arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

إيلاف

تأثير الشعر على الرواية

بين “ذاكرة الجسد” و”سقف الكفاية”

حوراء النداوي

كاتبة عراقية مقيمة في الدنمارك

من الصعب على المرء نظم الشعر متى خطر له ذلك.. حتى كبار الأدباء ممن يفتقدون الموهبة الشعرية لم يتجرأ احدهم على ادعاءات شعرية مطلقاً.. في المقابل يعتقد البعض ان الكتابة بانواعها المتعددة سيما السردية تسهل على الشاعر، لكونه يحترف التصوير في شكله الاصعب حين يلتزم بقافية و بحر من بحور الشعر..
ورغم هذه السهولة المتصورة فان تجارب الشعراء الذين تحولوا الى كتابة القصة او الرواية تعد قليلة.. بعضهم اثر الاحتفاظ بها لنفسه و عدم نشرها كالشاعر أحمد مطر مثلاً الذي صرح في احدى اللقاءات معه بانه قد اقدم على كتابة رواية بالفعل.. غير انه لم ينشرها رغم جماهيرية قراءه و متابعيه..

ليست الرواية التي يكتبها الشاعر، كما يعتقد البعض، رواية تماثل عناصرها روايات الادباء المعنيون بهذا النوع من الكتابة.. يتضح هذا حين نجد ان العناصر الروائية في روايات الشعراء و المتأثرين بالشعر هي اشبه ببعضها البعض منها بالروايات الاخرى..
فحين اطلت علينا احلام مستغانمي “بذاكرة الجسد” محدثة صدمة ايجابية لنا كقراء تلقفناها بنهم لسردها المغمس بالشعر.. بعد تجارب شعرية عدة لم تنل النجاح المطلوب جاءت روايتها الاولى فعرفتنا ليس فقط بالكاتبة بل و بشعرها الذي سبق روايتها ايضاً..
حين فوجئنا بمستغانمي كان جزء من مفاجأتنا كونها انثى غرقت روايتها في الشعر و تبللت بالسياسة.. أمران لم نعتد عليهما من امرأة اختارت ان تتلبس بطل روايتها متحدثة بلسانه..
في الواقع كانت ذاكرة الجسد مجموعة من مفاجآت تجمعت لتشكل صدمة..

بعد احلام مستغانمي فوجئنا بمحمد حسن علوان و باكورته “سقف الكفاية”.. هنا ايضاً كان الروائي شاعراً و مجدداً كان بعض مفاجأتنا ناتج عن صغر سنه فلم يكن قد تعدى الثالثة و العشرين حين صدرت روايته..
ما يثير الاهتمام بغض النظر عن كون الروايتين قد نالتا نجاحاً و احدثتا صدىً طيباً لدى القراء هو الشبه الكبير القائم بينهما.. ليس الشبه هنا في الاحداث.. بل في العناصر و الاسس التي قامت عليهما التجربتان بكلهما و لا تنحصر المسألة هنا فقط في سقف الكفاية و ذاكرة الجسد..

لكن اذا ما حصرنا امثلتنا في الروايتين المعنيتين فسنجد ان الكاتبين استخدما اسلوب الراوي.. اي ان الرواية تُسرد عن طريق بطلها و هو رجل عاشق في كلتا الروايتين.. و المدهش ان علوان و مستغانمي قد اختارا ان تكون الحبيبة مُخاطبة في مونولوجات طويلة تطل علينا بين صفحات و اخرى، حيث يسهب كلا البطلين في شرح حالة حبهما الاقرب الى الحالات المرضية..
و حالة الحب المرضية هذه ليست بغريبة على دنيا الشعراء الذين كانوا خير من يدمن مثل هذا الحب.. بل ان الحب المرضي هو ملعب الشعراء حيث تتجلى موهبتهم و تتعملق..

روايتا سقف الكفاية و ذاكرة الجسد في اساسهما رتيبتا الاحداث.. قلة الاحداث و الامعان في المحاورة الذاتية لتبعث في كثير من الاحيان الى الملل سيما في روايتين طويلتين مثلهما..
المماطلة في فكرة ما، ثم اعادة صيغاتها في موقع اخر من الرواية لتأخذ حيزا كبيراً من الصفحات تعد نقطة ضعف لا قوة في فن الرواية المتعارف عليه.. و القاريء العادي لن يغفل هذه التقنية بل قد تصدمه سيما اذا كان قريئاً متعوداً على قراءة الروايات..
غير ان ما يغفر هذا هو الحالة الشعرية اللذيذة التي يغرق فيها القاريء، و التي غطت بدورها حتى على بعض الاخطاء.. من ضمن هذه الاخطاء و التي تعد اشبه بها فخاً من كونها خطأً هي الامعان في البحث عن الصور الشعرية التي يتضح بانها قد استنزفت الكاتبان حتى وقعا في شرك ” المعنى في قلب الشاعر” احياناً و ركاكة الصورة الشعرية احياناً اخرى..
معروف لدى الكل ان الشاعر لا تستغرقه قصيدته اكثر من بضع ابيات، تقل و لا تكثر عما هو متعارف عليه من عدد الابيات التي ينهيها باستخلاصه ما يريد من الفكرة التي بنى القصيدة عليها..
إلا ان رواية تزيد عن اربعمائة صفحة فيها وحدة موضوع، تتكاثف فيها الحالة الشعرية، كما اختار لها كاتبها، سوف تتركه في النهاية مستنزفاً ايما استنزاف.. هذا بالاضافة بالطبع لعدد لا باس به من جمل تشعرك ان الكاتب افتعلها فقط للمحافضة على الاسلوب الذي باشر فيه كتابة الرواية منذ البدء..
لا اغفل ابداً ان الاسلوبين متشابهان، و في بعض الجمل البسيطة و التي قد تعد عادية يتقارب الاسلوبان بشكل مدهش.. لو انني لم اكن اؤمن ان تقليد اسلوب اديب ما يعد فضيلة ادبية بحد ذاته لظننت ان علوان قد تأثر باسلوب مستغانمي الى حد التقليد من شدة تشابه ما يحيط بالروايتين.. لكني اجد السبب الحقيقي خلف هذا التشابه هو ان الكاتبين اتفق و كانا شاعرين اساساً..
استنزاف الكاتب نفسه لا ينحصر في الرواية ذاتها فحسب.. بل يشمل محاولاته الروائية الاتية ايضاُ.. ليس عجباً ان مستغانمي لم تكتب خلال كل هذه السنوات – سنوات ما بعد ذاكرة الجسد- سوى روايتين، هما تكملة لذاكرة الجسد ! فصار رصيدها من الروايات ثلاث.. ثلاثية او سلسلة من روايات مرتبط بعضها ببعض، يتضح منها ان مستغانمي ليصعب عليها الخروج من ثوب ذاكرتها الاولى..
الانتاج الروائي الغزير الذي اعتدناه من الادباء الروائيين ينحسر لدى غالبية الشعراء ممن كتبوا الرواية لما لا يتعدى عدد اصابع الكف الواحدة..
لعل من الاجحاف الحكم على علوان في هذا الصدد لصغر سنه و براعمية تجربته.. غير انه قد كتب رواية واحدة بعد روايته الاولى.. “صوفيا” التي تعد اقل مستوى من سقف كفايته..

لست هنا لاحاكم هؤلاء الشعراء الروائيين.. الا اننا كقراء نأتي على رواية ما نتفاجأ بها لشاعريتها و قلة احداثها و غرابة حبكتها عما اعتدناه في فن الرواية لمن المنصف لكلينا -قراء و كُتاب- أن تصنف الرواية الشعر في خانة خاصة بها فنكون على دراية تامة بأجواءها حين نقبل عليها.. كي لا نجحفها حقها إذا ما اخذنا بعين الاعتبار اسسها المختلفة، و كي لا نجزم بافضليتها لكون لغتها الشعرية القوية غالباً ما تبهرنا..

بعد ان اتينا باختصار على تجربتين فرديتين، فلنظرب مثلاً بأن نأتي على ما شمل بلد باغلبية مبدعيه الروائيين بل و حتى مبدعي بقية فنونه.. حيث تغلغل الشعر في كل لمحة ادبية و طغت بصمته على كل الوان فنون هذا البلد..
العراق يكاد يعد بلداً شعرياً صرفاً.. منذ القدم و حتى الان يتربع شعرائه الذين يمطرهم على عرش الشعر العربي.. و يفخر العراقيون بقولهم الا بيت يخلو من شاعرٍ عندهم..
و الواقع الادبي في العراق هو واقع شعري و باقي الفنون الادبية ليس لها مثل سيط الشعر فيه.. و رغم ان الروائيين العراقيان ليسوا بالضرورة شعراء إلا أن واقعهم الثقافي الذي يتلبسه الشعر و يسيطر عليه اثر فيهم حتى و ان لم يختاروا له ذلك.. فجاءت تجاربهم نخبوية و اشبه بها تجريدية من شدة رمزيتها و طغيان اللغة فيها على حساب السرد و الاحداث تارة و معالجة الكاتب للرواية بتفنينات متعمدة تارة اخرى.. كما في” دابادا” حسن مطلق مثلاً..
بل ان طغيان الشعر على الثقافة العراقية باكملها اثر في باقي الفنون.. فجاء المسرح العراقي الجاد اكثر رمزية و فنون الرسم اكثر تجريدية..
كأن فناني و ادباء العراق قد استنسخوا الشعر مسرحاً ثم اختصروه لوحةً ليصبوه في النهاية رواية..
ليس عجيبا في هذه الحالة ان يحل شيء من الخمول و الرتابة على واقع الرواية العراقية باكمله اذاً.. و ليس مستغرباً ان بلداً يزخر بكل هؤلاء الادباء – سواء كانوا شعراؤه الكثر او روائيوه القلائل-، ليس مستغرباً الا يكون له صيت روائي كما هو الحال مع مصر سابقاً و السعودية حالياً..

هذه بالتاكيد ليست دعوة لنبذ ” رواية الشاعر”.. بل هي دعوة لاستقبال حالة ادبية مختلفة لم نعدمها في السابق، انما هي فقط قد اجتاحتنا اكثر اليوم.. لذا جدير بنا كقراء و متلقين ان نستقبلها على قدر اختلافها.. و من الظلم لها و لنا ان ننتظر منها ما ننتظره من رواية روائيٍ حنك الحبكة القصصية و لملم اطراف الحوار و زالت لديه رهبة عوالم شخوصه..
سننصف الشاعر الذي يكتب الرواية اكثر حين نقرأها و نحن على علم تام بانها لن توفر لنا التشويق ذاته الذي تعودناه في الروايات العادية حيث الاحداث اكثر غزارة و عمقاً.. بل ستزودنا في المقابل بجمالية مختلفة، جمالية الشعر الذي انصهر روايةُ و التي لا تعد اقل قيمة على الاطلق..

إن القاريء، سيما إذا كان قريئاً، لحري به ان يتثقف ادبياً بما يكفي لأن لا تتراكم في رأسه أحكام مجحفة او لربما فائقة في حق ما يلتقط لقرائته..
و لا يعد مطلب التثقيف هذا مطلباً تعسفياً او مبالغاً فيه، في عالم الادب الذي يزوده – اي القاريء- و يوفر له ما تهفو اليه روحه من جمال..
الا يجدربنا هنا ان نبتكر تصنيفاً، قد يكون جديداً نضمه الى ما يحفل فيه ادبنا العربي من تصنيفات عدة، يكون خاصاً بالروايات المتأثرة بالشعر ؟..
لو فعلنا، فلن نتفاجأ بلغة قوية حد البت بافضليتها على بقية ما كتب و لن ننصدم باساس روائي لم نعتده فنبخس الرواية حقها..
فالروايات المتاثرة بالشعر لها أُسسها..