arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في صوفيا

موقع كيكا الثقافي

الصورة والظل

حسين الموزاني

كاتب عراقي مقيم في برلين

حين يقرأ المرء العبارة الأولى التي يستهل بها الكاتب السعودي محمّد حسن علوان روايته الثانية “صوفيا”* يعتقد على عجل بأنه أمام عمل يغلب عليه الإنشاء والتكلّف. إذ تبدأ الرواية بالعبارة التالية: “رأيت كيف تموت الملائكة، ورأيت كيف يشبه ذلك غروب الشمس الأولى في التاريخ، يوم لم يكن مخلوق قد رأى الغروب بعد، ولا يدري أين راحت تسقط الكبيرة التي تضيئه منذ خُلق، ولذلك دهشته كدهشتي، وملامحمه كملامحي، وحزنه مثل حزني أيضاً”، ويقصد بالكبيرة “الشمس” كنايةً. وهذا بلاشك استخدام نادر لأن الكبيرة في الواقع هي الإثم العظيم، بيد أن القارئ غير المتعجل سيكتشف بأنه وقع فجأة تحت سطوة صانع كلمات ماهر. ولعلّه من الكتاب العرب النادرين الذين استخدموا أسلوب التشيؤ، أي إسباغ الشحنة الوجدانية والانفعال العاطفي على الموجودات. وسرعان ما نعرف بأن الملائكة والشموس هي حيوات صغيرة تحيط بنا وتذوي بحزن شفيف دون أن نشعر بوجودها من قبل. فهي لا تظهر إلا لمن يستلهمها كما الوحي. والرواية بمجملها هي قصّة حبّ قصيرة بين شاب سعودي، معتز، مصاب بمرض الملل فيبحث عن تسرية في كلّ جديد، وبين امرأة لبنانية مسيحية، محتضرة، اسمها صوفيا تعيش وحيدة ببيروت . وعبر الرسائل الإلكترونية، الميلات، يتعرف “العاشقان” الغريبان على بعضهما، فتهب صوفيا، التي بلغت التاسعة والعشرين، نفسها للسعودي ذي الثلاثين عاماً، فيفتض بكارتها بمتعة حسيّة، متعجباً كيف أنها أمضت حياتها كلها دون رجل؛ ثم تسأله في تلك الحالة المتفردة عن إحساسه كما لو أنه هو “الذي فقد عذريته”. لكنه عالج هذا الأمر معالجة فنيّة لا تحمل في طياتها الشبق الشرقي الغريزي المضمر.

إثر ذلك يبقى معتز ساهراً اثنين أربعين يوماً على يراقب احتضارها. فالمرأة مصابة بالسرطان وموتها بات وشيكاً. وعلى هذا السعودي الهارب من الملل أن يراقب حالات الموت الظاهرة على ملامحها، محاولاً التوغل في أعماقها الدفينة من خلال لغتها البسيطة الظاهر، الفلسفية البالغة العمق من حيث المضمون. فصوفيا هي الملاك الذي يذوي كما تذوي الشمس دفعة واحدة وكأنها رحلت إلى الأبد، فلم تخلّف هذه الكبيرة وراءها إلا الظلام الموحش. على الرغم من أن الرواي ينفي أن تكون صوفيا ملاكاً، وإن انطفأت على غرار الملائكة، بعد أن نفد زيتها. ويقول معتز “كنت أجلس بين يدي موتها، وألوّن أضلاعي بغنائها وأصفق بشجنٍ مزوّرٍ أعمى، حتى يكتمل موتها تماماً، عندها أكنس أحلامها اليابسة، وأسحقها في قعر نحاسي”، ونحن هنا لا نسأل بعد أن أخذتنا الرواية غفلةً عن معنى تلوين الأضلاع أو شجن المزوّر الأعمى، فهذه طلاسم أو علامات تشير إلى أن حالة القطيعة الروحية والجسدية مع العالم الخارجي متعصية على الحلّ، لأن ثمة شيئاً هناك يحتضر على الدوام دون أن يستطيع أحد إيقاف احتضاره. فكانت غرابته الوجودية غرابة توجعه كما الوخز العنيف وتجعله يقطع الأميال إلى صوفيا الحزينة مثل “مصوّر فواتغرافي يهرع وراء لقطة تنقذه من الطرد” بعد أن كاد الملل، وهي الكلمة المتكررة الكاشفة في الرواية كلّها، “يغدو بثوراً في وجهي وجلدي، وبقعةً من الظل الرمادي الرتيب تكسو كلامي ونظراتي”. فقد جاء إلى بيروت “مريضاً بالأمل” باحثاً عن الغرابة ثم “عاد مبتلىً بالخوف من الغرابة!” لكن إلى أين عاد؟ إنّه هو في الواقع لم يعد بعد موت صوفيا، أو على الأقل لم يعد مثلما كان، حتى لو وضع الملل آخر عبارة يصف بها حالته الأبدية. فصوفيا لم تكن امرأة عاديةً كما كانت زوجته المطلّقة، إنما اكتسبت ملامح بيروت المدينة. فهو يرفعها إلى مستوى الرمز، تلك المرأة التي كان شعرها يتموّج “مثل قوافل التجّار الطيبين قبل أن يذبل، ويتيبّس كأنّ التجّار خسروا”، والتي يبدو البحر من نافذتها كما لو أنه لوحة مزيّفة”

وكان مرضها يشع حتى أصاب المدينة المنكوبة نفسها، والأشياء أيضاً التي بدت واهنة مثل جسدها. وبعدما تنكرت له بيروت برهة قصيرة بعد جولة في شوراعها فكّر في أن يتصالح مع بيروت عن طريق صوفيا. “أليست صوفيا بيروت صغيرة ليس إلا؟”

ومع ذلك فإن معتز لم يحسب نفسه عاشقاً ولهاً، إنما تعادلت فيه إنسانيته التي كان يراهن عليها ومتعته الحسّية فلم يعد يرى فرقاً بينهما، لأنه كان إنساناً واقعياً “يفضل الصفعة المباشرة على انتظارها”، معترفاً بأنه كان مخلوقاً رديئاً ورتيباً بلا تغيير. ومع ذلك فإنّ العالم الواقعي يتشيأ أمامه ويسلبه من ذاته ثم يحوله إلى شاهدة على قبرة صوفيا التي “كانت تؤمن بأنها ستموت قريباً، وتعرف بأني سأمضي بعدها إلى بقية حياتي. صوفيا تعمل لتجعل قلبي أنا هو شاهد قبرها، وعليّ تنقشُ كلّ عمرها القصير”.

لم تخلّف صوفيا لعشيقها المسلم سوى صليب فضّي صغير، ملفوف في قطعة حريرية ملساء، وموضوع في صندوق من “القطيفة الهادئة”. لكن معتز لم يجد مكاناً ظاهراً للصليب في مدينته الرياض التي لا تحب الصلبان، فيضعه في درج في “علبة طلاء أظافر مستهلكة حتى النصف” من مخلّفات زوجته وقصاصات من مجلات تحمل صور عارضات أزياء كانت تجمعها مطلقته و “أعواد آذان مبعثرة وقرآن”.

لكن رحيل صوفيا يخلّف فيه جرحاً عميقاً وحزناً يمزّق أضلاعة ويجعله يصرخ في شوارع بيروت، متوسلاً إليها إلا ترحل “اتركي عندي رقم غيمة، ارسمي الطريق على جبيني بإصبعك الواهنة هذه وسأتذكره حتماً، اعطيني أي شيء منك يضيء باتجاهك يوماً، قلامة ظفر، خصلة شعر، اعطيني زيتوناً من عينيكِ وخبزاً من ظهرك…”

إننا نقف هنا أمام عمل فنّي ناضج لكاتب شاب مولود في الرياض عام 1979، يحمل في طيّاته ملامح المدرسة التعبيرية، أي الكتابة من الداخل واستنطاق الجمادات من خلال التشبيه و بعث الحركة فيها كقوله “وقفت أتأملها دقائق، صخرة الروشة، وهي منحنية في البحر وكأنها مقبض حقيبة يحمل الله بها الأرض إذا سافر”. فالصور ناطقة حيّة، والاستعارات، وإن بعدت أحياناً، فإنها تضيء ذلك الأصل وتعيد صياغته لغوياً على نحو غير مألوف إلى حدّ ما في الكتابة العربية الحديثة.