arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الرياض

لغة علوان مكوّن بنيوي وليس مجرد قشرة قولية

المريض السعودي

محمد العباس

ناقد سعودي

أقسى وأكثر التعريفات واقعية للحب هو المبالغة إزاء كائن عادي. ويبدو أن محمد حسن علوان جعل سقف كفايته امرأة سلبية عاطفيا، فهي مجرد تمثال لغوي مصقول بعبارات ميلودرامية، أما داخل البنية السردية فليست مضاعفة كما يفترض في المرأة العاشقة عندما يسويّها الوله، فالحب لا يدوم إلا بالتضحية، ولكن بطلته/حبيبته ” مها ” التي تجيد تغيير مداراتها بين الرجال بسهولة، لم تكن على استعداد لأدنى درجات الوفاء، بقدر ما مارست بطولة الفرار مع زوجها، وتذكره، أي حبيبها ” ناصر ” برسالة باهتة بعد أربعين يوما بما يعني التأبين لحب ولد في مأتم، ومن طرف واحد، وفيما يبدو استهلالاً مازوخياً يكون الحب بموجبه هو المبرر لكتابة مثيرة ومستفزة أو ربما مضادة من الوجهة الأخلاقية.

ولكن تلك الكتابة قد تتخلخل اذا ما انزاحت إلى النبرة الوعظية، أو الرطانة كما حدث في “سقف الكفاية” حين أجل علوان وضع نقطته المتوجبة في آخر السطر واستمرأ رثاء ذاته، اتكاء على مفهوم غوته الشعري للرواية، بما هي ملحمة ذاتية لتصوير العالم، خصوصا حين تكون الضربة الروائية الأولى، حيث أراد التعبير عن كل اعتقاداته العاطفية دفعة واحدة، بالكثير من اللغة لدرجة أن الرواية أصيبت بالترهل، وفي بعض المفاصل فارق شريطها اللغوي السرد واستحال إلى كلام، فيما يبدو انصياعا إلى لغة قبلية تتكلمه ولا يتكلمها، وتفرض عليه شروط التحدث والتفكير من داخلها، بتصور امبرتو اكو للفعل اللغوي المضاد للغة المفكرة داخل الكاتب.

هكذا اقترب محمد حسن علوان – سرديا – من مغريات الرواية الشعبية التي تضع القارئ، أو المروي له، نصب استراتيجيتها السردية عوضا عن الاقتراب من تعاليات النصاب الأدبي، كما يفسر سر قوتها أو جاذبيتها ايان واط، أي في الجمع بين الرومانس والواقعية الشكلية المطبق على كل الأفعال الخارجية الظاهرة والمشاعر الداخلية الباطنة، بحيث تشبع المطامح الرومانسية للقارئ بما تقدمه من خلفية كاملة وتوصيفا تاما لتفاصيل التفكير والعاطفة، بحيث يظهر ما هو في الأساس مداهنة غير واقعية لأحلام القارئ وكأنه حقيقة حرفية، فواقعية الفعل للبطل تحيل إلى كائن مهدّم يفصح عن لا واقعية واضحة للجميع وحتى لنفسه، نتيجة المكوّن الرومانسي الفائض في شخصيته.

وهذا الانزياح المبيت هو الذي وضع ” سقف الكفاية ” أمام حالة من التحدي الفني لتجاوز موضوعها الرثائي، وإخراج السرد عن عاداته، كما يقترح آلان روب غرييه لتجديد خلايا الروي، أو هذا حاوله علوان تصعيدا لروايته إلى معنى المأساة العنيف، كما يفترض مفهوم الرواية الغنائية، بتصويرية محدّثة تجهد للانقلاب على رتابة السرد، فعلى تلك القسوة الشعورية الممضة حاول علوان تدبير بعض سمات بطلته الجمالية، ليرفعها بسقف أنوثة ” تتساوى تحته النساء، وتستحيل فوقه النساء أيضا ” كما مددها برافعة لغوية شعرية الرنين، لا تكمن حقيقتها الروائية كأحداث وشخوص في إعادة تركيب الواقع بمتخيل روائي، برأي برنار غرسه، بقدر ما تدين إلى مجرد انفعال علوان كراو، لدرجة ينعدم فيها الخط الفاصل بين السيري والروائي.

وبشيء من المزج المؤثر ما بين الواقعي والخيالي رتبها علوان بشكل مثير للعزاء في حمى الحب الشهوية، حيث المكمن التعبيري الذي تزدهر على حاثاته النبرة الشعرية، برأي ميشال بوتور، كلما قاربت القدسي والمضيع، وربما ليشير إلى أناه الوالهة، الشاعرة، الكاتبة، التي تجرب الكتابة في صبوة الحب وليس في حالة انعدام وزن وتهدم، ليوسع من هامش أوراق روايته بحيث تحتوي حزنه وفجيعته في امرأة يحاول أن يعيشها مرة أخرى على الورق، أو يجهد عبثا لإماتتها، وبحيث لا تتجزأ شعرية السرد في مقاطع منتقاة من الرواية بقدر ما يكون مجموعها النصي على درجة مقنعة من الشعرية حيث الرهان على اللغة، بما هي – حسب التصور الهايدجري – شعر في جوهرها.

إذا، الذات هنا هي الإستقطاب المفهومي والجمالي لتلك الواقعة العاطفية، فيما يبدو استخداما توظيفيا لشخصية ” مها ” للإشارة إلى تجليات علوان كعاشق وكاتب لا يحتفظ بمسافة تفصله عن الراوي فهو يستشري في ثنايا النص بحراك أفقي وعمودي استحواذي فيما يشبه مناجاة كائن علوي وبنبرة عرفانية ” أستطيع أن أكتب عنك، ولك، وبك، وفيك حتى أموت، فعقلي تحوّل إلى رحى لا تطحن إلا حبات حبك، ولا أسمع إلا أنت، ولا أغازل إلا أنت ، ولا أبصر إلا أنت ” فكل تلك الإحالات ترتد الى ” أنا “الراوي لتبئير الرواية ومركزتها على الدوام في شخصية ” ناصر ” كراو يستحوذ على كل عناصر القص، وتقوم سرديا على تقنية ” الرسالة ” لإضفاء الحميمية فيما يشبه المساررة، أو التأكيد على بنية سردية مغلقة بين الراوي ” ناصر ” والمروي لها ” مها ” كقارئ ضمني، دون تأوين للفعل السردي، بحيث يتسيد الراوي النص ويستحوذ على انتباه المروي له داخل وخارج النص بنبرة غنائية، تتفجع وتبالغ في رثاء الذات، مردها صوت شعري أحادي، يمكنه الكتابة حتى على الهواء، كما يفترض خطاب العاشق، لكنه من الوجهة الفنية لا يخلّق الظمائر المركبة، القابلة لتوليد تعددية الصوت والبناءات المتحركة.

ويبدو أن ” سقف الكفاية ” تراهن على إثارة الانفعال، من حيث مفارقتها القصدية للبنائي، وتماثلها بما يسميه بول فاليري بالنصب الغنائية، التي توسع حيزها الميلودي بجاذبية الايقاع، بحيث لا تعتمد على الموضوع ولا على الأفكار والعناوين العريضة، بقدر ما تتقصد الإهتداء إلى اسلوب يمكن بموجبه احتضان الموضوع وشعرنته، بغض النظر عن نهج التعبير، أي بمعنى الاتكاء على النبرة الغنائية الصافية، فكلما كان هنالك اسلوب تعززت الرنة الشعرية، بتصور مالارميه، وهو ما تحقق في بعض مفاصل ” سقف الكفاية ” التي استحالت وفق تلك النبرة الى وثيقة عاطفية مثير للعزاء والانفعال، استطاع بها علوان تجسيد انطباعه الشخصي عن الحياة، وإن بمنسوب أقل كثافة مما يقترحه هنري جيمس للتماس بالمفهوم الروائي، بما هي – أي الرواية – تنسك شخصي جمالي وموضوعي.

هكذا تنطرح ثيمة الحب بجرأة لافتة، ومن واقع التجربة الحسية كما يبدو من الوقائع والتضمينات التي تشير الى صدقية الذات وقدرتها على إمحاء المسافة بين اعتقاداتها ودوافعها، وبين منطوقها ووجودها النصي والواقعي في آن، فيما يبدو وعيا بعقلانية النفي كما يسمي هربرت ماركوز ذلك التطابق، حيث الخضوع لليومي وعدم التعالي على تجربة المعاش، كما يبدو ذلك في التمثل بالعصري والواقعي والمقروء ضمن جدلية التأثر، فعتاد البطل هو الغيرة الحادة الهجائية ازاء زوجها سالم، وأغنية ” هلو ” لليونيل ريتشي، وفيلم ” جسور مقاطعة ماديسون ” لكلينت ايستوود، وروايات أحلام مستغانمي، ومقولات ذات دلالة لعباقرة الفكر والفعل الانساني لم يستطع علوان تفكيك قوالبها وإذابتها في مجرى سرديته، بقدر ما استدعاها للتدليل على وجهة شعورية أو اعتقادية، فيما يبدو تورطا جماليا لبرجوازي صغير، حسب ر. م. البيريس يدور في مونولوج بائس يعيش في الوحل والظلام، ويتدافع نحو مكمن ارستقراطي ليجعل من تأملاته للوقائع والشخوص قيمة فلسفية، ولو من منظور شخصاني، أو هذا ما حاول الإيحاء به علوان باسهاب لغوي فخم وشهواني ومفجع ليضع المجتمع بأكمله تحت طائلة التأمل الذاتي بسردية تنقلب أحيانا على غنائيتها بالمأساوي، بل وتنحاز بها أسلوبيا من حرارة الدفقة العاطفية الرومانسية إلى نبرة النعي.

انها الذات الذكورية المسكونة بالأمومي حد التوحد والبكاء في لحن واحد وشخص واحد ولكن بعيون أربع، كما وصف علوان حبله السري العالق بأنوثة الحياة قبل أن تنفطم بأنثى مضادة. أجل، الذات التي يحتل طراوتها الحب ويدهمها لأول مرة فتنفضح تخلخلات رجولتها بمجرد رحيل الحبيبة ويتعرى ” الرجل الساذج الذي يتعلم أبجدية الحب ” مع عابثة في رداء عاشقة تمتص من الرجال أجمل ما فيهم. تكاتب رجلا ( حسن ) في مرسيليا لتستبقي انجذابه اليها، وتتزوج رجلا ( سالم ) خاويا بلا زوايا، أشبه بالحذاء التافه القميء، كما يصفه ناصر، لتؤمن مستقبلها، فيما تتسلى بثالث لترضي كبرياءها وهو ما يبدو مقبولا عند ناصر من خلال ترديده ” لتزدادي غرورا يا مها، هناك رجل سيقاتل من أجلك وكأنك عقيدته ” على اعتبار أن ” مها ” هي المروي له، بالمعنى النقدي، وعلى ذلك يحاول علوان إغناء معرفتنا بها.

هكذا تستحيل الرواية محلا لأوهام كائن يتحداه الفزع الأخلاقي، تأكيدا لمعنى ” الرواية الأسرية ” المكتوبة أصلا في الطفولة قبل تدوينها، كما رسم فرويد مقدماتها النفسية، فقد استحالت ” سقف الكفاية ” ميدانا للتجابه بين مفاهيم الذكورة والأنوثة، والتأسي على رجل تربيه أمه لسنوات على قيم ومعاني الرجولة فتبكيه امرأة أو تتلفه بمعنى أدق بعد شهور، فالبكاء عار كما لقنته أمه، لولا أن البكاء بسبب فقدان ” مها ” كامرأة تجيد تغيير العقائد، التي تهدم عاداته السيئة في حبس دموعه منذ صغره، وليستقبل رجولته ” بدين ضخم من الدموع ” وفيما يشبه المناحة المستديمة يمنح الحياة ” كل ليلة قسطا طويلا من البكاء “.

هي إذا عودة الى حكايات الحب المغدور الكلاسيكية المكرورة لرجل يحب امرأة متزوجة فيصاب بداء قدري لا شفاء منه، ولا يخرج العاشق من صبوة الحكاية، أو حرقة التجربة الا بعاهة أو ندبة نفسية تكون شاهدا على أنه مرّ من هناك، أو أن امرأة عاتية قد عبرته، كما سخرت منه مس تنغل بقولها ” مجرد عاشق آخر “. فالحب إذ لا يتحقق على أرض الواقع، يتمناه محمد حسن علون أو يعيشه على منفى الورق كرواية، فهذا هو قدر الكاتب الضعيف، بتعبيره فهو ” لا يتخلص من قيود حياته إلا بقيود خياله ” ويعيش ” كيفما يريد اليأس على اختراع الأوهام فقط ” فطالما حلم ” ناصر ” في مراهقته بحب عاصف ” لا يبقي ولا يذر ” فهذا هو مبرر روايته، أي الوجع المدّخر، أو كما اعتبره علوان انحناءة العائد ” إلى الكتابة من أجل النجاة ” والذي قد يتفسر عند ” مها ” على أنه مجرد ” بكائية غابرة على جدار قديم “.

أجل، ها هي تنكتب ” مها ” رواية بحجم حزنه لتكون ” نصا لديه القدرة على التكيف مع الظروف القاسية عند رجل يائس فلا يمرض، ولا يكل، ولا يقف في منتصف الطريق ” حيث يستشهد بفيلم ” جسور مقاطعة ماديسون ” ليطابق حكايته بمآل البطل/المصور الفوتوغرافي الذي تاه عن الطريق ليصاب بحب امرأة متزوجة لأربعة أيام، لكنها ترفض مرافقته وتؤثر البقاء مع زوجها، فيفارقها بفجيعة الوداع، ولتفاجأ بمحاميه يبعث لها بعد سنوات من وفاته وترملها، بمجموعة من الصور التي التقطها لجسور المقاطعة مطبوعة في كتاب أنيق عنوانه ” أربعة أيام ” وعليه يفكر علوان في أن يسم روايته بعنوان ” أربعة عشر شهرا ” تيمنا بالفيلم الذي شاهده في غرفة مها.

ولكن، يبدو أن حكايته ومآله المأساوي أقرب إلى ما سطّره مايكل أونداتجي في ” المريض الانجليزي ” فبطل الرواية ” ناصر ” المسكون بآلام الكلى اثر فراق مها، يماثل حاله بالشاعر المريض اليتيم الضعيف النحس النحيل المغلوب ابي القاسم الشابي، فيما يبدو تحشيدا بدون مبرر فني للمبالغة في التمارض، فهو لا يكف عن التوجع في موال طويل يشبه تردادية الروندو ” أنا مريض يا مها، لست رجلا سويا، لا أحد يحب مثلي إلا المرضى ” فهكذا يتلذذ بإحساسه المرضي ” انني رجل مريض حقا “. ويزداد مازوخية عندما يستسلم لتوبيخات صديقه العراقي ديار الذي لا يكف عن الصراخ في وجهه ” يا لك من مريض … إني أحترم هذه المرأة التي أبكتك تقريبا بعدد المرات التي استمتعت هي بزوجها “.

هنا تتجلى لغة علوان التي تفارق سحرانية الخطاب الفارز للذات عن منطوقها، بتصور هربرت ماركوز، بحيث تحضر سرديا كمكون بنيوي وليس مجرد قشرة قولية، حيث يتصعد عنده الاحساس المرّ بالتماوت ” كانت عيناي الجامدتان تحثان ديار على مزيد من القسوة ” فيما يبدو تلذذا بتكرار مفردة المرض حيث يتأوه بشيء من الحرقة ” لا بد من حل ما لأني مريض ” ففي اللحظة التي تحولت فيها ” مها ” إلى امرأة متزوجة يتحول ” ناصر ” الى رجل ميت، يبحث عن قبر يليق بحلمه بها، ففي هذه الحدة المفرداتية ما يشير الى مآل مأساوي تعجز الأماكن والصحبة وحتى الكتابة عن علاجه نفسيا، بالنظر إلى كون كل تلك الشخوص والفضاءات بقية من عالم هو سبب علته، وهو يتحرك بمقومات بطل لا يقر أخلاقيات وأعراف مجتمع يتحداه عاطفيا، فهذا الحاضن ليس سوى اطار لمجتمع متأخر عن ارادات ” ناصر ” وعاطفته المشبوبة، المراوحة بين القيم والعصاب، وبين الفن والمعاش، والمنهكة من محاولاتها لإلغاء المسافة برواية/كتابة بيوريتانية تتقدم بضمير المستفرد لتحريك البناءات الزمنية والمكانية.

وعلى ذلك يمكن تأمل الرياض كمكان لموت الحب حيث يؤسس انتحابيته ” كذبة أن أخصب أوراق الحب هي الصحراء، كذبة كل أساطير العشق التي أخرجها التاريخ من عندنا ” فهكذا يبدا علوان هجائيته للرياض ليجيب من وجهة عاطفية عن ” السؤال الغارق في وحل مجتمعنا ” ففي الرياض التي نصف هواتفها عشق، والجميع فيها رقباء، الرياض الخاوية، التي لا تعد بشيء، يعلموننا ” كيف نكون ذكورا قبل أن يعلمونا كيف نكون إنسا! تكتمل ذكورتنا قبل انسانيتنا!” ولكن الرياض التي لم تمنحه أكثر من زحام الناس، والتي يخاف من العودة اليها ولا يفتأ يصرخ من فانكوفر ” ستقتلني الرياض يا ديار ” تغريه بالعودة، فالحب فيها ” عنيف أحيانا لأنه مدفوع بالثورة على كبت متوارث ” فأرصفة هذه المدينة القاسية لا زالت تصطبغ بأحمر عاشق ضرّجه أب معشوقته بدمه، أو هذا ما حاول ناصر أن يعيشه بشيء من الحذر والالتباس فالحياة كما وصفها ” مجرد محاولة فهم، وآخر هذا الفهم الموت”.

إذا، الرواية مستزرعة بذات تتجلى في فعل الحب، وتكره أن تنلدغ من حزن مرتين. وتتمنى لو تمارس شيئا من فروسية عشاق السرينيد ” ” ماذا لو أن المفاجأة تروق لك، وتغمرك السعادة عندما أخبرك أني أقف الآن تحت شباكك مباشرة “. أجل، الحب الذي جاء من حيث لا يدري ناصر، ومن حيث لا يستطيع اللحاق به، فلم يكن الحب قرارا يسعى ناصر لأخذه، بقدر ما كان قدرا، فهذه الذات الوالهة تشد كل مقومات السرد ناحيتها، حتى تأوين الرواية على محور الرياض/فانكوفر بقدر ما استولدت حائط مبكاها الرثائي ممثلا في مس تنغل، لزيادة تواتر السرد، وإضفاء رؤية مغايرة لمها وللرياض كحاضن قاتل للحب، بقدر ما أصابت السرد بشيء من الترهل من خلال التماس مع ديار العراقي والانزياح بالرواية الى رطانة الخطاب لتسجيل صفحات فائضة من تاريخ وثقافة ومزاج العراق، لم تستدمج بشكل مقنع في نسق الرواية.

تلك الأنوية الفارطة هي التي قادت مجمل العناصر، حيث انعكاس العالم الواقعي والمتخيل سرديا على شاشة وعي الشخصية المركزية، فيما يبدو اقترابا من الواقعية الفينومينولوجية، كما تسمي فرانسولز فان روسوم ذلك الاستحواذ السردي، فالتركيز على الحياة الوجدانية للشخصيات، وتكثيفها في المكوّن الرومانسي لشخصية ناصر، وضع السرد على محك يسميه ايان واط سلطان الرواية على التجربة الخصوصية، من حيث علاقتها بالوعي، وتماهيها الاستبدالي مع القارئ، بدون تجرد، فكل الظروف والأماكن والشخوص أقل من فعل الحب عدا ناصر، الذي اتهمته مس تنغل بالمبالغة الانفعالية، لدرجة أنه يفقد توازنه سرديا عندما يستعيض عن الحب المعاش، والمسرود من واقع التجربة الحسية الى هامش الحب المدبر أو المستعار.

وربما نتيجة لهذا العوز في مخزون الخبرة حاول توشية الرواية بخلفية سياسية قوامها الحال العراقي، فسقف الكفاية لم تكن أكثر من مغامرة شخصية، لم يكن الاكتفاء والرضى بقصها كمغامرة، حسب ميلان كونديرا، سوى حالة من القمع للخبرة والأدائية الروائية حيث تتقلص طاقة الرواية الادراكية، فهذا ترهل السرد وتورط في الرطانة الخطابية والتسجيلية حيث الاستشهاد بالجواهري والسياب والبياتي فيما يشبه الإقحام المعلوماتي، على العكس منه عندما كان يحاور ديار بشكل حميمي وصاخب حول ” مها ” أو بكائياته المطولة في حضرة مس تنغل، حيث الحاجة الى كائن يعمل بمثابة ” المروي له ” وليس القارئ، كما فرق جيرالد برنس بينهما، أو ربما كانت هنالك حاجة الى فضاء آخر لإضاءة المكان المغادر، وإعادة تأوين الذات المجهولة أو نبشها.