arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في طوق الطهارة

جريدة النهار اللبنانية

تباً للأحوال التي لا يمكن تبديلها

سيلفانا الخوري

ناقدة لبنانية

للوهلة الاولى، قد يبدو محمد حسن علوان في روايته ”طوق الطهارة“ الصادرة اخيراً لدى دار ”الساقي“، انه يعتمد الخلطة التي باتت تكفل لفت النظر الى تجارب روائية يدّعي معظمها اكثر مما يقول. شيئاً فشيئاً، يتبدى للقارئ ان الكاتب، وإن اعتمد الخطوط العريضة نفسها، اي الحب الذي تدور حوادثه في السعودية، آثر في ذلك اسلوباً اكثر اصالة رغم بساطته. لا يسعى علوان الى فضح وانتهاك خارجيين، ولا الى اثارة مجانية وأوّلية. من خلال قصة بسيطة وعادية، يحاول فهم سيكولوجيا الحب وارتباطها بالاطار المديني الذي تنمو فيه. يأتي خطابه جوّانياً، ينقّب في لاوعي المدينة والافراد على السواء. لا تعود العاصمة السعودية مجرد مجموعة ظواهر سوسيولوجية تجري مقاربتها من خلال بُعدها الفولكلوري وحده، بل هي كائن ينجح الكاتب في التقاط بعض اختلاجاته الدفينة. تحلّ الرياض هنا من خلال منافذها اكثر مما تحلّ هي نفسها. ونعني بالمنافذ تلك المتنفَّسات المكانية المؤنثة التي تستدعيها وتأخذ شكل مدن بديلة كبيروت ودبي، او فضاءات شبه معزولة تنشأ داخل المدينة او على اطرافها، في محاولة لإيجاد بعض التوازن حيال ذكورية مفرطة تغرق فيها.

اصبع الاتهام

رغم اسلوبه البعيد عن الافتعال، وجملته التي تنساب بتلقائية كبيرة، قد تؤخذ على علوان لغة، وإن لم تخلُ من شاعرية جميلة ومبتكرة في الغالب، تبدو كأنها لم تنفض عنها تماماً ترسّبات أزمنة مضت. لغة لا تعرف دوماً كيف تخرج من أسر غنائية فائضة واستعارات وصور قديمة، كما في حديثه عن “الضوضاء في غرفة الروح” او الاشهر المسروقة من ”خزانة القدر“ او العرق الذي نضح على “قارعة التفكير” او “أظفار الفوضى” المقلّمة… وغيرها الكثير من التعابير المعترَضة والمتناثرة على طول النص والتي يكاد أثرها عليه يكون اشبه بالعصيّ في الدواليب. ويأتي بعض التطويل ولا سيما في النصف الاول من الرواية ليفاقم في خنق حيوية الجملة وإضعاف عصبها مجازفاً في تحويل النص الروائي الى مناجاة داخلية طويلة تتهمّش فيه الحوادث لصالح انفعالاتها.

كل شيء يبدأ عندما يكتشف حسان، وهو شاب سعودي في التاسعة والعشرين، ان زوجته غالية التي انفصل عنها منذ ثلاث سنوات بعد اسبوع واحد من الزواج، قامت بنشر اعترافات كتبَها على الانترنت حول قصتهما، في كتاب يحمل توقيعه. سيكون الخبر لحسان ذريعة لاستدعاء بوح يعود الى ما قبل قصته مع غالية بكثير. من ماضي والديه وقصة لقاء الرجل الحجازي بالمرأة الجنوبية “في قلب الوسط الجاف”، الى ولادته وطفولته في بيروت، فنشأته في الرياض وما تركته هذه النشأة على روحه وجسمه من آثار، وصولاً الى علاقته بالنساء وتحديداً بالمرأتين اللتين تركتا الاثر الأكبر عليه، جورية ومن بعدها غالية، انتهاءً بحياته في ما بعد. على طول هذا السرد، يحاول حسان، وهو الراوي، في مسعى فرويدي يُدرك نفسه، ان يبحث في ماضيه ولاوعيه عن نقاط العطب التي تبرّر فشل علاقاته، وتنقذه مرة أولى من الشعور بالذنب ازاء جورية، ومرة ثانية من الكآبة والصدمة جراء فقدان غالية. وفي سعيه هذا، لا يكفّ عن توجيه اصبع الاتهام الى مدينة لا تعترف بالحب والمحبين، كاشفاً انها قد لا تكون في النهاية بالطهر الذي تدّعيه ولا بالعفة التي ترفع لواءها. هي مدينة معادية. ومهما حاول سكانها الهرب منها، لا تنفكّ تنبت فوق ضمائرهم على شكل ذنوب صغيرة. من هنا، يبدو طوق الطهارة الذي تتخذه الرواية عنواناً، هو المدينة نفسها التي لا تعود مجرّد اطار خارجي تجري فيه الحوادث، بل شبه ضمير تأثيميّ ضخم حاضر دوماً لخنق الرغبات قبل ولادتها.

في صوت هامس حتى حدود المجازفة بالخفوت التام، يروي علوان استحالة الحب وتعقيداته في مدينة ”بلا روح“ كما يصفها. فخلافاً لزمن ”المدن الحيوية“، الزمن هنا راكد ومكرور: ”ترى ما الذي يستعجلون حدوثه في الرياض؟ ستمرّ الليلة، وتأتي شبيهة جداً بسابقتها، فليس ثمة رحمٌ اكثر انتاجاً للتوائم المتشابهة من ليل الرياض، فأيّ شيء يجعلنا نسبق الزمن لنبلغ اليوم الذي يليه اذاً؟ ربما كان الكثير من الكدر هو ما ينقص سكان هذه المدينة، ليستيقنوا يوماً الا شيء مختلف في الشارع القادم، ولا في وجه العابر المجاور، ولا في خمار المرأة البعيدة، ولا في بركة المطر الكبيرة، ولا خلف الاشارة التالية“. يخرج الكاتب بنص انثوي في معنى من المعاني، يواجه به ذكورية المدينة بما فيها، ومن ضمن ذلك نساؤها ايضاً. من هنا، يبدو بطله نموذج هذا الحضور المؤنّث، بدءاً من ارتباط عائلته ببيروت، رمز المدينة الأنثى، وصولاً الى جوّ منزله وعلاقته بأبويه. فهذه العائلة التي تقتصر عليه وعلى والديه تكاد تكون طارئة على المدينة. هم مقيمون على ”حافتها“، على ما يقول حسان، بعدما حالت ظروف الحرب اللبنانية في السبعينات دون استقرارهم في بيروت كما كانوا يرغبون. من هنا، تبدو اقامتهم في الرياض ”جبرية“ في شكل من الاشكال، يحاولون التأقلم معها وقد اتفقوا على ”ان يبقى البيت صحيحاً وسليماً ما دامت المدينة صعبة وخاطئة“.

”من قلب الرياض المليئة بقطّاع الامل“، يحاول الكاتب ان يرصد من خلال علاقتي حسان بجورية وغالية على التوالي، كيف يتفاعل الحب مع ظروفه المدينية، وكيف تحدد هذه الظروف ”لغة الجسد، ولهجاته في ارتكاب الرغبات، وثقافته في الاتصال بالجسد الآخر الموجود في حيازته“. ومع ان نجاح علوان يبقى نسبياً، الا ان ما يُسجَّل لصالحه في شكل خاص هو ”تشخيصه“ لهذا الحب الذي لا ينفصل عن الشعور بالذنب، ليتحوّل شيئاً فشيئاً الى نوع من التأثيم المتبادَل بين الحبيبين، حيث يحاول كل طرف ان يلقي على الآخر تبعات مشاعر الاثم التي تستبدّ به. ها هو حسان، يتخذ من التحرشات الجنسية التي تعرّض لها طفلاً من اساتذته في المدرسة، ذريعةً تبرر عدم قدرته على الالتزام بتوقّعات جورية من العلاقة معه. هي بدورها، ستمارس تجاهه التأثيم نفسه محمِّلة اياه مسؤولية ”تشويه احلامها، واستهداف جسدها، وتحريضها على خذلان ثقة اهلها، وخدش الصورة المثالية التي كان يجب ان يجيء عليها حبها الاول، وفارسها المنتظر“.

مع غالية، سنعاين نموذجاً قد يبدو مختلفاً في البداية، قبل ان يتّضح انها ليست الا جورية مؤجَّلة لا غير. واذا كان وجود الوالدين في حالة هذه الاخيرة هو الذي يشكل الرادع المجتمعي الاساس، فإن غياب الاب عن حياة غالية سيمنح الحبيبين هامشاً ممكناً لنموّ الحب. الا انه هامش موقّت، اذ سيعود زوجها السابق ليهدد بسلبها ابنها في حال زواجها من جديد. وهكذا نرى النساء في كل مرة، تحت وطأة أب او أخ او إبن، يرجعن منصاعات الى الحظيرة المجتمعية، متدرّعات باستراتيجيا التأثيم نفسها: تأثيم الذات او الآخر او كلاهما معاً. ”انا زانية“، ستقول غالية لحسان في النهاية: ”هكذا، تتوب فجأة. تقترح ترتيباً معيّناً للذنوب، وتشذّب علاقتنا من كل الاغصان الصغيرة الاخرى التي نمت في عهد الحب، وتبقي العصا جرداء، تقطع بها طريقها وحدها نحو الله، وتنفضني عن بساطها التائب مع بقية الآثام الغزيرة، ولا تعود لي، لأنها تائبة“.

هل نقول تباً؟

في ما بعد، سنرى حسان يؤثر بعد الخيبات العاطفية المتتالية سلوكاً جديراً بمدينة ”الجياع والجائعات“ هذه، حيث يعيد الافراد ”تأهيل“ عواطفهم ”لتكون اكثر فعالية وصلاحية لمدينة كالرياض“ مستعيضين عن الحب بـ”رغبات صغيرة“. ممارسين على المدينة ما يشبه التحايل غير الحاسم: “مدينتنا لا يمكن هزمها يا عزيزي، النقطة الوحيدة التي يمكن ان تكسبها في صراع مخيف مع الرياض، هي ان ترحل عنها”، ستقول له عشيقته مريم.

من ناحية اخرى، يكشف علوان عن فضاءات معزولة تنشأ على هامش المدينة، وتشكّل ما يشبه الهجرة الداخلية، على غرار مزرعة صديقيه وزان وايمن في الدرعية التي يلجأون اليها هرباً من فضاء الرياض المغلق. اما بيروت، فيقدّم عنها الصورة الاصعب. بين المدينة – الثمرة التي نضجت في الستينات والسبعينات الى الحد الذي بات سقوطها حتمياً، كما يقول، وبيروت اليوم، يكاد التحوّل الذي طرأ على العلاقة معها يكون شبيهاً بالتحوّل الذي أصاب نادية، الجارة اللبنانية التي ربّت حسان. نادية صارت اليوم امرأة متذمرة ودائمة الشكوى، و”بعدما كانت جارة طيبة، واماً بديلة، وصديقة عريقة“، تحوّلت العلاقة معها الى نوع من الاحسان المتصدِّق والمتعاطف: ”تباً للاشياء التي نعرفها، ولا نملك تبديلها“، يقول علوان على لسان بطله حيال هذا التحوّل، فهل نقول معه: تباً؟!