arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة الأيام البحرينية

قراءة في كتاب «موت صغير»

بين ابن عربي وابن علوان اشتعلت السيرة

غادة السيد أحمد

لكل رواية مدخل.. والمدخل باب الجذب فإن أعجبك توغلت فيه وأنست به، وإن خالف هواك انسحبت وتركته مشرعًا لغيرك. يغري العنوان أحيانًا بالدخول، وأحيانًا المؤلف، وغالبًا الهوى والميل.. فإن مال قلبك للتاريخ والسيرة، ستلج رواية ابن علوان وتطرق سيرة ابن عربي.. والتاريخ عنصر جاذب جدًا، وخصوصًا حين يكون المنتج لراوٍ يجيد الخوض فيه، ثم تأتي السيرة، والسيرة الذاتية بالأخص، لتكون من العناصر الكبيرة الجاذبة للقراءة. في كتابنا هذا (موت صغير) تجتمع السيرة والتاريخ معًا في عرض شيق، أحيانًا يأخذ الأنفاس لجودة الصياغة الأدبية لابن علوان، فقد قيل في محمد حسن علوان إنه يكتب فيحسن الجذب وقال عن نفسه: «لا أكتب رواية تستجيب لمزاج القارئ، بل تتحداه».

فمنذ روايته الأولى (سقف الكفاية – 2002)، وهو يخوض غمار هذا التحدي، كتبها في عمر 21 موضحًا أنه كتبها لنفسه، وبعد تشجيع الأصدقاء جازف بطباعتها، ونجحت نجاحًا باهرًا حتى وصفت بأنها ديوان شعر ونثر أدبي رفيع المستوى، وحتى روايته «القندس» (2011)، والتي فازت بجائزة الرواية العربية، ووصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر العربي، كان علوان يسير في النسق نفسه وبنجاح كبير. واصل محمد حسن علوان تحديه لنفسه وقفز للكتابة التاريخية والسيرة. وهي من أصعب الكتابات لأنها تستند إلى التاريخ، والتاريخ المكتوب لا يرحم الخطأ، ولا يتسامح معه، وكذلك السيرة. في حديثي مع الكاتب علوان عبر وسائل التواصل الاجتماعي أجابني: «سيرة ابن عربي لم تكتب.. ولم يكتب هو (ابن عربي) سيرته.. فقرأت ما قيل فيه، وعنه، وحوله، بشكل كامل، وأثناء ذلك كانت تتشكل في مخيلتي الحالات الروائية التي يمكن نسجها في فراغات سيرته. والحقيقة أن سيرته مليئة بالفراغات الغامضة لأنها لم تكتب بشكل كامل، بل تمت لملمة أطرافها من كتبه. كما قرأت، بعين الفاحص الدقيق، أيضا كتب التاريخ في الفترات التي عاش فيها، والموسوعات الجغرافية، والعديد من رسائل الدكتوراه في التاريخ التي تناولت مواضع تاريخية معينة، واستفدت منها في مقاربتي الروائية لسيرته، وفي رسم الخلفية الزمانية والمكانية بشكل دقيق ومقنع».

الرواية عمل متخيل، والسيرة والتاريخ عمل مكتوب وموثق، لذا فإن الدمج بينهما يحتاج إلى الحياكة الماهرة، والحذر الشديد، والدراية التامة بالموضوع. تقول الكاتبة والناقدة الادبية يمنى العيد في كتابها «في معرفة النص» إن «الراوي لا يطلب منه أن يجسد الزمن الواقعي وصيرورته، إنما مهمته تتجلى في خلق الإحساس بالمدة الزمنية والإيهام التام بأن ما يعرضه هو الواقع الحقيقي، فدقائق من الزمن الروائي تساوي حياة شخصية لعدة سنوات في سيرة ما». وقد حقق ابن علوان هذا الشرط في روايته. فأنت تمشي في الأندلس وتشعر بابن عربي يكبر ويشيخ عبر ممرات تاريخية طويلة منقولة بإحساس قوي، ولغة سردية جميلة

ركز محمد حسن علوان على الأحداث التي شكلت منهج وفكر وعلم ابن عربي، من دون التعرض لهذا الفكر بالشرح والتوصيف، فرسم الأمكنة بدقة عالية، والأحداث والشخصيات الرئيسة والثانوية، وحتى الطرق والمسالك وروائح المكان. فقيل حول روايته إنه تعمد نزع الهالة السحرية عن شيوخ الصوفية، واهتم بابن عربي الإنسان: الصبي، والفتى الغر العاشق، وكل ما يجري على البشر من تحولات وأمور، فأغرقنا في تفاصيل حياته منذ مولده ونشأته، ويوميات عائلته، وأصدقائه، شيوخه وقلقه، خوفه وانحرافه، حبه وغرامه،زواجه الأول التقليدي وإنجابه زينب ابنته الوحيدة التي ترك موتها في قلبه جرح دائم، عشقه لنظام ابنة متين الدين الاصفهاني التي التقاها بمكة وكانت عالمة متحدثة شديدة الحسن أحبها وأحبته وحالت بينهما حبكة الاوتاد في الرواية فكتب فيها كتابة ترجمان الاشواق واهدى الكتاب لها. بحثه، وعلمه، وتلامذته، وحروبه الشخصية، وعلاقاته بالملوك، والأمراء، والحكام، والمتصوفة، ورجال الدين والفلاسفة، شيخوخته، فنهاية حياته… فاستطاع أن يشدنا نحو ابن عربي الإنسان، صاحب «دين الحب» الذي آنس الحركة والسفر والبحث، فكانت الحركة كبيرة في الرواية، داخليا في عمق نفسيته وتقلبات شخصيته، وخارجيا حين جاب الأمصار بحثًا عن العلم والمعرفة وشيوخ طريقته، أو كما وصفهم ابن علوان بـ «الأوتاد».

يقول الروائي والناقد المغربي محمد برادة في كتابة أسئلة الرواية اسئلة النقد «إذا فقدت الحركة، تجمد السرد»، لذا فإن الحركة في «موت صغير» عنصر أساسي وأصيل يبقي الكتاب في يديك، يشدك بقوة، للحركة القادمة لابن عربي.جاءت الرواية في خطين زمنيين مختلفين: خط السيرة، وخط سيرة المخطوط. وبحسب ابن علوان، فإن سيرة المخطوط عمل متخيل تماما ولا وجود له. فلم يكتب ابن عربي سيرته، أو لم يصلنا مخطوط هكذا، بل أن الكثير من مخطوطاته فقدت، وكثيرة أيضا وضعت باسمه ولم يكتبها هو. في حين يعتبر البعض أن قسم سيرة المخطوط قاطع لخط السيرة الأساسي لابن عربي، ومشتت للقراءة، ويسير في أبعاد زمنية مختلفة، متنقل بين الماضي والحاضر، ويلفت النظر للمستقبل، مما حمل بعض القراء على ترك سيرة المخطوط، أو قراءته منفصلا بعد نهاية الرواية. تبدأ سيرة المخطوط منذ 1212م وتنتهي 2012م، أي ما يقارب 800 عام، مقسمة ومعنون كل قسم بالمكان والتاريخ، فلماذا انفصلت سيرة المخطوط عن سيرة ابن عربي؟ فذاك شأن الكاتب. بحسب فهمي للرواية في سيرة المخطوط المتخيلة، فإنها سيرة كتاب ابن علوان حول ابن عربي، غاصت في التاريخ والسرد والخيال عبر ممرات وأحداث حقيقة ومتخيلة، فلزم عزلها في خط زمني مختلف لا يمت لسيرة ابن عربي، إنما بمجهود محمد حسن علوان الذي قارب الخيال والتاريخ في كتابة لينشأ سيرة معتمدة لابن عربي بقدر الأمكان.

 

محمد حسن علوان ينحت الكلام والخيال

لا يمكن أن تتجاوز لغة ابن علوان السردية فهو شاعر أولاً، والشاعر يجيد التعامل مع الخيال حتما، والوصف المنهك الدقيق للمشاعر بحيث يسطر سردًا شاعريًا مختلفًا، كما وصف عبارة آخر الأحزان «أتمنى لك الموت عاجلاً قبل أن يصيبك الحزن التالي»، وأخرى عن العزلة «الخلوة أرفع درجات العزلة، الخلوة عزلة العزلة» وعن الحب «دائمًا هناك باب وعتبة في حبنا»، و«تجمع دجلة وصب نفسه في عروقي»، و«تراجع دجلة الذي كان في عروقي وراح يجف»، فتلك الجمل تتجاوز الكتابة السردية الروائية إلى نثر مفرط الحساسية تجاه الوقائع كما هي حساسية الشعراء دائمًا. أو كما بدأ روايته «منذ أوجدني الله في مرسية حتى توفاني في دمشق وأنا في سفر لا ينقطع، من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار»، وكأن ابن علوان آثر عدم الخروج عن سياق ابن عربي الشاعر والفيلسوف صاحب رسائل «الذي لا يعول عليه» الفلسفية ونصوص الشعر الموثرة جدًا في الحب والحياة والدين.

في لقاء تلفزيوني تحدث علوان عن الفرق بين السرد السينمائي والروائي، بأن الأول يقوم على سرعة المشاهد من دون الدخول في تفاصيل وجدانية دقيقة كما هي الرواية، ولكن في وصفه المتخيل للسيرة، تجد نفسك أمام مشاهد سينمائية كثيرة التفاصيل سريعة الحركة، فكان تداخلاً جميلاً بين المفهومين لا يمل بالرغم من الحجم الكبير للرواية، كمشهد جنازة ابن رشد، ووصفه لمدينة بغداد، بكل تفاصيل المشهدين وحركتهما، درجة عالية من الإتقان والدقة الملفته للنظر.

 

«أربعة أوتاد يثبتون قلبك»

«طهر قلبك» ذاك حديث فاطمة القرطبية تلك السيدة الفقية التي أحبها فكان لها ابن وتلميذ وكانت له كالمربية والمعلمة حديثها الذي أدار حبكة الرواية كلها. «الاوتاد» والوتد هو ما ثبت وأوتاد الأرض جبالها هو ما نطمئن لقوته وثباته كي نحيا حياة طيبة او آمنة فكانت جملة «طهر قلبك» هي مبدأ الرحلة الداخلية في نفس أبن عربي اولا ثم بحثه بطول السيرة عن اوتاد مميزين يثبتون قلبة. وحين أتم البحث وقف مذهولا متسائلا: «لا أشعر بالثبات يا مولانا»، فدار بين التلميذ والوتد الأخير أجمل حوار في الرواية حول مفهوم الثبات والحياة. فالوتد الأول شيخ صوفي منصرف للعبادة، والثاني صديق مقرب جدًا، والثالث وتد الحب والعشق في شخصية حبيبتة نظام، والأخير درويش يتقن الكشف والكلام والحب، فلو جمعت كل هذه الاوتاد لكونت حياة، ليست بالضرورة فاضلة من الدرجة الأولى، إنما راسخة وثابته بطهارة القلب، متوجة بالحب الذي كان خلاصة أوتاده وحياته، فتلخصت حياته المثيرة في بيت الشعر الأثير والمأثور عنه: أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.