arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في طوق الطهارة

جامعة الملك عبدالعزيز، كلية الآداب

العتبة والنصوص الموازية في الرواية دلالة مستقلة أم تابعة؟

(الباب المفتوح وطوق الطهارة نموذجًا)

تسنيم عمر وشروق عبدالرازق

باحثتان سعوديتان

قبل الولوج

لكل بناء مدخل، ولكل مدخل عتبة، ولكل عتبة هيئة، ولأن العتبات همسات البداية.. ”فقد اهتمت السيميائية الحديثة بدراسة الإطار الذي يحيط بالنص، كالعنوان، والإهداء، والرسومات التوضيحية، وافتتاحيات الفصول وغير ذلك من النصوص التي أُطلق عليها (النصوص الموازية)، والتي تقوم عليها بنايات النص. ويأتي الدور المباشر لدراسة العتبات متمثلاً في نقل مركز التلقي من النص إلى النص الموازي، وهو الأمر الذي عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحًا مهمًا في دراسة النصوص المغلقة؛ حيث تجترح تلك العتبات نصًا صادمًا للمتلقي، له وميض التعريف بما يمكن أن تنطوي عليه مجاهل النص.“[1]

العتبات والنصوص الموازية

ضوء خافت وبدايات نامية..

العتبات، هوامش النص، أو النص الموازي، مصطلحات اتفقت معانيها وتعددت المسميات عند الغرب، ومع انتقال المصطلح إلى العربية زاد تعدد المصطلحات إلى: الملحقات النصية، المحيط الخارجي، والمنصصات كترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي: La paratextualité.

جيرار جنيت، هو من طرح هذا المصطلح في مشروعه السردي الذي يهتم بالتفاعلات الموجودة بين النصوص، و نقلاً عن د. عبد الفتاح الحجمري في كتابه ”عتبات النص“ فقد عرف جنيت النص الموازي بأنه: ملحقات نصية وعتبات نطؤها قبل ولوج أي فضاء داخلي، كالعتبة بالنسبة إلى الباب.

يتمثل النص الموازي في: العنوان، العنوان الفرعي، العنوان الداخلي، الديباجات، التذييلات، التنبيهات، التصدير، الحواشي الجانبية، الحواشي السفلية، الهوامش المذيلة للعمل، العبارة التوجيهية، الزخرفة، الأشرطة (تزيين يتخذ شكل حزام)، الرسوم، نوع الغلاف، وأنواع أخرى من إشارات الملاحق، والمخطوطات الذاتية والغيرية التي تزود النص بحواشٍ مختلفة وشرح رسمي وغير رسمي.

ويمكن تقسيم النص الموازي إلى قسمين:

1. النص الموازي الداخلي (Péritexte): عبارة عن ملحقات نصية، وعتبات تتصل بالنص مباشرة. ويشمل كل ما ورد محيطًا بالكتاب من الغلاف، والمؤلف، والعنوان، والإهداء، والمقتبسات، والمقدمات، والهوامش.

2.النص الموازي الخارجي (Epitexte): كل نص من غير النوع الأول مما يكون بينه وبين الكتاب بعد فضائي أو زماني، ويحمل صبغة إعلامية مثل الاستجوابات والمذكرات، والشهادات، والإعلانات مما لا يوجد ماديًا ملحقًا بالنص ضمن نفس الكتاب، ويكون منشورًا في أي مكان خارج الكتاب: كالجرائد والمجلات والبرامج إذاعية، واللقاءات والندوات.

ويشير د.حمداوي أن للنص الموازي وظيفتين: وظيفة جمالية تتمثل في تزيين الكتاب وتنميقه، ووظيفة تداولية تكمن في استقطاب القارئ واستغوائه.

إذن، قهو خطاب مُفكر فيه من قبل المبدع!، وهو المواجه للمتلقي قبل ولوج العمل الروائي برسم انطباع أولي قد يثير أسئلة مسبقة تجيب عنها الرواية بعد القراءة.

ومع احتفاء الدراسات الغربية بدراسة النص الموازي، تجدها قد أغفلت في الدراسات النقدية العربية الحديثة، مع أن المتصفح لكتب النقد العربي القديم في المشرق والأندلس يجد مصنفات تهتم بالنص الموازي، خاصة عند من عالجوا موضوع الكتابة والكتاب، كالصولي في كتابه “أدب الكاتب” الذي ركز على العنونة وفضاء الكتابة، وأدوات التحبير والترقيش، وكيفية التصدير، والتقديم والتختيم، وكذا ابن قتيبة، والكلاعي، وابن وهب الكاتب، وابن الأثير، ومحمد علي التهانوي وغيرهم. وما يزال موضوع العتبات في الثقافة العربية القديمة في حاجة ماسة إلى من يسبر أغواره، ويعيد النظر في دراسته.[2]

نماذج تطبيقية

النموذج الأول

الباب المفتوح ”قصص“

* نبذة موجزة عن المُؤلٍّف:

عبد الرحمن منيف (1933_ 2004):
وُلد في عمّان لعائلة من نجد وسط العربية السعودية. درس في عمّان، بغداد والقاهرة.
بعد حصوله على الليسانس في الحقوق تابع دراسته العليا في جامعة بلغراد وحاز على الدكتوراه في اقتصاديات النفط ”الأسعار والتسويق“.

سُحبت جنسيته السعودية عام 1963.

عمل في مجال النفط في سوريا وانتقل للعمل بالصحافة في بيروت ثم غادرها إلى بغداد لينتقل في أواخر 1984 إلى فرنسا متفرغا لكتابة الرواية بشكل كامل فكانت ”مدن الملح“ بأجزائها الأولى من أهم نتاجه، ترجمت إلى عدة لغات وأكمل بقية أجزائها في دمشق.

عاش متنقلا بين بيروت ودمشق حتى وفاته في 24 كانون الثاني 2004.

حصل منيف على جائزة الرواية العربية في المؤتمر الأول للرواية الذي نظمه المجلس الأعلى للرواية في مصر، إضافة إلى عدد من الجوائز الأدبية الأخرى. وقد ترجمت معظم كتبه إلى عدة لغات (15) لغة[1].

* نبذة موجزة عن المُؤلٍّف:

كتبت هذه القصص بين عامي 1969_ 1970والتي كانت مرحلة تجريبية في حياة الكاتب وامتحان أولي لممارسة الكتابة. حتى أن معظمها كتب قبل أي عمل روائي، في وقت كان مغرما بقراءة القصة القصيرة. كانت هذه القصص تعيش في عقله ووجدانه، وقد تعود بذورها لحوادث رآها بنفسه ولأشخاص عرفهم وعايشهم وتركت لديه ذلك الخدش الموجع.

أجّل نشرها مرارا للعودة إليها لتكون بشكل يرضى عنه أكثر، لكن لم يجر عليها أي تعديلات أساسية لقناعته أنه إذا بدأ فستتغير نهائيا ولحرصه أن تترك كما جاءت في الكتابة الأولى، وضمن ظروفها.

لقد قسم القصص إلى مجموعتين ورتب تسلسل القصص في كل مجموعة ووضع عنوانا للمجموعة الأولى”أسماء مستعارة“ و”الباب المفتوح“ للمجموعة الثانية. والذي لم يتحقق هو نيته بأن يحضر مقدمة مناسبة لتلك المجموعات بعد تصحيحات بسيطة ولكن لم تكتمل هذه الرغبة. [2]

_ سعاد منيف _

* تحليل العتبات ونقدها:

منذ وقعت هذه المجموعة القصصية بين يدي، استفزني عنوانها المسطر باللون الدموي..
شحذت همتي وبدأت أبحث في ساحات الشبكة العنكبوتية وفي صفوف الكتب ما اسطعت إلى ذلك سبيلا عن أراء المتلقين والنقاد، وأصبت بخيبة أمل لما وجدت السواد الأعظم منهم يجمع على كونها مجرد مجموعة قصصية من بدايات الكاتب الأدبية!!! يختفي جمالها أمام نتاجه الجم المتسلسل في حياته!!!

(الباب المفتوح) عبارة أثارت فضولي، ولم أؤمن أن إثارة الفضول غرض الكاتب؛ إذ الباب المغلق أو المآرب أشد إثارة للفضول وأكثر غموضا!!!
تركت العنوان تصارعه حيرتي وشرعت أتأمل الغلاف وما حلي به من صورة…
ويا للمفارقة..!!

إن المتأمل للصورة المصدرة يجد فيها تناقضا عجيبا! فصورة العروس المشرعة والمحلاة بالألوان لا تثير في النفس إحساسا بالفرح أبدا؛ بل تجنح بها إلى دائرة الحزن والشفقة، بداية بالأفق المؤطر كأنه مبتور، مرورا بملامح الوجه المأتمية و وقوفا عند عتبة الألوان..

يجد المتلقي في هذه اللوحة مزيجا صاخبا عجائبيا من الألوان؛ إذ أنها تجمع بين الألوان النارية والحارة والدافئة؛ تجمع بين نغمتي الألوان الصافية المتمثلة في اللون الأحمر؛ والأخضر؛ والأزرق؛ والأبيض، والمتوترة المتمثلة في اللون السماوي والبني، لتخرج بذلك دلالات الألوان عن مألوفها،فيمتزج طهر الأبيض وصفاؤه بالحرية الرامز إليها انتشاره اللامحدود في أرجاء الصورة، وتتحول الخصوبة المورقة في الأخضر إلى خصوبة شاحبة بفعل البياض الممازج لها والمقيد لامتدادها، ويتعانق في الأحمر الجمال والزينة مع الدماء والألم متمثلا في جرح فوق الوجنة أبى إلا الظهور، ويحمل الأزرق بدرجاته المتفاوتة حزنا خفيا يعكسه الاضطراب الجلي في درجاته؛ إذ نجد اللون السماوي الأكثر بروزا قد امتزج في أوضح أجزائه باللون الأزرق الداكن أو البنفسج أو بخط أسود مائل يمزق اتصاله، أرى أن اللوحة المائية ساهمت في جعل الجانب الأيسر الطارئ على اللوحة أشبه ما يكون بدمعة أزلية توشك معظم أجزائها على الجفاف خلافا للجانب الأيمن الظاهر كجزء أساسي من اللوحة ليوحي لي بسرمدية الحزن فيها.

إن الخطوط السوداء المنتشرة في اللوحة والتائهة هويتها بين الخطوط الأفقية والعمودية والمائلة والمنحنية تحمل أبعادا دلالية متفاوتة متناقضة فيما بينها لا يجمعها إلا السواد، فالخطوط العمودية والأقل وجودا تدل على الراحة والهدوء وتسامي الروح؛ والخطوط الأفقية المشكلة لجزء من ملامح الوجه الهلامية ترمز إلى الثبات والاستقرار والصمت؛ أما الخطوط المائلة والتي تشكل الجزء الأكبر فهي تحمل دلالة السقوط والانزلاق والشعور بالخطر الداهم؛ وسمة أكثر هذه الخطوط الانحناء الدال على عدم الاستقرار.

إن هذه اللوحة باختصار أشبه ما تكون لعروس بكامل زينتها وأساها؛ تجمع بين نقيضين جمعا مذهلا، تظهر فيها الملامح لكنها متوارية، وتبدو فيها العين مرآة الروح مغلقة كأنما توشك أن تسلب منها حياتها؛ ويبدو إطارها المبتور محددا لأفقها وحريتها.

كل هذا التضاد المضطرب في اللوحة أو الصورة إنما هو امتدار للحيرة المتولدة من العنوان، فمجرد قراءته تبعث في النفس تساؤلً وتساؤلً وتساؤل..
فأي باب هو المفتوح؟
وأي بناء يضم هذا الباب؟
وهل له من ذات فاتحة؟

أجابت على هذا الزخم التساؤلي أسطورة أرهقت في تتبع أثرها تقول:
كان الباب في أصول العقائد البرية وأساطير المكان الديني مفتوحاً، وهذا ما أرادته الألهه المؤنثة في ديانات الشرق، ولذلك دلالات تعبيرية لها علاقة مباشرة و وثيقة مع مزاولات العقائد والشعائر، لأن الأم الكبرى (الألهه المؤنثة) لم تنتج سلطة ثقافية تنطوي على عنف رمزي ومادي، لذا اقترحت لمعبدها (مكانها المقدس) فضاءً مفتوحاُ، يتماهى هذا الفضاء مع الرمز الأنثوي المستقبل لرمز الاتصال الادخالي، لكن المرحلة اللاحقة، شهدت تغيراًُ في الثقافة السائدة بعد صعود السلطة الذكورية/ الشمسية، وتحول الباب إلى حجاب ذكوري، يمنع الأنثى عن الخارج، ويضعها في الداخل، كي تتحول إلى جزء من ملكية خاضعة للخطاب البطرياركي، و الباب حقيقة ساهم ببلورة السلطة الذكورية بوصفها ديناًُ ساد في مرحلة شهدت صراعاًُ دموياُ وفكرياًُ، قدمت فيه الأم الكبرى تضحيات كبيرة، إلا أنها لم تستطع الصمود أمام صعود الطغيان البطرياركي في مجاله الديني والثقافي[3].

إن هذه الأسطورة لا تقف عند الإجابة على هذه الأسئلة فحسب؛ بل تلقي بظلالها مفسرة ما كنت أراه غموضا يصعب علي فهمه، فباستثناء الغلاف خلت الرسوم المرافقة للقصة من الوجه ذي السمة الأنثوية؛ كأنما يثبت السلطة الذكورية التي فرضت على الساحة؛ لتبقى الأنثى متمسكة بمكانها المقدس الذي حددت رحابته و أطرت حدوده..

تظل الأنثى تشغل حيزا واسعا من هذه المجموعة؛ وإن كانت غائبة متوارية في ظاهرها، فنجد الكاتب يبدأ مجموعته بقصة عنونها بــــ ( الأيام الأخيرة… من آب ) هذه الأيام الأخيرة التي تشبثت ذكراها في حياته إنما خلقت مأساتها أنثى، يقول بعد أن صور لهفته في الحصول على بعض الخوخ أيام طفولته… وكيف قبض عليهم بتهمة السرقة:
”بعد الضرب جرونا إلى المخفر. عندما خرجنا بصقت علينا زوجة المستر ستيوارت، وقالت بصوت حاد وبقرف:
_عرب كله وسخ، كله هرامية، كزاب وأطبقت الباب بغضب“

ليختم قصته بقوله:
”ومنذ ذلك الوقت تعلمت أشياء كثيرة، لكن أكثر ما تعلمته: كلمات زوجة المستر ستيوارت عندما قادنا قائد الشرطة إلى المخفر، ومعنى الأيام والساعات، خاصة الأيام الأخيرة من شهر آب اللعين!“

شهر آب؛ شهر السنابل والربيع والخضرة وجمع الغلال، شهر الخصوبة والنماء، استطاعت أنثى أن تحوله لمأساة عاشتها الذات بكل تفاصيلها…

هذا التحول و اللا استقرار يظهر واضحا في الصورة المكونة من مجموعة من الخطوط المنحنية والمنحدرة لتكون وجها متاهيا منهكا..

هذا الشهر قد يرمز به للمرأة بجامع الخصوبة أبرز ما يميزهما. الأيام الأخيرة من آب هي الأيام الأخيرة من الخصوبة الأنثوية المتحررة والتي خضعت أخيرا للسلطة الذكورية…

لتبدأ قصته الثانية (نهاية) والتي تدور حول الماء ومعاناة جلبه،و تنتهي بماء العين المتساقط من _ الحمار _ وسيلة جلب الماء التي استغني عنها نتيجة التقدم والحضارة:
”كان إلحاح راغب شديدا مما دفع أبي لأن يعطيه المسدس… …، وحين أصبح فوق الحمار تماما.. صرخ وهو يطلق الرصاصة التي استقرت في عينه. أما العين الثانية فكانت تسيل منها الدموع، وكانت تسيل بغزارة!“

فالماء أساس الحياة؛ والأنثى أساس الحياة، والماء كان في القرية جاريا حرا طليقا قبل أن تقيده المدنية في قوالب بيتية جامدة؛ والمرأة كانت حرة في معبدها يلجه الغني والفقير؛ والقادر والضعيف قبل أن يغلق عليها الباب…
والرسم الممهد للقصة إنما هو مجموعة من الخطوط المائية المتموجة المكونة لوجه القرية، والتي كانت تجري بحرية في البدء ليخفت جريانها رويدا رويدا حتى يتلاشى في منتهاه..

أما قصته الثالثة (طير ابن فوزان) فهي صورة مصغرة يرمز بها للسلطة الذكورية الواهية المنهزمة أمام السلطة الطبيعية، والطبيعة أنثى تظهر استسلاما مبطنا بالتمرد الصاخب الذي لن يلبث حتى يتفجر…
إن نسبة الطير إلى الذكر تعني انتماءه إليه؛ فتتبادر للذهن نهاية حزينة تربط بين المتناسبين لتكون النهاية المتمردة مفاجأة تباغت المتلقي…

والمتأمل للرسم المرفق يجد الخطوط قد فقدت هويتها، فلا يستطيع الجزم بانتمائها إلى جنس معين، فالخط الأفقي ينثني فجأة والخط المنحني يستقيم فجأة، ولا يمكن الجزم ببداية الخط أو نهايته؛ كأنما يصور المفاجأة والتخبط الذي أحدثه تمرد الطبيعة المتفجر والذي نزع جزءا من قناع السلطة ليظهر بعض الوجه الذكوري مجردا منها!!!

الأنثى قلق يقض مضجع هذه المجموعة القصصية، نجدها حينا تمثل الزوجة المسببة للشقاء الأزلي الذي عانى منه صاحبه طوال حياته متقطعا، حتى إذا ما شكلت الأنثى جزءا من تيك الحياة كان شقاؤه أبديا..
كل ذلك الشقاء ينعكس في الخطوط الدائرية التي توحي بالركض المجهد الدائم في حلقات مفرغة والتي يتكون منها الوجه وتضاريسه.

تلك هي قصة (صويلح) ابن الأرض التي طرد منها فحارب بكل قواه ليعود إليها…
صويلح _ الذي ناقض اسمه فعله ليتواكب والتناقض الذي ولدت من رحمه هذه المجموعة القصصية _ تحمّل كثيرا من الذل والبؤس بسبب زوجته وانتهت حياته ذليلا بائسا في القبو بعيدا عن أرضه بسببها أيضًا!!!

وحينا نجدها _ الأنثى _ مذنبة دون ذنب؛ حين يرفض أهلها زواجها من شاب كانت (مزحة) كاذبة سببا في تعلقه بها:
”في صباح اليوم التالي، كان الخوش قد اتخذ قرارا خطيرا، أبلغ الحاج أنه سيسافر،……، لولا أن فكرة مجنونة طرأت على رأس محمد،
أوسط أولاد الحاج… …
_ ماذا أقول لمريم إذا سألتني عنك؟“…

هكذا بدأت فصول الكذبة، وهكذا انتهت:
”… … … …
_ قالوا إنهم لا يفكرون بزواج البنات الآن.
… … … … …
بعد شهرين…….
وجدوا الخوش على بعد أمتار قليلة من الماء.. ميتا!“

إن الـ (خوش) لم يمت مرة بل مات مرتين، مرة حين منعته السلطة الذكورية من مريم، وأخرى حين منعه الموت من الماء…
فالسلطة سلاح قلما أجيد استخدامه وكثيرا ما كان ضحاياه من أهله..
إن الرسم ليشي باللاانتمائية التي عاشها الـ (خوش) في مجتمعه ظاهرة في الجزء الأسفل منه والأكثر وضوحاً من أي جزء آخر، هذا الجزء الذي يكاد يكون الأكثر تعرج وانحناء وعدم استقرار يعكس ما كانت تحياه تلك الشخصية البائسة في ذلك المجتمع.
وتارة أخرى نجده يصورها _ الأنثى _ متسلطة متمنعة، يموت محبها غرقا وسره مستودع عند صديق حاول جاهدا إعلامها لكنها لم تأت…
(ربما لم تأت) تختم المجموعة القصصية، يرافقها رسم خلت ملامحه من تضاريس الزمن، لشاب قضى في شبابه لم يعاني من الحياة إلا نتوءا صنعته أنثى…
فإليها من المدينة عبر القطار، وإليها من القطار إلى زورق، فكأنما يتحد الطريق إليها مع الموت.

إن هذه القصة تناقض سابقتها تماما!!!
ففي (مطعم المحطة) لم يجد الأصدقاء مكانا لهم إلا على طاولة امرأة عجوز جاوزت الستين، أخذت توجه وتنصح وترشد، ذلك وجه الأنثى الآخر والأكثر حنانا الذي يبرزه المؤلف في مجموعته.
إن المحطة تماما كالحياة، بل هي صورة مصغرة لها، تجمع كل الأقطاب والأجناس، تماما كالوجه المشكّل لهذه القصة يجمع بين كل أنواع الخطوط ليصور وجه الحياة بانبساطه وتعرجه وفجواته!!!
إما (الباب المفتوح) واسطة العقد وناصيته، فتحمل حنينا مبطنا لا إلى شخص فقط وإنما إلى مكان ما!!!
الباب المفتوح الذي يتحول من رمز للحرية إلى علامة على الموت والفناء!

”الباب يترنح…. نفس الباب الذي دخلت منه آلاف المرات. هل تتعب الأبواب من الحركة؟ جدتي في الداخل، وإلا لماذا تركت الباب مفتوحا؟……………. الباب يئن وأنا أتقدم، ارتد الباب……“
الباب المفتوح الذي يحمل أبعادا متفاوتة ودلالة تختلف من موضع لآخر..
الباب المفتوح الذي اقتبس منه الناشر جزيئا لغلافه..
الباب المفتوح الذي جمعت رسمته كل تضاريس الأرض القروية التي أفسدت المدنية كل جمالها وبساطتها.
ليبدأ الخيط الذي يتلاعب بدلالة الأنثى، هذا التلاعب الذي تعضده :(رسالة من وراء الحدود) حيث الأرض تشكل مغنطيسًا جاذبًا لفؤاد _ نايف _ الذي هجّر من أرضه، ليغلبه الشوق والحنين فيعود إليها وحيدا دون أبنائه وأهله، وتكون رسالته همزة وصل بينهم:
”تعالوا هنا، تعالوا كلكم. لو جئتم لرأيتم أرضنا ما تزال في مكانها….. كل من يمر ينهب بستاننا. لو كنتم هنا لحرسنا البستان. أنا وحدي لا أستطيع……. اسمعوا منا وقولوا للجميع أن يرجعوا….. فكروا بالأمر ولا تتأخروا.“

الأرض التي تغضنت ملامحها هرما من احتلالها، ولا تزال تحمل رغم احتلالها ملامح أهلها تمثلها صورة علتها العمامة رمز العروبة..
الأرض التي اجتذبت سلمان ليعود إليها بعد غياب طويل:
”سموني في أمريكا سلمون.. سلمان لا يعرفونه هناك…………….الله يلعن اليوم الذي سافرت فيه*. أحسن أيام حياتي ضاعت مني هناك، وعدت يدا من أمام ويدا من خلف……..“
(كلمة حلوة) التي جمعت في رسمها أكثر من وجه، وأكثر من شكل، وأكثر من معلم.
صورته متجولا في الحياة مقلبا طرفه فيها؛ ليعود مؤمنا بهيمنة الوطن عليه…

إن الكلمة الحلوة التي لا يفتأ مرددا لها في كل مجالسه، هي قصة سفره وعودته، هي
همه الذي حاول أن يوصله إلى من بعده لكن:
”ذات يوم………..، كان يغني،ـ إذ بسيارة مسرعة تصدمه، فيسقط وتنزف دماؤه.. ثم يموت…………
وعم الحيّ ولفترة طويلة شعور بالأسى الموجع، لأن أحدا لم يسمع من سلمان قصته كاملة.“

و من الأنثى إلى الأرض إلى الـ ( رفيق ) تتقاطع خطوط الرسم المتوازية أخيرا بعد انقطاع وافتراق:
”_ لماذا أنت وحيد؟ أين رفيقك؟
………………………….
_ أفضل ألف مرة، يا ولدي أن يكون معك دائما رفيق……
بدأت أسير بـخطوات بطيئة حزينة، أريد أن ألحق بالصيادين، وكنت
أفكر تلك اللحظات بالكلب والبط والذئاب.. وأخيرا الإنسان!“
رحلة الصيد هي رحلة الحياة، وأكثر ما في هذه الرحلة صعوبة؛ هو أن تجد الرفيق الذي تتشاطر وإياه غنيمتك أو خسارتك برضا تام دونما سخط!!!

بعد هذه القصة تماما تجتمع كل الخيوط في بوتقة واحدة، الأسئلة التي كانت تائهة تهتدي، والتناقض يزداد وضوحا!
إن هذا المبدع يتصارع وذاته باحثًا عن مأوى!!!!
المأوى الذي أرق مضجعه و أقلقه…
فتارة يراه متمثلا في الأنثى شطره الآخر بكل عيوبه وحسناته، وتارة يراه في الأرض التي نمى وترعرع بين أحضانها، وأخرى يجدها في الصديق الذي يبحث عنه…
كل ما اقترب من مأواه خطوة.. ابتعد ألف خطوة!!!
فالأنثى التي كانت تؤويه أغلق دونها الباب، الأنثى التي لا تحمل من العملة إلا وجهها الأكثر عطفا وحنانا، لم يفتح بابها إلا بعد موتها، ليفقد المكان بموتها قداسته.. ويعود خاويا…
والأرض التي حاول أن يعود إليها.. تتشبث بـخطاياه فيُبعد عنها..
والصديق الذي يبحث عنه.. و لا ينتمي إليه!!!
إنها الغربة التي يحياها بكل فصولها، تجنح به بعيدا عن الاتزان، تلقيه في هاوية الشؤم.
إن الألوان البكايئة البائسة التي كونت صورته الشخصية، إنما هي انعكاس لروحة التي يحيا بها!!!!
تلك الروح المتناقضة التي تجمع بين التأمل والتشاؤم والتمرد…!!!
إن (عبد الرحمن منيف) لا يكاد يستقر بأرض حتى يطرد منها، جاءت هذه المجموعة وميضا خافتا عن تلك الحقبة من حياته، ولم تكن أبدا مجرد بدايات…
ربما هي سيرة في نظر البعض، لكنها من وجهتي نظري سجل حافل بالذكريات…
إن الرسوم المصاحبة لهذه الذكرى قد تبدو من الوهلة الأولى مجرد تفريغ لما يعتمل في النفس، لكني أراها أراحا لأشخاص مروا على تلك الذاكرة، فلم تحفظ ملامحهم بقدر ما حفظت أرواحهم…
ليبقى الباب مفتوحا وإن أغلق!!!
ولتبقى الأنثى مقدسة وإن ماتت!!!
ولتبقى الأرض الحاضنة الأولى وإن لفظت!!!
وليبقى الرفيق المأوى الذي لم يخلق!!!

النموذج الثاني

رواية ”طوق الطهارة“

* نبذة موجزة عن المؤلِّف:

محمد حسن علوان: كاتب سعودي، من مواليد الرياض 1979م، حاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة بورتلند- الولايات المتحدة الأمريكية، وبكالوريوس نظم معلومات الحاسب الآلي من جامعة الملك سعود، كاتب اسبوعي في جريدة الوطن السعودية.

نُشرت له ثلاث روايات: سقف الكفاية، صوفيا، وآخرها طوق الطهارة، [4] وله قصائد وقصص قصيرة لم يجمعها كتاب بعد.

* نبذة موجزة عن المؤلِّف:

تحكي الرواية حكاية طفل وسيم، وحيد والديه، تربى في جو من الحنو والتفهم اللامتناهي، يعاني تخبطًا في فهم نفسه وسلوكه، بسبب محاولة تحرش به فتحت أمام براءته سيلاً من الأسئلة، نمت معه في مراهقته وشبابه، وتبع هو رغبة الاستكشاف بنوع من الإرادة، واللاإرادة أحيانًا، وقع حسّان/ البطل في حب من تملكت حواسه وقلبه، وبعد قرانهما هوى صرح حبهما بسرعة افقدته اتزانه، فتخبط زمنًا، تنقل فيه بين نساء وفتيات تجاوز عدُّهن الثلاثين، أغلبهن فاقدات لطوق الطهر مسبقًا، جره الحزن يومًا لعيادة نفسية، ارتبط مع طبيبيها وأخيه بصداقة أعانته على الوقوف من جديد…

* تحليل عتبات الرواية ونقدها:

بملاقاة عينيك لغلاف الرواية يجتذبك اللون الأزرق للعمق، ليترك السطح يعلوه بياض خُط به العنوان ”طوق الطهارة“، ثم المرآة في الوسط، تشبه نافذة تثير فيك فضولاً يستفزك لتتطلع لما في الخلف / الرواية، مطمئنًا إلى محتواها من الناحية الأخلاقية! وإن كانت قد كُتبت بلغة ارتقت عن الابتذال في أغلبها.

طوق الطهارة، كعنوان، ذكرني بكتاب قدم من الأرض الأندلسية، ومازال يُطبع ويباع على أرفف مكتباتنا، ذكرني بكتاب ابن حزم ” طوق الحمامة “، ككتاب لا يخلو من الفلسفة، ويحكي قصص حب، منها ما عاشها الكاتب نفسه، يتقاطع ابن حزم وعلوان في ذلك، وفي الشعر (التقليدي / الحر) الذي امتزج بكتابتيهما، وفي لغة أدبية ممتعة.. مع اختلاف التوجه بين الشيخ ابن حزم.. والشاب العشريني!.

عندما اختار علوان ”طوق الطهارة“ عنوانًا يتصدر روايته بلون الطهر والبراءة والحرية – الأبيض- حمّله معنيين متناقضين اجتمعا في الرواية، فالطوق زينة عنق / جسد، والطهارة نقاءقلب / سيرة / جسد، والرواية تحكي غصة عشق وذنوبًا معلقة في عنق الكاتب، حولت معنى الطوق من زينة إلى قيد أثقله، فتحرر منه بحثًا عن فلسفة جديدة للطهر تبرر لجسده تَسَبُبه بتلك النكت السوداء في قلبه / سيرته، وبالوصول إلى آخر الرواية تجد دلالات الطوق والطهارة عادت إلى أصلها كما سيأتي.

يبدو غلاف الرواية ابتداءً بلونه الأزرق، لون صفاء السماء والبحر، وشفافية الشعور، والاطمئنان، حاملاً دلالات الطهارة والهدوء المسلوبَين والضائعَين في الداخل. أضف إلى ذلك دلالات المرآة، المتمثل أهمها في الصدق والحياد، وهما عنصران تذبذبا كثيرًا في النص الروائي بين إلقاء اللوم على الذات وانعدام الرضا عنها، ولوم المجتمع والمدينة وجعلهما أسباب حزن وذنب يسكنانه في مواضع أخرى، وكذا فإن توسط المرآة، وتساوي مساحات الفراغ من حولها يوحيان بالاتزان، الذي افتقده حسَان أغلب الرواية، وظل يبحث عنه.

ولأن الطوق يرتبط بمعاني الإستدارة أكثر من غيره من الإشكال، ما جعل اختيار المستطيل شكلاً يطوّق المرآة انزياحًا، لكن تتضح مع قراءة النص المكتوب العلاقات التي تربط المستطيل كشكل مع حسان كشخص!، فالمستطيل شكل مضطرب غير ثابت عند علماء النفس، وهو مرحلة انتقالية يتحول فيها الفرد من نمط سلوكي إلىآخر ليتعايش بسلم أكثر مع ظروف حياته، ويرونه – أي المستطيل- يمثّل الأشخاص المحتاجين للتأمل والتفكير، والخارجين للتو من تجربة حب مؤلمة أو حديثي زواج أو طلاق..،، وكل ذلك مثَّلَ حسان!!

إلا أن لون الطوق -الأخضر البحري- ينافي الدلالات السابقة!، فالأخضر بدرجاته يوحي بالهدوء والحياة الرغدة والاستقرار والنماء!

ذلك الغلاف بهدوئه العميق، ومرآته وطوقه، يمثل من الرواية جُزأها الأخير -حسب الترتيب الزمني للأحداث-، هذه الرواية، وإن كان غلافها من اختيار المتلقي (الدار الناشرة) إلا أن كاتبها – علوان – رأى فيه -أي الغلاف- علاقات وخيوط مقتبسة من النص الروائي نفسه، تمثلت في الطوق وأشياء أخرى لم يذكرها. ربما كانت تلك الخيوط منسلة من ذاته، بتحقيقه التطهير / التخدير لمشاعره، وبهذا الاحتمال، يصبح الأزرق والأخضر والأبيض محققًا دلالاته الإيحائية بالنسبة للكاتب كما بطل روايته الذي تخطى حواجز الذنب / العشق، وانتحى نحو التطهر / الاستحمام…:

”كنت استمتع بقطرات الماء تغسل جسدي وقلبي من درن الحزن، وأراه يتجمع في دوائر زيتية، ويضيع في هدير الماء.“.[5]

ما يؤكد الفكرة السابقة – الكتابة لتحقيق التطهير الانفعالي – انصباب توجه الكاتب نحو النص الروائي، فلا تجد في الرواية إهداءً ولا مقدمة، وحتى في تقسيم الفصول ستجد أرقامًا رومانية دون عنونة!،.. في الداخل فقط قصة، قصة طوق أصابه شرخ في الطفولة اتاح له السقوط في الشباب، وعاد البطل ليتطوقه من جديد..![6]

الخاتمة

”… كثير من الكتب يروجها العنوان وشكل الغلاف ولونه.. ونوع الخط وحجمه.. كما يساعد على ترويجها الفهرس وكلمات الإهداء وكلمة الناشر وكلمة ظهر الغلاف التي ربما تكون مثيرة.. في دار الفكر كما في غيرها من عدد من الدور اهتمام بهذا كله، وللمؤلف بالطبع رأي، ورأيه إن كان صاحب ذوق فهو المرجح، ولكن الأفضل أن يتعاون الفني الذي تعتمده الدار مع المؤلف. على أن لكل دار طابعها الخاص في الأغلفة، وبعض الدور تعرف ابتداء من أغلفتها وتتميز بها من غيرها…“

دار الفكر…

وجدنا بعد مراسلة ثلاث دور نشر[7]، أن سياستهم في النشر تقوم على أساسات مشتركة، والتي أهمها: التسويق _ القائم أساسه على شكل الغلاف ولونه _ والإخراج العام للكتاب وترتيبه. قبل النشر، يتم التنسيق مع المؤلف في ذلك، ولكن سلطة القرار بيد الدار!

كما في رواية علوان السابقة مثلاً – طوق الطهارة- عندما اختار الروائي لنفسه لوحة تتصدر الكتاب، واختارت له دار النشر شكلاً آخر اعتبره – علوان- جيدًا، ويتقاطع مع الرواية في فكرة طوقها، تكون بذلك الدار _ في هذه الرواية_ هي المتلقي الأول الذي بنى عتبات النص الإبداعي، فيحتمل أن تتقاطع أو تتوازى العتبات مع خطوط النص الأصلية أو بعضها.

أما في المجموعة القصصية المنيفية فإن للرسم دلالة مستقلة ومشتركة في آن معا!!
فهي كما أسلفنا مجموعة جمعت أقطاب التناقض المطل من نافذة غلافها..

فتارة تتقاطع الرسوم مع الغلاف؛ وأخرى مع الأسطورة؛ وثالثة مع الأقصوصة ؛ ورابعة مع الشخصيات القصصية؛ وتارة تشكل نصا مستقلا لا يتصل إلا بذاته موغلا في رمزيته كصورة الكاتب الشخصية مثلا، لكنها أخيرا تشكل لوحة أدبية متكاملة حتى في تناقضها، لا يمكن الاستغناء عن جزيء منها…


[1] : ينظر: الباب المفتوح، عبد الرحمن منيف، بيروت: دار الساقي.
[2] : المرجع السابق.
[3] : ينظرhttp://www.almadapaper.com/index.htm :
* إن سب الدهر دليل على العجز والتسخط وعدم الرضا بالقضاء، يقول حبيبنا محمد _صلى الله عليه وسلم_ على لسان رب العزة: ” لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر “…
[4] محمد حسن علوان : السيرة الذاتية http://www.alalwan.com/cv/cv.htm
[5] طوق الطهارة، محمد حسن علوان، الطبعة الثانية- دار الساقي: بيروت، ص 287.
[6] مع التحفـظ على التجاوزات الدينية في الرواية.
[7] دار الساقي، دار الفارابي، دار الفكر.


[1] : تشكيل المكان وظلال العتبات، د. معجب العدواني، النادي الأدبي الثقافي- جدة، الطبعة الأولى: 1423هـ/2002م.
[2]ينظر : – النص الموازي: المصطلح والتطبيق، بيانكا ماضية – مجلة ديوان العرب http://www.diwanalarab.com/spip.php?article10958
– لماذا النص الموازي؟، د.جميل حمداوي – موقع دروب. http://www.doroob.com/?p=10446