arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في القندس

صحيفة السفير اللبنانية

بيت الرواية من أنقاض بيت الحياة

عناية جابر

شاعرة لبنانية

«القندس» رواية الكاتب السعودي محمد حسن علوان، هي الرابعة بعد «طوق الطهارة» و«صوفيا» و«سقف الكفاية» وكلها صادرة عن «دار الساقي». في جديد علوان، يرى أن في حياة أخرى، كان جدّنا الأكبر قندساً ولا شك: «لو أني اكتشفت ذلك مبكراً لوفرت على نفسي عمراً من التعب والشجار والغضب والعقوق والسخرية. ولكن ما أدراني أن ثمة حيواناً يشبهنا في النصف الآخر من العالم؟ لم يظهر في الرياض حيث لا تقام له المهرجانات ولا تعلّق صورته في الميادين. كان عليّ أن أنتظر أكثر من أربعين سنة حتى أفهم عائلتي وأنا أصيد السمك على ضفة «ويلامت» وأقتسم التمر مع قندس.

وجد علوان لروايته تيمة القندس، وعليها راح يسرد تلك الكدمات الروحية التي وجدت شبيهاتها في شكل وحركات وطبائع القندس، وتذكرّه هذه بأمه وأبيه وأخواته عندما يتأمل الكاتب القندس، عندما تتأمله العائلة وهو يجوب ممرات البيت وردهاته بحثاً عن خشب وماء، ستكتشف أنها تشبهه، برؤوسها الكبيرة وأحناكها السمينة ورقابها الغائبة وأبصارها الضعيفة: أرهقنا تغيير هذه الصفات طويلاً بينما لا يبدو القندس آبهاً لذلك وهو يمشي فخوراً بأسنانه وفروه وردفيه. ولكن ذلك سيتغير حالما تحقنه الرياض حقنة التفاضل فيقرر ان يتحول إلى مخلوق ليس هو ويسألنا المساعدة في ذلك. فيأخذه سلمان معه إلى النادي الرياضي الذي يعالج فيه قصر قامته بالعضلات رغم أنها جعلته يبدو أقصر، وتسلخ عنه نورة ومنى فراءه البني مثلما تفعلان بسيقانهما وأذرعتهما كلما زارتهما المرأة السودانية التي تنزع الشعر، ويصطحبه أبي إلى المكتب ليعلمه أصول التجارة الحذرة ويكسبه مهارات العمل الجاف بلا راحة. وتقهيه عمتي فاطمة من دلتها الكسولة المليئة بالحسرات، وتأخذه بدرية إلى بيتها ليلهو به أولادها الذين يلهون بكل شيء ويسأله زوجها عن واسطة.

أكثر من شكل

الروائي محمد حسن علوان، يدمّر بيت حياته، ويستخدم حجارته ليبني بيت روايته. طفولة قلقة في عهدة والدين متنافرين ينتهيان إلى الطلاق. هناك قبح كلّي في عالمه، لكنه يخترقه بعنف، بهجرات تطول وتقصر إلى هذا البلد الأوروبي وذاك، حتى يقرّ قراره على السفر إلى أميركا، في رغبة الهرب من جحيم النكد، والنكران، والغربة في الرياض بلد الموطن والأهل. الأمّ، كما تتبدى في رواية «القندس» هي الأكثر قسوة، توازيها لا مبالاة الأب بكل من حوله، وانسحابه الداخلي من دائرة عائلته، والأخوات لديهن ما يشغلهن بعيداً عن الشاب المستوحد، المستغرق في عزلته. سوى ان اللعبة الذكية التي كشحت سوداوية الرواية، هي أنها لم تولد من الروح النظرية، بل من روح الفكاهة.

لا يستخدم علوان طريقة مسرفة في التأليف الروائي، بل يعتمد الفلاش باك، للعودة إلى مشاهد في الطفولة والشباب، وهي طريقة منهجية، فالشكل دائماً هو أكثر من شكل، والشخصيات هي بميزاتها وتوصيفاتها الخارجية والداخلية، ودائماً تقدم ذلك الاختزال للعالم في التتابع السببي للمشاهد. رواية علوان بشكلها الخاص، تؤكد ان الشعر واقع لا محاولة، ليس في الأحداث، ولكن هناك حيث تتوقف الأحداث، حيث ينهار الجسر بين السبب وأثره، وحيث الرقة المتولّدة من الوحشة، وحيث يتجول الفكر في حرية حلوة كسولة. شعر الحياة، تقول رواية «القندس» رغم أنه حزين، يكمن في الاستطراد، في الذي لا يقاس، في الجانب الآخر من المشهد، شعر بلا عقل، انه في حرية الكاتب الداخلية، وفي لغته.

لا شيء يجمع بيننا نحن الأخوة المنفرطين من رحمين ـ يقول الكاتب في جزء مؤثر من روايته ـ عندما شعر أبي بذلك قرر ان يطلينا بالصمغ ويلصق بعضنا ببعض كيفما اتفق حتى نبقى معاً ولو كانت قلوبنا شتى. سيفهم القندس حكاية الصمغ هذه من دون ان يتحسس جلودنا أو يشمّها لأنه اعتاد قبلنا الالتصاق بأفراد العائلة ليجعلوا من قلب النهر مكاناً دافئاً للعيش. نحن فعلنا ذلك أيضا لنجعل الرياض أقل وطأة وإن لم نقض على وطأتها تماماً، ولنجعلها أكثر وضوحاً وإن لم نفتح كل الأدراج. عندما نرش الماء على دائرة من العشب الضئيل نعلم أنه لن يقتل الغبار والظمأ.

يلاحظ القندس في مجريات الرواية (في تورية ناجحة) أن عائلة الكاتب بكماء في ما بينها، ثرثارة في محافل الآخرين. يخترعون فضائحهم بكتمان رهيب حتى لا يعرف أحدهم ماذا يحاك في الغرفة المجاورة. سلمان الذي يسرق الوالد بمبررات شرعية، ومنى التي تحرق الرجال وكأنهم فراشات ضالة، وعمتهم التي تقتات من قلبها مثلما يقتات الجمل من سنامه.

إنها الكتابة المتعلقة بالحياة الشخصية، كي لا نقول سيرة ذاتية، وبوسعنا القول إنها الكتابة متحررة من سيطرة العقل ومن الاهتمام بالاحتمالات، مجازفات في حياة شخصية متعذرة على التفكير العقلي. البساطة والصدق، هما النموذجان لنوع الحرية الذي نعتبره الاكتشاف الأكبر للفن الحديث. يكتب علوان كما لو أنه مستمتع مع ذلك، بوحدته المتشظية تماماً. رحلته مع ذاته لا تستقيم في خواتيمها بل تنتهي نهاية طبيعية لكل تلك العلاقات الأسرية المفككة، والغرامية التي لم تلتهب من عصب حار، بل من رغبة مؤقتة شأن كل الرغبات التي يُهمدها التكرار والجذر الباطل. تنتهي الرواية إلى توزيع ورثة الأب، كما لو أن المال وحده، كان الجامع الوحيد بين قلوب الورثة، وتبقى العزلة مضاعفة، تحتمل رواية جديدة مفرودة لها وحدها.