arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

جريدة الاقتصادية السعودية

الملل: بين صخب التغيير ووحشة اليأس

أحمد الصغير

يقول فلوبير: “يجب على الفنان أن يكون كالخالق في إبداعه، غير مرئي، ومع ذلك قوي بكل معنى الكلمة، يجب أن نستشعره في كل مكان ولكن لانراه أبداً”.

في رواية صوفيا وهي الرواية الثانية للكاتب محمد حسن علوان، أقرأ صراعاً هادئاً – يليق بسرد الحكايات المحزنة- في ثوب فلسفي جميل. يبدؤها بالحديث عن الملائكة لحظة موتها متأملاً هذه اللحظة على لسان الراوي، الموت النهاية الحتمية لكل المخلوقات، لكن موت الملائكة حسب رؤيته موت مختلف ربما لا يشعر به إلا من عاش موت أناس يشبهون الملائكة “على ارتجاف أشياء واهنة جداً نراقب كيف تلفظ الملائكة الدفق الأخير من النور، ولا نشعر بها، لأننا لانفهم إلا شكلاً واحداً للموت، بينما الحالات البديعة التي تدهشنا دائماً تموت فيها ملائكة كثيرة ولاندري”. ص7، هكذا يستدرج الكاتب قارئه إلى عالمه الملائكي المشحون بتلك الصور التي تتناثر في المقدمة بغية إدخاله إلى عمق حكاية ما تزال ناشئة بين “معتز” و “صوفيا” ومع ذلك متجهة صوب الموت، “وأنا المتورط بالشفقة البادية على وجهي، ملاذها الأخير الذي تريد أن تراه لأول مرة، بينما العلاقة كلها ما زالت محبوسة بين قوسين، مثل كل الجمل الاعتراضية التي تقبع بين الكلام بتوجس في انتظار ما يبررها، قبل أن تخلع قوسيها، وتعلن نفسها جزءاً من الكلام، يحق له أن يقال، ويكتب، وينتخب في ذهن النص”. ص9.

قلق داخل شخصيتين تأتيان للحظة الموت الأولى شاهدة” معتز”، والأخرى محكوم عليها به “صوفيا”. بإرث من حياة يملؤها التمرد يأتي معتز محاولا الخروج على قانون الثبات لأنه يكره التجمد “أنا الذي تعودت على الخطوط العمودية التي تصعد نحو الأعلى، وتتغير، وتتحرك بسرعة، لا أستطيع أن أعيش حالة ثابتة موازية للزمن، لابد أن أخترق الزمن نفسه، أطعنه في خاصرته”. ص22. أما صوفيا فقد ناءت عليها الحرب اللبنانية بكلكلها في فترة طفولتها، ثم عاقر السرطان شبابها ليصبح عمرها مسألة أيام كما تتشدق التقارير الطبية بذلك، لكنها ترفض أن تعود للحياة بالعلاج الكيميائي، بل إن الحل الوحيد الذي لا ترى سواه هو استقبال الموت.

معتز الذي يعاني من خلل نفسي جعله يعتبر موت والديه أمراً مثيراً، أو تواطئاً عجيباً من القدر معه “كلما اقترب مني الحزن كنت أتجول في البيت وأستمتع بالخلاف،من دون أب وأم،وأبكي راضيا”ص28، ويجتمعان لكن صورة الحب تأخذا شكلاً آخر تتداخل فيه رغبة كليهما في تبديد لون الحياة الباهت بالحب، لاسيما بعد أن أخذت حياة صوفيا منعطفها الأخير “فكرت في مناكفة الموت الذي يعبث فيها، مادمت ملجما في الحياة بلجام الضجر”، ويستطرد: “…ولا أرى أن ادعائي حالة الحب التي تريدها صوفيا يعد تزويرا في عاطفة صورية لا أكثر”، ثم يبرر: “لماذا لا يكون تغيراً في تعاطي الحب مثلا؟ لماذا لايكون اتفاقاً مباشراً لتقديم الحب كجولة سياحية مؤقتة، مقابل نصيبي من التجربة والإثارة والمراقبة؟!” ص35. لكن الملل قدر معتز إذ مهما حاول الفكاك منه وجده أمامه، لذا كانت آخر جملة في الرواية كلها وعلى لسانه جملة مطلقة” أشعر بالملل”ص144، وهذا تمرير فلسفي رائع؛ فالملل أمر مسلم به والإنسان يسعى دوماً إلى تبديده ومع ذلك لابد أن يعيشه ولو للحظات؛ ولذلك فنحن ندعو الله ألا نرد إلى أرذل العمر حتى لانمل قيود الشيخوخة. بينما صوفيا تبحث عن المشهد الثاني للحياة، بعد أن تعبت من الحرب في أول عمرها:”والله تعذبنا كتير”وسحقت بالسرطان،وهي الآن تحاول الهرب من قسوة انتظار الموت بعمل أي تغيير من شأنه أن يخفف حدة الملل الذي يصحب الانتظار. ثم تتصور مجيء الملائكة بعد أن تموت وتتخيل كيف ستشكوهم إلى الله إن لم تمت بشكل جميل في اتفاق مع نظرية الفيلسوف ديكارت إذ يقول “إن الحياة مسرحية رأينا المشهد الأول، مشهد الظالم والمظلوم،الغالب والمغلوب،القوي والضعيف،فأين المشهد الثاني الذي يكون فيه العدل؟”.

أراد الكاتب لهذه الرواية أن تبحر في بحر الحب الذي يرتبط غالبا بشخصين،فقنن الشخصيات الفرعية،بل إنه جعل العمل مختزلا لكثير من الأحداث، فمر على مواقف كثيرة في ماضيهما بشكل سريع وكأنه يريد إخراج القارئ من أي جو قد يستغله الملل. حتى إن لحظة وفاة صوفيا جاءت بصورة تقريرية متواضعة في سياقات النص”في فبراير ماتت صوفيا في مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت،بعد أن نقلتها الممرضة في سيارة الإسعاف إلى هناك إبراءً لذمتها، واختصاراً لأي إجراءات قانونية معقدة قد تكون” ص143، إلا حين نعتبر بداية الرواية وحديثه عن موت الملائكة هو الانعكاس النفسي لسطوة فراقها عليه.

مارس محمد قمعا على بطله، فهو مثلا يحب التجريب تجريب أي شيء وهو مفتون بالإثارة لدرجة أنه تمنى أن يحل محل زوجته في الحمل،لكنه يرفض فيما بعد أن تحمل صوفيا منه رغم مافي ذلك من إثارة، ومناسبة لشخصية مندفعة يستهويها الغريب، وكذلك استئناسه بالاختلاف في المنزل بعد موت والديه كما سبق وأشرت،ولكنه يذكر وحدته بعد طلاق زوجته بما يخالف”….ولم أتصالح مع طعم الفراش الوحيد، ومع رائحتي فقط في المنزل”ص78. إن اتكاءه على اللغة أكسب العمل جمالاً وروعة، فهي لغة تنهمر كموسيقى حزينة تسكنك، تدخلك أجواءً هادئة، تتمنى كلما انتهت أن تعود من جديد”…وأنا البعيد الممتلئ بالصحراء والرتابة، والعقل الخائب، كنت جزءا من القرار، ومنتدباً من بلادي لتشييع غصن أخضر مقبل على الجفاف”، وبشيء من العمق”الحب ثمرة يجب أن تؤكل في وقتها، تؤكل كاملة، ومرة واحدة، وفي وقت محدد، أو تفسد! الثمار لاتخزن في خزائن العمر”. وبالفعل لقد حاول معتز وصوفيا أكل ثمرة الحب كاملة،مرة واحدة وفي وقت محدد جربا فيه تذويب ملل قاس مصدره حب التغيير،وآخر أشد قسوة مصدره وحشة اليأس.