arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

جريدة الوطن السعودية

الموت وقطف المتعة في ”صوفيا“ علوان

علي فايع الألمعي

قاص سعودي

لم يعد مستحيلاً أن تتحوّل الأزمة إلى عمل روائي مقروء، يشدّ من البداية حتّى النّهاية، ولم يعد ـ أيضاً ـ مستغرباً أن يأتي مثل محمد حسن علوان في عملين روائيين ليخلق حوله جدلا طويلاً، ويبتزّ ـ بفعل المقدرة الكتابيّة ـ أعمالاً وروائيين سبقوه تجربة وكتابة، وإن كانت في عرف الأدب ليست المقدرة التي يمكن أن تقاس بالعمر وزمن الكتابة، فهو هنا ـ أي علوان ـ يتجاوز مأزق الكتابة الأولى في سقف الكفاية، ليتّجه إلى عمل أدبي آخر تشكّله علاقة رجل ”معتزّ“ بأنثى ”صوفيا“ الّتي تمنحهما الصدفة لذّة الحوار، وعنفوان التجربة، فيما تسكنهما علائق متلازمة تقودها عواطف دفّاقة ومشاعر إنسانيّة غارقة في الحزن تارة وفي الفرح المشوب بالخوف أخرى.

تلك المتلازمة التي يرسمها شاب ثلاثيني، يكره الرّتابة وتقلقه الحياة المكرورة، بينما تدفعه رغبة التغيير واستطاعة العيش في أكثر من مكان شريطة أن يكون غير مألوف من قبل، فيما تنتزع الظروف القاسية فتاة لبنانيّة هي ”صوفيا“ من صدمة الموت بعد أن علمت إصابتها بالسرطان وتقودها إليه غير عابئة بوقته المعلوم ـ أي الموت ـ وزمنه الّذي بات لديها مرسوماً في ورقة التقويم الّتي أخذت تقطفها بانتظاره، تلك العلاقة التي ابتدأت عن طريق النّتّ وانتهت إلى قصّة جزينة انقلبت فيها موازين كثيرة، وتعقّدت فيها أمور عديدة.

في الرياض ابتدأت وتشكّلت وفي بيروت اكتملت، وفي الرياض عاد “معتزّ” ليدفن رتابته، ويثور على ذاته.تلك البداية التي قادت معتزّاً إلى أن يخلّف أميالاً تفصله بين بيروت والرياض، إذ وجد نفسه ترتجف، وأصابعه تلتهما برودة جسدٍ هائلة، فيما تخترق تلك البرودة أضلاعه وتتمدّد فيها، فهو الذي لم يكن قد سمع من قبل انتحاباً بهذا القدر من الانكسار، ولا صراخاً يحمل كلّ تلك الحرقة والخوف والوحشة، لقد قادته تلك المشاعر إلى بيروت، ليزرع حبّه وقلبه في جسد صوفيا، قبل أن يطفئ سيجارة الملل التي تحرق فمه ـ على حدّ تعبيره ـ فمعتزّ هنا حالة خاصّة مرّت بتجارب مختلفة، فحياته التي تتجاوز الثلاثين سنة شهدت تربيته لسلوك مجنون في ذاته، فهو شديد الرّغبة في أن يتخلّص من كلّ الأشياء التي تثير في نفسه الملل، أن يرميها وراءه مثل حذاء ضيّق لا يلتفت إليه، كما أنّه يؤمن بأن كلّ شيء يثير الملل في نفسه يستحقّ أن يُلعن كثيراً، ويُعاقب ـ على حدّ قوله ـ حتّى النّاس والأشياء، فهم ـ حسب زعمه ـ يخنقونه مثل الغبار!.

فهو ابن الطفولة المدلّلة التي اعتاد أن يلمس كلّ الأشياء بيديه، لكي يغيّر حالتها التي هي عليه فهو الذي يحبّ أن تمثل كلّ الأشياء أمامه، ليس شرطاً أن تكون جميلة، شريطة ألاّ تبقى على حالتها، وهو هنا يرسم صورة واضحة لشخص مختلف، تتنازعه عادات وسلوكات مختلفة ومتباينة فهو الذي فقد أبويه في العشرين من عمره، وهو الّذي سافر إلى مدن عديدة، وهو الّذي عمل في أماكن مختلفة في البنوك والشركات والدوائر الحكوميّة وهو الذي فتح مطعماً ثمّ موسسة للمضاربة، ثمّ نادياً صغيراً للألعاب وهو الذي أقفلها جميعها، كما أنّه الشّاب الذي ورث عن أبيه مالاً كان يمكن ألاّ يحوجه إلى العمل، وهو الذي تزوّج وطلّق بعد ثلاث سنوات فقط، إلى أن جاء صوت ”صوفيا“ تلك الفتاة البيروتيّة، تلك الأنثى التي تُعاكس قدر الديمومة التي تشترطها النساء في الحبّ، وتأتي دونهنّ مثقلة بحمّى الرّغبة المؤقتة المبتسرة، وتدفع الحبّ بسخاء من لا يخاف أن يُفسد عليه حبيبه، أو يُفلس هو من عاطفته ـ حسب رؤية معتزّ ـ.

فهي الّتي قاومت المرض الخبيث بأن تحدّته، حينما قرّرت أن تترك عملها وأن تصعد على كرسيّ خشبيّ قصير وتعلّق تقرير الأطباء هناك فوق سرير مرضها وأمام ممرّضتها الخاصة وفي بيتها المطلّ على البحر، وهي تعي بأن الموت يمرّ من هنا قريباً كي يأخذ ما بقي لها من عمر ولأنّها تتحدّاه فقد رغبت أن تنام تحته دون خوف.

وهي في ظنّي العقدة التي خلقت للنّصّ بريقه، وللعمل وهجه، فهما يستحثان الحياة وفي داخل كلّ منهما بأسه وضيمه، وهما يسبقان الموت بعواطف محتدمة تتصاعد تارة وتنطفئ أخرى لحظة رغبة ”معتزّ“ في الانفلات من العواطف وتحكيم العقل الذي أخرجه عدّة مرات من منزلها،وعاد إليه بعواطف مختلفة تزيد الحالة اشتعالاً، وتمنح النّصّ مسوغات الإطالة باختلاق لحظات الغياب، لتنتهي الرواية بموت ”صوفيا“ المتوقّع نتيجة مرض السّرطان، وعودة ”معتزّ“ إلى الحياة كي يريب أشياء مألوفة من حياته، وهي ـ حسب رؤيته لها ـ تكاد تخنقه وهو يسقط في حقل الغرابة!.

بقيت الإشارة إلى أنّ في رواية ”صوفيا“ لمحمد حسن علوان والصادرة في طبعتها الأولى عن دار السّاقي عام 2004 أشياء كثيرة تستحقّ الوقوف معها كبيروت التي خلتها صوفيا حتّى لحظات الانفراج الأخير، فهي التي ترعى أحزانها وأحزان أبنائها جيداً، فقد شعر في لحظات حزنه أنّها لا تحبّ غير أبنائها، وتلفظ الغرباء، لأنها لم تعد تحتفي به كما كانت صوفيا!.