه من ايدلوجيات، هل يُمكن بعد هذا أنْ نقرأعملاً روائيا جديداً، يعيد لناإنتاج ماسبق أن تم طرحه – مِنْ افكارونماذج انسانية ــ قبل نصف قَرنٍ في عدد من الاعمال الروائية ؟ لذا نجد أنْ ليس هنالك من ضرورة مُلِحّة تستدعي طرحها مرة أخرى في سياق رؤية فنية تبدو لنا وكأنها صدى لتلك الاعمال التي عكست في حينها جانبا أساسيا وحيويا ًمن ثقافة العصرآنذاك عندما طُرحت قبل نصف قرن، بظرفه ومعطياته ؟ هذا السؤال يقودنا إلى طرح سؤال آخر هل إنَّ انغلاق المجتمع السعودي على نفسه وهو يَتحصَّنُ خلف قشرة سميكة ٍمِنْ قيم ٍ يُهيمنُ فيها العامل الديني والقيم البدوية والاعراف الاجتماعية مقابل مايشهده من تحولات عمرانية هائلة، هوالسبب الذي أحدث تصدُّعات إشكالية عميقة في بنية الفرد ــ سبَق للمجتمع الانساني المُتقدم أنْ مرَّ بها وواجههاــ وأمسى المجتمع السعودي اليوم في مواجهة مُتأخرة معهاولاسبيل أمام المبدع لأنْ يتجاوزها ويقفزعليها ؟ إلاّ أنَّ التفاعل مع هذه المسالة الجوهرية بأسئلتها وتحديّاتها فيما لو كانت أمراً واقعا ً فعلاً واقتضى التوقف عندهاوتناولها إبداعيا تبقى رَهن الرؤية الفنية للمبدع وخصوصيةتجربتة الذاتية، ويقتضي ذلك منه أنْ لاينشىء عمله مُنساقاً مع فكرة التّناص مع أعمال أخرى سبقته، خاصةً في إطارالمعالجة الفنية، فالتناص كما جاء في كتاب نقاد الحداثة وموت القارىء للدكتورعبد الحميد ابراهيم. حوار مع أرواح سابقة تفضي إلى النَّص الحالي بالسّر.. وهنا بهذا الصدد نُذكِّر على سبيل المثال بعدد من أعمال البير كامو وسارتر وكولن ولسن وآخرين.

عندما رأيت القندس أول مرة شعرت بالألفة.ولابد أنّه شعر بذلك أيضا وإلاّماتسلّق الضفة الحجرية وراح يعبث في سلّتي وبساطي… جاء اختيارعنوان الرواية بمثابة قناع إستعارهُ ألمؤلف وألبسَهُ ألشخصية المركزية»الساردة، ليفصح من خلاله عمّا يختزنهُ من مشاعروافكار تجاه مايحيطه من موجودات وحيوات ومايحمُله من تصوّر موضوعي أسقَطَهُ على معظم افراد الأسرة الكبيرة التي ينتمي لها في مدينته الرياض الأب والأم المُطلّقة وشيخة زوجة الأب والأخت الشقيقة بدريّة والأخوة والاخوات غيرالاشقاء سلمان ونورة ومنى ، بهذا التصوّر بَنى غالب في ذهنه مُعادلا صوريا»اجتماعيا لسلوك الحيوان الدفاعي، عندما يبني سدودا ً خشبية وسط ماء النهر كُلما وجَد بقعة يابسة يركن فيها مع افرادعائلته، ليجعلوا من قلب النهر مكانا ًدافئا للعيش سيلاحظ القندس أيضا ًأن عائلتي بَكماء في مابينها، ثرثارة في محافل الآخرين.نخترع فضائحنا بكتمان رهيب حتى لايعرف أحدنا ماذا يُحاك في الغرفة المجاورة.نحن فعلنا ذلك أيضا ًلنجعل من الرياض أقل وطأة وإن لم نقض على وطأتها تماماً، ولنجعلهاأكثر وضوحا ًوإنْ لم نفتح كل الادراج.عندما نرش الماء على دائرة من العشب الضئيل نعلم أنه لن يقتل الغبار والظمأ.

الخارج وجه الداخل

غالب كان قد إجتازالعقد الرابع من العُمر، محروماً من حنان الأم مُذ كان عُمرهُ سنتان.في ذلك الوقت غادَرَت والدته الى بيت خاله، وهي مصممة على طلب الطلاق من والده، لتتزوج بعد انتهاء العدّة الشرعية مباشرة من موظف حكومي، عَرفَت معهُ استقرارا ًعائليا ًلم تحظى به عندما كانت على ذمّة والده تاجرالسجاد، الذي تزوج هوالآخر إمرأة أخرى أنجبت له سلمان ونورة ومنى. والاخوة المُنفرطين من رحمين مختلفين ليس هنالك من شيء يجمعهم. عندما شَعرأبي بذلك، قررأن يَطلينا بالصمغ ويلصق بعضنا ببعض كيفمااتفق حتى نبقى معا ًولو كانت قلوبنا شتى. فقد فشلت سياسة الأب في أن يكونواعائلة كبيرة، ولم تفلح السيارات ولا الشارع الذي حمل اسم الأب ولاالمسجد الذي بناه في الحي.وبقيت عائلة بكماء في ما بينها ثرثارة في محافل الاخرين.يخترعون فضائحهم بكتمان رهيب حتى لايعرف أحدهم ماذا يحاك في الغرفة المجاورة. سلمان الأخ غيرالشقيق الذي يسرق من الأب بمبررات شرعية، مُنى الأخت الصغرى التي تحرق الرجال وكأنهم فراشات ضالة، العمَّة فاطمة التي تقتات من قلبها مثلما يقتات الجمل من سنامه.مُشكلة غالب الدفينة، التي لم يكن يفصح عنها تكمن في كونه يعاني من اضطراب وتشوّه داخلي عميق، عَكَسَهُ المؤلف بشكل واضح في وجهه، بعدأن جَعلهُ يتعرَّض الى حادث سير ٍوهو يقود سيارته لِتنقلبَ به. جَمَع حادث السيارة كل تلك الملامح المبعثرة أصلا ًوبعثرها مرَّة أخرى بمعرفته التشوّه الخارجي الذي كان يبدو واضحا ًعلى الوجه، عمَّق التشوّه الذي كان يحمله في داخله، لذا عَمَد إلى نسيان وجهه وتجاهله. آخر مرّة رأيت فيها وجهي كاملاً كانت وأنا أراجع بيانات تأشيرة السفرالاميركية قبل شهرين في الرياض، وبعد ذلك لم أعد أراهُ سوى لِماماً في غرف الفنادق وردهات المطارات وزجاج السيارات وربما لهذا أنا أتأمل بقيّة جسدي دون وجهي، لئلا أنسى من أكون. حتى العلاقة العاطفية الحميمة التي ارتبط بها مع غادة زوجة السفيرالسعودي في لندن والتي شَغَلت مساحة واسعة من حكاية النص، هي الاخرى أرادها المؤلف أن تكون كشفا صريحا لعلاقة مشوَّهة تبادل فيها الطرفان مُعاشرة جنسية مُحرّمة أحتوتها غرف فنادق ٍتوزعت على أكثر مِن بلد أوربي.ولم يكتشف غالب إلا بعد عشرين عاما حقيقة هذه العلاقة الزائفة الذي ذهبت به بعيدا ًفي وهم ٍ كبير بَدَدَ فيه عمرهُ وهو يركض خلفه، عابرا ًبِحارا ً ومحيطات حتى يحتويه بين ذراعيه على أمل ٍــ قد يأتي في يوم ماــ ليصبح مُلكَهُ ولوحدِهِ. ومِما زاد في إحساسه بهذا التشوّه، طبيعة العلاقة مع والده التي كانت تشعِره بأن والده يتسرّب الى دَمِهِ مثل مرض ٍوراثي عنيد. يَخرُجُ أبي من فناجين القهوة أحيانا مثل مارد ٍمن البُن ويداهُمني ليلا ًونهارا ً. وبعد أن يفشل غالب في دراسته الجامعية يرسله والده الى اميركا للدراسة في جامعاتها ولم يفلح ايضا ليبقى هناك مُشتتا، ضائعا ً، بلا أهداف ولاطموحات يسعى اليها، كما كان حاله في مدينة الرياض، التي أدمَنَ على أنْ يُلقي عليها عَجْزَهُ وفشله، حتى أَّنّهُ وطيلة بقائه في مدينة بورتلاند الاميركية التي وجد فيها خلاصه الهَش من مدينة الرياض الراكدة، لمْ يلقِ التحية عليه سوى النُّدلَ والباعة، وكاد الصمتُ أن يلصق أسنانه ببعضها عندما لم يجد فرصة ًلائقة ًللحديث والثرثرة مع أحدهم.

الخروج من الآخر

يتجاوز غالب الاربعين من العمر بسلسلة من الاخفاقات المتوالية، بَدأتْ مع غادة، عندما حَسَمَتْ خلافاها مع زوجها السفير السعودي في لندن وعادت اليه.ثم جاءته الصَدْمة الثانية بعد وفاة والده، عندماإتَّضحَ له بأنَه لايملكُ ماكان يظنُّهُ يَملكْ. كان هذا يعني أنَّ أبي لايملك مترا ًواحدا ًمن تلك الاراضي الشاسعة الممتدة شمال الرياض بامتداد أحلام سلمان، ولاتلك الاسهم الرابحة التي خصّها أبي بحساب ٍبنكي خاص دون بقية الأسهم الرديئة، ولاالأرض المواجهة للبحرفي جَدّة التي كثيراً ماألحَّ عليه سلمان بأنْ يبنيها ناطحة سحاب تخدش السماء، حتى بيت الفاخرية إكتشفنا أن شيخة تملكهُ وحدها منذ عشر سنوات، كل هذه الأملاك، رغم أنها مسجلة باسمه حتى اليوم في الأوراق الرسمية، كان قد تنازل عنها جميعاً بخط يده لأكثر من ستة مسؤولين كبار كان أبي يسجِّل أملاكَهم بأسمه مقابل عمولات صغيرة.

يصل غالب متأخراً الى لحظة وعي ٍبما كان قدأقترفه من حماقات لم تترك له سوى كآبة وإحساس بالنّبذ، فما كان مِنهُ إلاّأن يَختارأقصَرالطرق للدفاع عن نفسه في أنْ يخلع قناع القندس، وأن ينكر كونهُ قندسا ً، بعدأن تراكمت عليه التُهم. أخلعُ عن جلدي الفروالذي ليس لي وأنزع الأسنان التي لم تقضم شيئا ًنافعاً.هذا مااستعنتُ ببورتلاندعليه منذ البداية.تملّصتُ بصعوبة من جذوري ولاأظن أحدا ًمن عائلتي فعل مثل هذا.مازالوا يجمعون الجذوع اليابسة جميعا ًمنذ عرفتهم وحتى تركتهم ولن يتوقفواعن ذلك أبدا ً، قررتُ أن أفِرَّ عن المشاريع المغلقة التي تورِّطُنا فيها الحياة وتجعلُنا قنادسَ هذا السَّد، هاجس الحماية الأزلي، مشروع مغلق لايمكن أن ينفتح على اتجاه جديد مهما تغيرت الأجيال.

بَقيَ خطاب النص في سياقه العام مفتوحا ً شكلا ًومعنى ومُبتعدا بذلك عن افتراضات التأويل التي فيما لو توفرت فيه لمنحته بنية مركَّبة في طبقات مدلولالتها القراءية، لتأخذ القارىء، نتيجة ذلك، نحو مستويات أكثر كثافة ًتترشح من خلف دلالات ألجمل والتراكيب اللغوية التي يصدُّرها النص.كما لم يتحرر من التجاور والتوازي مع ماسبق انتاجه من نصوص عالمية في إطار ماأراد تصديره على مستوى الشكل والمحتوى. ولأنَّه لم يكن مُغلقاً فنيا ًعلى ماأراد طرحَه من خطاب، ظَل المستوى الدلالي عائما ًفي تمظهرات ٍواضحة المدلولات، لم تضع القارىء في متعة البحث والتقصي العميق.إلاّ أن ذلك لم ينل من أهميّتة الفنية في الكشف عن عوالم انسانية متصارعة مع ذاتها ومحيطها في لحظات ٍتفصل بين عوالمَ متقاطعة ومتناقضة، هذا إضافة إلى تماسك حبكته في سرد المتخيل السردي، وبذلك هذا العمل يدعونا بلا أدنى شك لقراءته مرة أخرى والاحتفاء به.

وبعيدا عن كونه يأتي من بيئة ليس لها تاريخ طويل يُذكر في الادب الروائي مقارنة مع بلدان عربية أخرى ولم يكن متوقعا ًمن هذه البيئة المُترَفَة أن تضيف شيئا ًمهما ً للرواية العربية، لكن الأمانة تقتضينا أن نُقرَّ ونعترف بحقيقة مهمة باتت تفرض حضورها في المشهد الروائي العربي، بأنَّ ماتم طرحه من نصوص روائية كتبها عدد من الروائيين الخليجيين خلال العشرين عاما الماضية قد أزاح عن قناعاتنا، غشاء َوهم ٍ كبيرٍ، كنّا نُغلّفُ أنفسنا بهِ، مفاده ُأنَّ الخليج العربي ليس مكانا ًخصبا ًولامُهيَّئا ًلأنْ يُقدم لنا أدبا ًمهما ًتتوفر فيه عناصر فنية متقدمة تعكس مايملكه كاتب مُتَرف ليس لديه معاناة ولاتحدِّيات يُمكنُ أن تصلح مادة مهمة للكتابة الروائية ولاأنْ تثير أهتمام القراء. لكننا وجدنا أنفسنا أمام موعد ٍجديد وضَعَنا فيه مجموعة من الكُتّاب الشباب، سيكون له تأثير واضح جدا في مستقبل الرواية العربية.