arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في القندس

مجلة الدوحة

القنادس تظهر في الجنوب

محمد المخزنجي

كاتب وأديب مصري

«في حياة أخرى، كان جدّنا الأكبر قندساً ولا شك، لو أني اكتشفت ذلك مبكراً لوفَّرت على نفسي عمراً من التعب والشجار والغضب والعقوق والسخرية. لكن ما أدراني أن ثمة حيواناً يشبهنا في النصف الآخر من العالم؟». أقرأ تلك السطور من رواية «القندس» للكاتب السعودي الشاعر محمد حسن علوان، فأهتف من زاوية الرؤية العلمية: يحيا الأدب!

يحيا الأدب الذي يتلمَّس برهافة الشعر وحدس الوجدان مُشتركات بين كل الكائنات، ومجازات تنسف أعلى الحواجز بين الحي والحي، فتنكشف وحدة الخلق في تشابه المخلوقات، وبقدرة الروح المترنِّمة يستطيع روائي شاعر في هجير الصحراء العربية أن يكشف عن ظهور كائن من أقصى شمال العالم في حيوات أدنى الجنوب، ويُجلِّي عبر التشابهات، عمق التباينات.

في الرواية المكتوبة بشعرٍ في النثر بديع، معالجة صقيع نفسي لجماعة بشرية تحيا في إحدى أكثر مدن العالم حرارة، وكأنه استخدم سمات حيوان القندس المادية ليقرأ قسمات أبطاله المعنوية. هكذا استطاع أن يجلب حيواناً عجيباً من بحيرات المنطقة تحت القطبية، ليستعرض فرادته في رمال صحراء الجزيرة، ويكشف لا عن تناقضات حيوان القندس، بل عن مأساة تشويه القندسة داخل البشر.

والقندس BEAVER، قارض مائي مشهور بأنه مهندس فطري في بناء السدود عبر أنهار أقصى شمال الدنيا، يشبه أرنباً كبيراً بذيل جلدي مفلطح، طويل عريض، يستخدمه كرفاص دفعٍ في الماء، وكمضرب يلطم به وجه البحيرة، فيُصدر دويّاً ورشاشاً يخيف بهما من يخيفونه في الماء أو خارجه. قوادمه الأمامية خفيفة ضعيفة وقوائمة الخلفية سمينة قوية بأقدام مُكفَّفة، مشيه على البر عسير، لكنه في الماء سباح وغطاس لايُبارى. بفمه أربعة قواطع أمامية بارزة ومشطوفة الحواف كما شفرات أزاميل حادة قوية، ينحت بها جذوع أشجار الحور والدلب مثل قاطع أشجار محنّك، يمكنه نحر جذع قطره ثلاثين سنتيمتراً في ساعة، وبدِقة تجعل الجذع لايهوي عليه عند سقوطه، بل يقع بعيداً عنه وعلى حافة الماء، فيسهِّل عليه تقطيعه إلى أجزاء يتيسَّر جرّها بأسنانه على البر، ثم سحبها طافية إلى حيث يهندس سدّه المدهش، ويكون ذلك في ذروة الصيف، لكن القصة تبدأ في الربيع.

لا يكون الربيع بديعاً أبداً عند القنادس تحت أقدام سلسلة جبال روكي في أقصى الشمال الغربي الأميركي، فذوبان الثلوج التي تراكمت بكثافة على هذه الجبال طوال ستة شهور كاملة، تنحدر فيضاناً هادراً نحو السفح، وتُفجِّر في مجرى الأنهار الغافية جنون تيار مُكتسِحٍ، يكون أهون مايكتسحه تلك السدود التي شيّدتها القنادس، وما أن يُخرِّب جنون النهر سداً من تلك السدود، حتى يهدّد الطوفان بيت القندس المُتوضِّع في حِمى السد. يصارع الصغار رعب الانجراف والغرق، ويتمزّق الأبوان مابين مهمة إنقاذ الصغار وإنقاذ البيت، ينقلان صغارهما الأضعف إلى مأمنٍ على البر، وفي النهر يقاتلان مع أبنائهما الأكبر فوران الماء، مرمِّمين ما تخرب من سدِّهما.

إنها تراجيديا الربيع الشمالي التي لا تؤذن فقط بترميم سدود الآباء القديمة، بل تومئ للأبناء الأكبر الذين قضوا أكثر من عام تحت رعاية الأبوين، بأن وقت الفطام عن تلك الرعاية قد حان، وحان أوان الاستقلال والرحيل، ليبني كل منهم سدَّه الخاص، ويبتني في حضن هذا السد بيته، ويُنشئ أسرة جديدة تكرِّر تاريخ الأجداد، بُناة السدود الأعظم في مملكة الحيوان، بل في كل ملكوت الأحياء على كوكب الأرض.

في رحلة استقلاله الربيعية القاسية، يمضي القندس الشاب بعيداً مع جريان النهر المندفع، حتى يرسو على جزيرة آمنة يلاقي فيها نصفه الآخر، قندسة شابة تشاركه بقية الرحلة بلا رحيل، بل بمكوث في المكان الذي ألَّف بينهما، تمتد فترة اختبار عمق الألفة طوال الصيف الرغيد تحت السماء المكشوفة، حتى يتأكد كل منهما أن الآخر هو اختيار حياته، فيشرعان مع انحدار الصيف في بناء سدِّهما المشترك الذي يحمي بيت الزوجية، ويكتشفان على أبواب الخريف أن ليس أمامهما غير أسابيع قليلة لإنجاز المهمة. يكون جريان النهر قد تطامن، وإن كان هبوب الرياح أبرد.

معاً يُسقطان الأشجار العالية في عمل يوصل الليل بالنهار، يقطعان بأسنانهما الماضية المصبوغة بحمرة اللُّب جذوع الأشجار، ويفصلان الأغصان عن الجذوع. في البدء يرصفان قاعدة السد بالحصى المدوَّر الثقيل في حِنكة، وعلى الحصا يُقيمان قطع الجذوع الأغلظ في نسق جمالوني كنجارين ماهرين، وفوق الجذوع يرصّان الأغصان الخِفاف، تصميم يعترض تسارع تيار الماء دون أن يعيقه، ويستجيب لمتغيرات منسوب النهر ارتفاعاً وانخفاضاً بطفو الجذوع والأغصان، فيجعل السد متحركاً، يصعد ويهبط بدقة «هيدروليكية» لم يستطعها أي مهندس للسدود من البشر في كل تاريخ السدود.

ها قد أكمل القندسان الزوجان الشابان بناء سدِّهما، وأمام السد انبسطت واحة من سكينة الماء، وفي هذه السكينة صار ممكناً أن يشيِّدا بيتهما بهندسة تتمم عبقرية بناء السدود، فهما يختاران وسط المياه تلة مرتفعة، يغطيانها بطبقات من الأغصان فوق الأغصان حتى تبرز فوق سطح الماء. هذه أرض البيت، وعلى هذه الأرض يقيمان البيت نفسه، جدرانه من الجذوع الطويلة تتكئ على القاع وترتفع مثل جدران الكوخ فوق تلة الأرض، يدهكان الجدران بالطين الذي ييبس ليحميهما ويحمي ذرِّيتهما من انهمار ثلوج الشتاء المُنذر ومن الصقيع، ولا ينسيان أن يتركا في قمة الكوخ المخروطي فتحة للتهوية! أما مداخل البيت فهي مصمَّمة ليعبرها أصحاب البيت دون سواهم من وحوش البر والبحر القطبية الهائمة والعائمة، فتحات سرية يستحيل إدراكها إلا بالغوص حتى القاع، ثم عبور أنفاق تحت القاع حَفَرها الزوجان الشابان بالأسنان والمخالب، لتنتهي بصعود مباغت إلى قلب الحِمى، والحميمية!

يضاهي محمد حسن علوان في روايته الأليمة البديعة بين القنادس والبشر، فيضع يده على الافتراق الأعمق بين الشبيهين إذ يقول: «صرنا عائلة قلقة، وحذرة، فظة وباردة، ونفعل ما تفعله القنادس تماماً: عندما يقرض القلق عظامنا نقرض بقية الأشياء، وعندما نجمع بعض الحكمة نشرع في بناء السد. الشيء الوحيد الذي لانجيده مثلها هو اهتمامنا ببعضنا رغم أنَّا أقمنا في بيت واحد مثلما تعيش هذه الحيوانات القارضة تحت آلاف الجذوع القديمة.».

هكذا يصل الروائي الماهر إلى جوهر الموافقة/المفارقة، عندما يفضح الغباء الروحي في السدود التي يرفعها البشر من حولهم لينفصلوا عن بعضهم البعض في تكارُه، مقابل الذكاء الفطري الحي في السدود التي تشيِّدها القنادس حماية لسكينة بيوت تواصلها والمحبة. أُسر بشرية مفكَّكة تحت أسقف خرسانية صماء في مدن البشر، وأسر مترابطة أشدّ الترابط تحت أسقف الأغصان وسط بحيرات القنادس. والحاصل أن القنادس تعيش كامل أعمارها دون أن تُخادع العالم أو يخدعها برغم عنف الطبيعة الشمالية، بينما قنادس روايتنا الجنوبيون تنقصف أعمارهم، وتتغضَّن قلوبهم ويُخادع بعضهم بعضاً من وراء السدود التي يحبكونها حول أنفسهم بعناد وغباوة، حتى يبهتهم أن جُزرهم المنعزلة بكل مظاهرها الوارفة، لم تكن غير كذبة، أو محض سراب.

يحيا الأدب، والعلم أيضاً.