arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الجزيرة

الرواية – القصيدة

د. عبدالله بن أحمد الفيفي

أستاذ مشارك بكلية الآداب - جامعة الملك سعود

مقاربات في تداخل الشعري بالسردي في النص المعاصر

بين «سقف الكفاية»
و..سقف الرواية!

«كتابتي صعبة هذه الأيام، أنا الذي لا انفعل بقصيدة ارميها على الدفتر وأمضي، إنها رواية تولد،.. لا بدمن المشي البطيء بعيداً عن ركض الأبيات الذي تعودت عليه.. كم يؤرقني هاجس الرتابة، أنا الذي لم اكتب رواية في حياتي!.. آه كم هي مملة كتابة الروايات!.. ونمت وأنا احلم برواية!.. احتاج إلى بضع أوراق.. اقرب ما تكون إلى رواية.. لن أتمسك كثيراً بشكل كتابة أدبية في دفتري الأخضر هذا، يكفي ان اكتب واكتب..
«علوان، محمد حسن، «2002»، سقف الكفاية، «بيروت: دار الفارابي»، 14- 15،291،365،378،382».

ومن تجليات الشغف هذا بالرواية – وان تداخل شغفاً بالشعر حد الذوبان – هذه الحكاية:
في الفصل الدراسي الأول 1420هـ = 1999م عرفت الشاب محمد حسن علوان طالباً من كلية علوم الحاسب والمعلومات في جامعة الملك سعود بالرياض، يتقدم إلى مسابقة الشعر على مستوى الجامعة. يومئذ كان عندي مجرد اسم بلا هوية، لكنني حينها سجلت في لجنة تحكيم الشعر نبوءة شخصية باكتشاف شاعر استثنائي قادم، رغم نزار قباني يطل من تحت أهابه. وهو اكتشاف احمد الله انه ما لبث أن أثلج الصدر بعقباه! كنت أغالب أعضاء اللجنة يومها لاعتقادي أن محمداً اكبر من جائزة طالب فائز في مسابقة الشعر على مستوى الجامعة. على انه كان يراودنا شك جميعاً في أن يكون ذلك الشعر الجميل لطالب في المستويات الأولى من كلية الحاسب الآلي. فذهبنا نفتش: أنَّى لهذا الفتى جمال هذا الشعر؟!.

غاب الفتى عني عاماً، ثم غبت أنا إلى جامعة أنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية عاماً لاحقاً، فما أن عدت حتى جاءني يسعى – في 5 فبراير 2002 تحديداً – ب«سقف الكفاية»، فكان شك آخر اكبر!: رواية في هذه السن؟.. وتحول الإعجاب إلى إشفاق وخوف!.

تحدثنا برهة عن الشعر والرواية، وربما – إن لم تخني الذاكرة – عن كندا التي عاد منها قبل حين – وهو ما يتطابق مع شخصية بطله، كما سيتضح لاحقا. وبدا لي لأول وهلة أن الفتى الذي قابلته منذ عامين قد تغير مزاجه الفني كثيراً، إذ تحاورنا – رغم أدبه الجم وحبه الإنصات لا الكلام – عن عصر العولمة وعصر الرواية، وكأني به إذ ذاك قد رمى عصر الشعر وراء ظهره! فاختلفنا بلطف، ولاحقته رسائلي تصالحه مع القصيدة، وان باركت بالطبع مخاطرته الجديدة نحو الرواية.

مهما يكن من شيء، فقد كنت ومازلت أسجل أن محمد حسن علوان جدير بالجذل والتهنئة الحارة بموقعه الأدبي قبل موقعه الحاسوبي. وسأدعو الله له أن يقيض له من نفسه أولاً ثم من بيئته الثقافية ثانياً ما يصل به سقف طموحاته الكبرى التي لا تعرف لها «سقف كفاية»! لان مثل هذا المحمد نبتة نادرة شديدة الحساسية في تصحر سائد، ورعايتها واجب صعب.

هذه تحية محب، فحسب. ليست بجديدة على صاحبها، غير أني أحاول هاهنا تسجيلها على الملأ.

لقد أخذ الفتى يتقاضاني موقفي من كتابته – بعد رأيي في شاعريته – منذ ان أهداني «سقف الكفاية». ويؤسفني اعتذاري عن تأخري في إبداء رأيي حول عمله الجميل هذا، الذي لعلي كنت أول قارئيه. ذلك أني لست عادة ممن يحرصون على ما يمكن أن يسمى بالسبق النقدي – على طريقة السبق الصحفي – من تلك الكتابات الاحتفالية التقريظية، أو ربما «التقريضية» «بمعنى الكلمة المضاد»! وإنما أميل إلى أن يأخذ العمل سبيله ضمن مشروع بحثي يبقى، توخيا لما أرجوه من ان يؤتي أكله علمياً، لا دعائياً.
أما وقد ورطت نفسي في هذه المقالة مع المتورطين كتابة عن نص «الكفاية»، فمعذرة أن قست كلماتي، فبقدر الحب نقسو على من نحب. قد أبدو متناقضاً هنا مع دعوتي للرفق بتفتح هذه النبتة وحساسيتها.. ولكن..

يا لتلك من ورطة أن تكتب عمن تحب، فأنت ساعتئذ بين أمرين أحلاهما مر، فإما ان تكتب ما تعتقد فتؤذي كلماتك بعض الطموح والنرجسية في نفس المبدع، أو ان تكبت وتجامل فتؤذي ضميرك النقدي. ومع هذا وذاك، فما زلت آنس في صدق الفتى علوان، مع طموحه المشهود، صدقه النفسي ونضجه الفكري، وسأصدقه القول، فما أظنه يريد إلا الصدق، وما اعتقد انه سيفيد أخيراً مما كتب عنه إلا مما كان فيه الصدق.

سأقول مجدداً انه يعجبني في محمد حسن علوان شعره أكثر من نثره، أو لأقل حضور الشاعر في نثره. وان ما أعجبني في ما سماه هو «رواية» هو انه ليس برواية، بالمعنى التقليدي القارّ للمصطلح، بل هو قصيدة نثر في قصيدة نظم طويلة جداً. وتداخل الشعري والسردي تقنية فنية لا غبار عليها، غير أن ما نحن بإزائه في «سقف الكفاية» ليس بشعرية من قبيل الشعرية الروائية، كما هي الشعرية في «خريف البطريريك» لغابرييل غارسيا ماركيز على سبيل المثال، تلك الشعرية الروائية المتصفة بعنكبوتية النسج، بل ان «سقف الكفاية» يوشك أن يكون نصاً شعرياً خالصاً بتركيبه البنائي العام وأسلوبه اللغوي التفصيلي. أي أن الأمر لا يتعلق بالشواهد الشعرية الكثيرة، الموزونة المقفاة والتفعيلية، فحسب، ولا بالخطاب الروائي وأسلوب الأداء اللغوي والفني، ولكنه يتجاوز هذا وذاك إلى بنية النص الكلية وكل كلمة في تفاصيله.

وتلك إذن شعرية شعر لا شعرية سرد روائي..

هذا مستهل دراسة حول ما يبدو جنساً أدبياً مختلفا هو «القصيدة الرواية» وسوف تتابع حلقاتها هاهنا تحت هذا العنوان..

أين الشعر.. أين النثر؟

«لم تكوني أنت امرأة عادية..
حتى يكون حبي لك عادياً!
كنت طوفاناً يجرف أمامه كل أشجار القلق،
وجلاميد الترقب والتروي!
كنت قادمة كوجه الفجر الذي يسقط رهبانية الليل الطويلة!
كنت نازلة على جبين الكوكب المهجور..
وبين يديك..
ماء..
وحياة..
ومخلوقات..
ودورة شمسية جديدة!» (سقف الكفاية، ص 7).

هكذا يستهل محمد حسن علوان نصه «سقف الكفاية» وهكذا يسير إلى ختامه.. بل إلى قصيدة النثر الملقاة على الغلاف الأخير من كتابه عن «السيدة الملونة»، المنسوبة إلى مها في ثنايا السرد «ص 286 – 287). لغة شعرية لا في انزياحاتها فحسب، ولكن في إيقاعاتها ونبرها أيضاً. وقد يرى القارئ من خلال توزيع النص في أسطر -كما هو فوق – تقطعات النفس الشعري وراء ظاهرية النص النثري. والفتى شاعر إيقاعي يغلب على تجربته الشعرية النظم الأبياتي، الموزون المقفى:
«ماذا أكتب! هل أبقيت لي حرفاً لم يهرب؟ انظري إلى قدميك يا حبيبتي.. تجدين ثمانية وعشرين حرفاً سقطوا مني.. يحاولون تسلقك!..» (ص 50 -51).
أفنثر هذا أم شعر؟!.

إنه شعر كما نعرف الشعر، لا بلغته وحدها بل بإيقاعاته كذلك وتناغم مفرداته. حتى لو شئت أن تقسم عباراته في أسطر هكذا:
«ماذا أكتب!< هل أبقيت لي حرفاً لم يهرب؟ انظري إلى قدميك يا حبيبتي.. تجدين ثمانية وعشرين حرفاً سقطوا مني.. يحاولون تسلقك!..»

لكوّن قصائد تفعيلية، بشيء طفيف من التعديل. (ولولا خوف الإطالة في الشواهد على هذه الظاهرة لكان منها الكثير،لكنه يمكن لمن شاء مثالاً جلياً أن يرجع إلى الفقرة الأولى: ص 198). ذلك أن تعرجات الإيقاع علة كانت تلازم بعض القصائد الشعرية نفسها لدى علوان، بسبب اعتماده على أذنه الموسيقية أكثر من معرفته بالأوزان الشعرية. ألا ترى كيف حمل شعره -كنثره- من مغبة ذلك ما حمل من خلل الإيقاع. كأن يقول مثلاً على لسان بطل «سقف الكفاية» ناصر من قصيدة ص 84 – 85:

«ما عاد لي شيء أعيش
لأجله..
أو منتهى حُلُم
إليه أُجاهدُ!..
كل ريح الأرض ترفضني
وما عندي أنا..
إلا شراع واحد!..»

وكان بإمكانه أن يقول «كل رياح..»، ليستقيم السطر الخامس بعض استقامة، لكن السطر السادس غير مستقيم بدوره.
أو في قصيدته على ص 38، وهي من مجزوء البحر الوافر:
«لأول مرة مني
يضيع الحرف.. والمعنى
لأول مرة أحسست
أنا وفمي تفرقنا»
(فالبيت الأخير مكسور». أو في قصيدة أخرى (ص 339 – 341)، من وزن الرمل:
صوتك الحاني أتى يمطرني
وبكائي هادئ لم يزل
لم يكن إلا عناق واله
فانفجرت أنوح مثل الثكل
فكسر الشطر الأخير من البيت الثاني، وكان حقه أن يكون مثلاً: «فانفجرت كنواح الثكل»، أو «وانفجار نائح كالثكل»، كي يستقيم.

إلى غير هذه من الأمثلة على اختلاله في الأوزان. بل إنه ليخطئ حتى في ما ينقله من الشعر الموزون، وذلك كأبيات سعاد الصباح، التي يسوقها هكذا:
كن صديقي..
ليس في الأمر انتقاص للرجولة..
غير أن الشرقي
لا يرضى بدور..
غير أدوار البطولة!.
والصواب «المفترض»: «غير أن الرجل الشرقي..». (على أني وجدت هذا المقطع بخطئه هذا عند غير الكاتب، وفي أكثر من مكان، ولعله قد غُني بتلك الصيغة أيضاً. أهكذا هو في قصيدة الشاعرة؟ هو خطأ وزني تفعيلي على كل حال!).

ولوقوع علوان في شباك نزار قباني -فضلاً عن مكابدته قيود الأوزان – فإن نثره ليبدو أشعر من نصوص يحسن الظن بشعريتها فيدرجها على أنها قصائد، فتظهر جماليات الشعر الفائضة في نثره مكبلة، أو متعثرة، في نظمه. ولا أدل من لاميته (ص 339 – 341)، التي جاء منها المثال الآنف. وقد يصل الأمر بالنص إلى درجة من الخواء الشعري كذلك الذي يسوقه (ص 266 – 268) قائلاً فيه:
لم أنتبه..
للخوف في عينيك
يا سيدتي..
والكره في كلماتك
لا تأبهي..
بالغيرة الحمقاء في حبي،
واستمتعي بحياتك!!
أيّاً تكن تلك العلاقة..
ما دمتِ قد أخفيتها عني..
فالأمر أكبر من صداقة!!
***
إلى آخر هذا الكلام المغسول شعرياً، معنى ومبنى!
وفي المساق المقبل يتواصل الحديث عن معالم الخطاب الشعري في «سقف الكفاية».

«سقف الكفاية».. وبنية الشعر الكامل

فمع كثرة التضمينات الشعرية المباشرة وغير المباشرة، من شعره وغير شعره، تندغم في تلافيف لغته وأسلوبه درجات متعددة من التناص. يبرز من بينها التناص مع آيات القرآن الكريم، والتناص خاصة أدبية عامة، لكنه بكثافته تلك وتعدده ذاك يشكل في نص علوان خاصية شعرية، بوصف الشعر «أخلص صورة لتجسيد الأدب»، حسب «تودوروف»1.

«ولكنه القلم..عصاي التي أتوكأ عليها، وأهش بها على.. ألمي!» (ص61).

«رب رجل هام على وجهه سنوات حتى استعاد حبه، ورب فتاة تدلت من شرفتها حتى صارت قاب قوسين أو أدنى من السقوط، ليخلو سبيلها مع حبيبها، وكلهم يظنونهم مجانين، ويرجمون سيرهم ومبدأهم، بينما ليسوا إلا {فٌتًيّةِ آمّنٍوا بٌرّبٌَهٌمً وّزٌدًنّاهٍمً هٍدْى}!.

كانت حلولنا أسهل بكثير مما وصل إليه غيرنا، ومع هذا تخاذلنا،.. وقفنا في منتصف الطريق، وقلنا لطالوت أن {لا طّاقّةّ لّنّا اليّوًمّ بٌجّالٍوتّ وّجٍنٍودٌهٌ } (ص200».

«نامت أروى في فراشي وسعيتُ أنا إلى يثرب!» (ص208).
«إنْ لم ترفع الوزر.. فلن تنقُضَ الظهرَ». (ص313).
«آن لهذا الحوت أن يلفظني عند شجرة اليقطين الآمنة!». (387).

وليس التناص بسوى أداة واحدة من أدوات الكثافة الشعرية في النص، تتضافر مع أدوات البلاغة الأخرى، التي تصنع لغة «سقف الكفاية» الشعرية. يقول عن «ديار» مثلاً:

«معجون بجنونه العربي العريق، أباً عن جدّ عن
حجّاج! جامحٌ مثل خيول التتار التي بدأت مسلسل
الموت في تلك الأرض، ومندفعٌ.. مثل العرقين النافرين
الممتدين في جبهته! هذان اللذان يحلو له أن
يسميهما.. دجلة والفرات.. وأنا يروق لي أن أرى رجلاً
يحمل وطنه.. في جبهته! وليس النهران فقط، إن
جغرافية وطنه كلها تتجمّع في شخصه، وهو الذي يشقّ
الأشياء من المنتصف كما يفعل دجلة، ويفيض ويتراجع
كما يفعل الفرات، ويتوعّر مثل جبال الشمال، وينتصب
صموداً كنخيل البصرة، ويركد أحياناً ركود الأهوار،
وينبسط كحقول جيكور، ويحزن.. كحزن كربلاء!»

ومن خاصيات الخطاب الشعري كذلك: التكرار، بما يحدثه من إيقاع، فلو استثني النظر إلى النصوص الشعرية، المنظومة أو التفعيلية، ولو استبعدت معها ظواهر التناص بما تحفل به من هذه الخاصية، فإن ظاهرة التكرار ستظل تنتظم أسلوب النص كله، لا تكرار الأفكار والصور فحسب، ولكن أيضاً تكرار العبارات والجمل، بما يولده كل ذلك من تناغم موسيقي وما يرادفه من توازن إنشائي وتناظر بنائي.
(ينظر مثلاً: علوان، 201 202، ومواطن أخرى كثيرة من نصه):
أي رجل في الدنيا يحلم بامرأة
كما أحلم بك أنا؟ ينام ويصحو على
أمل.. ويأس، ويظمأ ويروى بذات الكأس
وأنا.. يحترق جفناي هنا
كأن على كل جفن جمرة، وأنت صباحي وممساي «وكان يمكن هنا مثلاً أن يقول: «ومسائي»، لولا حرصه على النظم والتنغيم»، مماتي ومحياي، وآخرتي ودنياي..» (ص198).
كنت كريمة في الحب كعادتك، سخيةً في الوصل كعادة إلحاحي!» (ص208).
وهكذا وهكذا.. يمضي نسيج النص كله. والتكرار والتوازن يتكثف حضورهما عادة في اللغة الشعرية بدرجة فارقة جداً عنهما في النثر، ليمثلا مرتكزين من المرتكزات التقنية الفنية الخاصة بالشعر.
وما تلك البنية الموسيقية التي جاء التكرار والتوازن كبعض أدواتها – إلا جزء من البنية الشعرية، التي يحدث الشعر من خلالها غنائيته النفسية وتموجاته الحلمية وقفزاته الذهنية:
«حاولت أن أكره بعض تصرفاتك الخادشة جدران الذاكرة، جمعت كل ما آذيتني به طيلة أشهرنا الأربعة عشر، علاقتك الماكرة بسعد، حبك القائم لحسن، خيباتي الكبيرة عندما أطلقتِ عليّ عيارك الناريّ الشهير: «لست إلا مثلهم»، و ارتماؤكِ في أحضان سالم بعد ضجة الحب معي، ثم أخيراً.. هذا الوفاء الوضيع الذي لم يستح أن يأتي بعد أربعين ليلة!..» (ص27).
تلك البنية التي إذا توحد فيها المستويات الصوتي والدلالي كان القارئ أمام نمط شعري كامل. ذلك أن أنماط الشعر حسب «جان كوهن»2 من حيث اتكائها على مستويي الصوت والدلالة هي على التصنيف التالي:
الجنس الصوتية الدلالية
1 قصيدة نثر +
2 نثر منظوم +
3 شعر كامل + +
4 نثر كامل

ونص علوان يتكئ على البعدين الصوتي والدلالي معا. الأول من خلال الأوزان الشعرية والتفعيلات والتكرار والتناغم اللغوي والأسلوبي، والآخر من خلال الانزياحات الشعرية التي تصاحب كل عبارة:
«الأقلام التي تأخذ رؤوس أحزاني وتكمل البكاء وحدها على الأوراق هي أقلام تعودت على شكل يدي، تعودت على نوع كلماتي،.. لا أحب الكتابة الثديية، تلك التي تلد وتهتم بصغارها!» (ص9).

«كم يؤرقني هاجس الرتابة، أنا الذي لم أكتب رواية في حياتي، لأن حبك الكبير هذا، حبك القاهر هذا، ما مرّ عليّ مثله من قبل، ولم تقف عليه حدود مخيّلتي العذراء، ولا شغاف قلبي البكر، ولم تتورد في فمي حلمة حبٍ قبله أبداً!» (15).

«هل سمعوا حفيف حنيني، وخشخشة أفكاري، وضوضاء قلبي؟!» (ص208).

«العجوز الطيبة تتسلّل إلى مكان البرودة، تمسح على وجعي برفق، وتنسج معي غطاءً لعورة جرحي، أتدفأ به عندما تنفض الحمّى عظامي، وتحكّ عصا الذكرى صخرة الماضي، فتنتشر من تحتها العقارب والحشرات.. تأكل مني!» (122 222).

«أجرب المشي بحذاء أفكاري كي تهترئ الأفكار، حتى إذا عدتُ إلى البيت، لا تنتصب مرةً أخرى على فراش أرق». (ص232).

«الأحزان هنا شيوعية! تُجمع أولاً.. ثم تُوزّع بالتساوي على الجميع، ليحمل الأرمل المفجوع هما يساوي همّ التعس الذي داس على رباط حذائه في الطريق، ويشرب العاشق المدله من دموع الألم الثكلى، ويتكئ الوحيد المشرد على جدارٍ كَتَبَ عليه أحدهم حكاية المنفى! وعند منتصف الليل.. تنزل النجوم مع نُدَف الثلج.. لتأخذ همومهم إلى السماء!» (ص235).

ومن هنا فإن «سقف الكفاية» حسب نظرية كوهن يتجاوز قصيدة النثر، والنثر المنظوم ناهيك عن النثر الصرف إلى ما يشبه الشعر الكامل. وعليه يصح أن يكتسب صفة «القصيدة». أو هو بالأحرى نص حائر بين القصيدة والرواية، يحق له أن يزدوج في تسميته ازدواجه في هويته، ليتخذ اسم «القصيدة الرواية».

وفي المساق الآتي تحليل لرسم الشخصيات وتعدد الأصوات في «سقف الكفاية».

رسم الشخصيات وتعدد الأصوات

يكتب محمد حسن علوان نصه «سقف الكفاية» بشخصية شعرية واحدة، تماماً كقصيدة. لا يأنس القارئ تفاوتاً كبيراً في الأسلوب بتعدد الأصوات، كما ينبغي لعمل قصصي أو روائي. آية ذلك مثلاً تلك الرسالة الالكترونية التي ينسبها إلى أخت البطل (أروى)، (ص204) لكنها تجيء بلغة الراوي نفسها وأسلوبه نفسه. وكذا خواطر (مها) المكتوبة، (ص285، 288-289)، أو قصيدتها النثرية التي يوردها على الصفحات 286-288، ثم يعلقها على الغلاف الأخير. ومثلها رسالة (ديار) إليه، (ص386-387). وحتى حوار (ديار) المهاجر العراقي مع الراوي أو (مس تنغل) العجوز الكندية يأتي غالباً على المنوال نفسه من اللغة والأسلوب.. كل شخوصه ينطقون لغة شعرية واحدة، هي في النهاية لغة علوان نفسه ونموذج شخصيته1. هذا بالعلاوة على مطولات علوان الشعرية الصريحة، التي لا يكتفي بنسبتها إلى البطل بل يمنحها ليوسف أيضاً، (359- 360). فإن أعياه ذلك استعان بقصائد لشعراء آخرين، من المتنبي إلى مظفر النواب، ومن الفصيح إلى العاميّ بمختلف اللهجات، وعربيّا وغير عربي!.

إلا أن من الحق الإشارة هنا إلى أن سقف الكفاية – المكون من تسعة فصول طويلة -قد شهد على المستوى الروائي تحسنّاً، من حيث التنوع في الأصوات، منذ فصله السادس، لاسيما ما يتعلق بشخصية ديار الذي أخذ الكاتب يسوق على لسانه ما يتناسب مع شخصيته، وباللهجة العراقية أحياناً.

وليست لغة الشخوص، وحدها المتلائمة في لهجتها مع شخصية الكاتب، بل إن وجهات النظر بينها تكاد تتطابق. فعلى الرغم مثلاً من التباين بين ناصر وديار – العراقي الذي التقاه في كندا – وذلك في أمور كثيرة، يأتي في مقدمتها أن الأول جريح عشق فرديّ والآخر جريح وعي وطنيّ، فإن الرجلين يبدوان منسجمي الأفكار غالباً؛ فديار شيعي، لكنه غير متشيّع، أو بالأصح هو متشيّع ولكن وفق هوى الراوي وفهمه للتشيع2. ثم هو عراقي، لكنه معارض وتطابق أفكاره ومواقفه نمطية أفكار خليجيّ عن العراق ونظامه، لاسيما بعد حرب الخليج الثانية3. حتى إذا تفاوتت الوجهات شيئاً ما بين شخصيتين من شخوص النص القليلة، فإنما ذلك يحدث على سبيل المونولوج أو الجدل الداخلي الدائر في وجدان الراوي لا على سبيل الصراع الوجودي الحيّ بين أبطال رواية. ويكفي مؤشراً إلى هذا أنه يصور البطلة – وقد تخلّت عن ناصر بمحض إرادتها وتزوجت آخر وسافرت إلى سدني – ومع ذلك تظل معه وله عاشقة ملتاعة، تناجيه مهاتفة وتراسله بوجد العاشقين الأوفباء4. وهل تلك إلا أحلام اليقظة في حالة شاعر؟!.

ذلك أن هذا العمل ليس يبدو ذا طبيعة (سير – ذاتية)، في تطابقه – شبه التام – مع شخصية كاتبه فحسب، وإنما أيضا كانت الذاتية الشعرية المستبدة به تتغلغل فيه وراء كل لفظة أو فكرة أو موقف، ليخرج إجمالاً ذا بصمة شاعرية متساوقة الخطوط، لا تخطئها عين ناقدة.

لعبة علوان إذن تظلّ لعبة لغوية شعرية أكثر من أي شيء آخر. الدارس لا يعنيه هنا ما إذا كان يحبّ نزارية علوان أو لا يحب، ولا يهمه ما إذا كان من حزب الشعر الإيقاعي أو النثري، أو من الهاشّين لمقولة الرواية ديوان العرب والعالم الحديث أجمع، ولا أن يقف مليّاً للتعبير عمّا جنى الشعر على النثر في النص. مثلما أنه لا يعنيه ما يعني ناقداً مؤدلجاً من طرب لمضامين النص الاجتماعية الجريئة، فإذا هو يمنحه شهادة فتح جديد في عالم الرواية المحلية أو حتى العالمية – دون تحديد لهوية تلك الرواية أو ذلك الفتح- متعامياً عن فن الرواية بوصفه فنّاً أدبيّاً لا مضامين ثقافية أو اجتماعية أو فكرية. كما أنه ليس من شأن الناقد في هذا المقام أن يتصدى لتصيد الأغلاط النحوية أو الإملائية- على أهميتها – وذلك بدافع استعلائي على سنّ الكاتب أو تخصصه أو لحذرٍ من قول كلمة كبيرة في حق تجربة فتية. كلما ينبغي ان يبادر إلى إعلانه الوعي الأجناسي الأدبي هاهنا هو الإجابة عن السؤال الأول:
«سقف الكفاية» رواية، كما كُتب على غلافها، أم أنه نص آخر مختلف؟

ذلك ما يمثل تحدياً قرائياً لنص كهذا. أمّا إجابة هذه القراءة فستتجه إلى أن «سقف الكفاية» نص تأبط شعراً، شعراً منثوراً تارة، تفعيليّاً أو منظوماً تارة أخرى، ثم تلبّس شكلاً سرديّا. لك أن تسميه «قصيدة رواية» أو «رواية قصيدة»، لكنه بالتأكيد ليس برواية، كما هي أعراف الجنس الروائي بوصفها فنّاً نثريّا. وتلك المسألة الأولى التي يجب ان تُحسم مع نص كهذا.

ما أعراف الجنس الروائي إذن؟

تلك قضية القضايا هاهنا. صحيح أن الرواية نص مفتوح، لا تحديد ثابتاً له كبقية الأجناس الأدبية. ولكن أيعني انفتاح البنية الروائية انتفاء هويتها؟

كلا.. قطعا!

وصحيح أن تزاوج الأجناس الأدبية شأن حيوي، لكنه لابد مشروط بدرجة من التوازن. أي أنه إذا كان يمكن أن تجاور الشعرية الروائية – في توازن بينهما – ثم يبقى النص داخل دائرة الرواية، أفيمكن أن نظل نسمي النص رواية وقد ذهبت الشعرية بحظ الروائية فيه، أم أننا عندئذ سنكون أمام تجربة جديدة أنتجت مخلوقاً من نوع مختلف يتطلب تسمية جديدة؟ أم تُرانا مرتهنين بانتظار التسمية لترشح إلينا من نقاد الثقافة الروائية الغربية؟، في المساق الآتي محاولة للإجابة عن أسئلة الفن الروائي هذه.

رواية الرواية العربية

لئن لم يكن نقاد الرواية الغربيون قد أسعفونا بالتسمية لتلك النصوص التي تغلب شعريتها على سرديتها، فلقد كان في دقة تصنيفهم للنصوص ما يدلنا لديهم على عدم الخلط الحادث لدينا. شاهد ذلك «مجنون إلسا» لأراغون1، وهو نص مطوّل، بلغ في الترجمة العربية 421 صفحة، مليء بالقصائد والمواقف والحكايات والمذكرات، ويحمل نسقاً روائيّاً أقوى وأشد وضوحاً وإثارة من نص شعري ك«سقف الكفاية» لمحمد حسن علوان، وبالرغم من هذا، فإننا لا نجد على غلافه كلمة «رواية»، بل كلمة «قصيدة» بالفرنسية: Po`eme، ولو كان هذا العمل من نتاجاتنا لبادر كاتبه والكاتبون عنه إلى إدخاله حقل الرواية، (حبّاً وكرامة!).

ذلك أنه «في كل رواية يجب أن تقع أحداث، وأن تقع وفق نظام معين. وما دامت الأحداث لا بدّ أن تقع، فإن ما يميز حبكة عن أخرى هو النظام الذي تسلكه الأحداث فيها.. إن أبسط شكل للقصص النثري هو قصة تحكي سلسلة من الأحداث، هي بوجه عام خارقة للعادة»2. هذا إلى المكون الآخر للرواية، وهو وجود الشخصيات، التي ينبغي أن تأتي أكثر شبهاً بالحياة. وهذا وجه انفراق بين الشخصية الروائية والشخصية الشعرية، السباحة في عوالم الخيالية والمثالية المجردة. ولا بدّ للشخصية الروائية من أن تتطور، ولا تبقى سطحية، بحيث لا تتقلّب بها صروف الدهر، ولا تنمو فيها المشاعر، ولا تتبدل القناعات والأفكار. أي أن لا تبقي تدور حول نفسها، كشخصية ناصر في «سقف الكفاية»، الذي لم يغيره الزمان ولا المكان ولا التعليم ولا الثقافة ولا التجربة ولا العلاقات الإنسانية، بل بقي يحلم بذلك التغيير مجرد حلم إلى آخر الأنفاس، إذ يقول: «ألا يعرف دياركم من القرون يجب أن تتعاقب على الأقوام حتى ينسوا مقدساتهم!» (ص350). ومجموع تلك التحوّلات يجب أن يتفاعل في الزمان والمكان، عبر حبكة ما. ومن الوهم تصوّر أن المرونة في فهم هذه البنى التكوينية لفن الرواية الحديثة يعني نفيها بالكلية.
ولنأخذ أكثر النصوص التباساً وتنصّلاً من تقاليد القوالب الكلاسيكية للرواية في القرن العشرين، وهو «يوليسس Ulysses» لجيمس جويس James Joyce، فسنجد أنه نص يقوم منذ فصله الأول (تليماخوس Telemachus) إلى فصله الثامن عشر والأخير (بينيلوب Penelope) على تلك البنى المشار إليها، لكن بطريقته الخاصة. أي أنه إنما يجدّد من داخل الشكل الفني نفسه. هذا على الرغم من أنه هو الآخر نص يسعى إلى «تنظيم نفسه تنظيماً شعريّاً، أي بشكل يعكس الذات»، كما يشير «أوستن وارين»3. لأنه إذا لم يتوفّر النص أصلاً على هذه الأسس كان من حقه أن يكون أيّ شيء: سيرة ذاتية.. خاطرة.. اعترافاً.. تقريراً.. قصيدة، وكان من حقه علينا أن نسميه باسم آخر، إلا أن يكون رواية.

إن الرواية تظل شكلاً أدبيّاً له شروطه وأصالته، التي لا تقبل التعميمات، مهما قيل بانفتاحه الحديث. وإلا صارت الرواية كل شيء.. أو لا شيء!

نعم يحلو لنا نحن العرب أن نبادر إلى فتح جميع الأبواب دفعة واحدة بعد طول انغلاق. فكما جاءت بدايات قصيدة التفعيلة التي دُعيت شعراً حرّاً لتفتح الأبواب على مصراعيها على نصوص ليست من الشعر في عير ولا نفير لتحسب منه، أغرى انفتاح النص الروائي على ضروب الكتابات الشتى شعرية ونثرية بعضاً من الكتَّاب والدارسين ليعدوا في الرواية: الحكاية، و«الحدّوثة» المترهلة، والقصة القصيرة الممطوطة، والبوح الاعترافي الفائض عن الحدّ، والسيرة الذاتية المطولّة، وأسلوب الاستجواب.. وهلم جرا من الكتابات.. «فكل ذلك عند العرب رواية!» ولعل تاريخ المصطلح نفسه في العربية منذ «رواية اللغة والشعر»، و «رواية الحديث»، و «رواية الخبر» قديماً، إلى تسمية المسرحية «رواية» في بدايات المسرح العربي يلقي بظلاله هو الآخر على التصوّر الأوليّ لما يسمى برواية. ثم جاء مصطلح «السرد» ليمعن في خلط الأوراق لدينا، بين مفهوم «السرد» بشمولية معناه ومفهوم «الرواية» بحدوده النوعية4.

هكذا جاء كثير من الكتابات الجديدة محلى بنعت «رواية»، إن بحق أو بباطل. بيد أن هذه الهوجاء من التعلق بالعمل الروائي كتابة ونعتاً إنما نشبت على نحو لافت في العقد الأخير من القرن الماضي، وعقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الرواية عام 1988م، وهي جائزة طالما حلم بها العرب كغيرهم من الأمم ولشدّ ما سال لها لعاب الأقلام. منذ ذلك التاريخ طفق الشعراء وإنْ بذاكرة شعرية وعلى غير هدى أو كتاب منير من تقاليد فنية راسخة يطلقون قصائد ديوانهم السالف ليعانقوا نصوصاً أخرى محلاة بنعت «رواية»، (وذلك كما فعل محليّاً الشاعر غازي القصيبي، في «شقة الحرية»، و «العصفورية»، و «أبو شلاخ البرمائي»، و «سبعة».. وغيرها، وكما فعل الشاعر علي الدميني، في «الغيمة الرصاصية»، وفعل الشاعر أبو دهمان في «الحزام»، ويفعل الشاعر محمد حسن علوان في «سقف الكفاية»).

وكذلك انطلق الوزراء من وزاراتهم، والسفراء من سفاراتهم، (مثلما فعل غازي القصيبي نفسه، ذو الوزارات: الصناعة والكهرباء والصحة والماء، ذو السفارتين: والشاعر المبدع). بل لقد هوت أفئدة الرؤساء العرب إلى الرواية من علياء قصورها، (مثلما حدث للعقيد معمر القذافي، أو للرئيس صدام حسين). وكل هذا على كل حال نشاط فني جيد! غير أن النقاد الأدبيين بدورهم قد مضوا على تلك الوتيرة، يصنّفون كل ذلك النشاط المحموم على أنه «رواية»، متحللين كثيراً من عقالاتهم المنهجية أو معتقلاتهم الأكاديمية. وتعداد نماذجهم ها هنا يطول.

كل أولئك جاؤوا يخطبون ودّ امرأة غربية تدعى «رواية»، كي تخلّدهم في الديوان الجديد، ديوان الخالدين، وربما من يدري قد توصلهم ذات يوم نجباء إلى سحابة نوبل السويدية، التي صُدموا أخيراً وفي أرذل العمر العربي وعلى غير توقع منهم بهطولها على أحدهم في عقر داره!.

تلك هي رواية الرواية المحلية والعربية. لا يعني هذا أن تلك الحركة الكتابية لم تحدث جديداً وجيّداً، ولم تكشف عن مواهب كانت مخبوءة، ولا ينفي كذلك أن ازدهار الرواية يجيء استجابة لتحولات اجتماعية وثقافية تشهدها المنطقة برمتها، ولكنه لا مناص مع الإقرار بهذا كله من تشخيصٍ على هذا النحو، لا يُغفل تلك الخصوصية العربية من اللهاث روائياً حينما ينظر إلى عمومية الاتجاه العالمي صوب الرواية.

أمّا «الرواية» في ذاتها ومن حيث هي جنس أدبي فستظلّ لا تقرّ لكل واصليها بدعوى الوصال.

وتستكمل الدراسة في المساق الآتي تحليل الشخصية الروائية في «سقف الكفاية».

البطل في سقف الكفاية

من يقرأ عمل الشاعر محمد حسن علوان بعنوان «سقف الكفاية» «2002» سيجده يحمل «حدّوثة» عادية.. كان بإمكانها بالكثير أن تأتي في شكل قصة قصيرة، أو «معلّقة قصصية» طويلة نسبياً. فالحكاية لا تعدو أن ناصراً، وهو فتى في العشرين، سَبَاه حب فتاة اسمها مها. ولأسباب غير مقنعة تزوجت شخصاً آخر اسمه سالم، فتقلّب الفتى في ذكراها حتى غادر الرياض الى فانكوفر بكندا للدراسة مدة عامين.

يلتقي هناك بمس تنغل، عجوز كندية، وبديار، مهاجر عراقي، وكان بطول المدة والتفاعل مع الآخرين وعرضهما يلهج بمها ويتضوّر عليها شعراً ونثراً، وإن استطرد به الحديث هنا تارة وهناك تارة. ثم إذا هو يعود الى الرياض، ليجدها تدخل عليه فجأة. هذه كل الحكاية! بيد أنها أبت إلا ان تأخذ بُعداً مكسيكي الطول. أي مسلسل وَجدٍ لا ينتهي إلا ليبتدىء، تماماً كمسلسل غرام مكسيكي من أربعمائة حلقة «أو صفحة» وأربع. إذ انطلق الكاتب يُبدىء ويعيد في مجموعة خواطر شعرية، يعبئها باستعراض ثقافي للمعلومات وتسجيل استطرادي للأوضاع الاجتماعية والأوجاع السياسية والتاريخية. تصاحب ذلك إسقاطات نقدية مباشرة، وبوح عاطفي مكشوف. وما كان أغنى علوان – بما يتمتع به من خصوصية لغوية باذخة الشعرية – عن الاتكاء على مثل هذه اللعبة الأخيرة، أي البوح المفرط، الذي تفتعله بعض الأعمال الأخرى، حينما تتسوّل خيالات القارىء السُّفلَى!.

ولقد كان يستدرج الكاتب الى كل هذا – الى جانب رغبته الجامحة في إنشاء نص روائي – شهوته اللغوية الشعرية، الرائعة حقاً، لكنها قد أصابت هنا عمله – من حيث يريد له أن يغدو رواية – في مقتل حقاً كذلك، إذ جعلته يجترّ العبارات النارية للوعة عاشق «يسبّح ويقدّس» لمعشوقته، كما قال «ص16».

لكنه يفضي في نهاية المطاف، البالغ من الصفحات 404 الى تدوين بكائية طويلة على أطلال الذات، لفتى ظلّ متجاذباً في هيامه بين حالتين من شعور بالظلم وشعور آخر بالرضى. ماضياً في وصف حالات بطله «ناصر» على درب من الاضطراب النفسي، مسبيّاً بصاحبته – ذات المقاييس الجمالية الغريبة – التي يكرر منها على نحو خاص وصف شفتها العليا البارزة! تلك الصورة التي تقابلها من الناحية النفسية أطوار تلك الفتاة المتناقضة، ومرض ناصر «مجنون مها» قد عرّج به من الرياض الى فانكوفر في كندا، مثلما كان مرض العشاق العرب يعرّج بهم على الديار، ما يبكون أطلاله منها وما يلتمسون فيه الشفاء والسلوى، مرض يبدو – في حقيقته، ومن وجهة نفسية اجتماعية – رديفاً لمفسدتي الفراغ والجِدَة، لا أكثر. وهذا وجهُ تناقضٍ بيِّن بين شخصيتي ناصر وديار، من حيث كان الأخير يكافح منفيَّ وطن مستلب – لا كناصر، منفيَّ عشق مريض، وهكذا، تتردد على الذائقة اليوم تيميات العشق العربية، بشطحاتها غير المسوغة فنياً، أو قل – من وجه آخر – تتكرر مغامرات القصور والسراديب في نسيج «ألف ليلة وليلة» «الفنتازي». كل ذلك في نسق من اعترافات جريئة، حدّ الحرج.

وكذا، يتبدّى التخلخل القصصي في نوع من انفصام يعتور شخصية ناصر، وهو ليس ذلك الانفصام النفسي، الذي يتأتى عن التركيب الإنساني للشخصية، ليكون من ميزات العمل الروائي سبرُ أغواره. بل هو هنا عيبٌ ناجمٌ عن سوء تمثل الكاتب الشخصية الروائية وما ينبغي لبنائها الفنيّ. يظهر ذلك جلياً حينما يقارب القارىء بين وجهي الحكمة والجهل في شخصية البطل. أي بين ذلك الرجل الذي يُلقي الراوي على لسانه مقولات الحكمة والفكر والفلسفة – حيث يسفّه أوهام سقراط، نفسه! «ص123»، ويرد هرطقة لوركا! «ص134»، ويعلّق فرويد بحبلين على قوائم السرير ثم يصلبه «على فقر نظريته!» «ص147-148»- هذا اضافة الى شاعريته المحلقة وثقافته العالمية الواسعة. تلك الشخصية التي كثيراً ما تبدو لغتها أكبر من سنّها، لمّا تقول مثلاً:
«إن قضية الأحلام هذه تزداد تعقيداً في أول العمر!
بقدر ما تكون أحلامنا جميلة مثل الطيور.. بعضها يحلق في الأفق.. وبعضها يحطّ على أشرعة الصيد.. وبعضها ينام بين دموعنا.. بقدر ما تختفي كلما كبرنا، فلا نعود نراها، أو تموت في أيدينا، وتتعفّن، وتؤذينا رائحتها!
أحلام كبرى، صرنا نتمنى ألا تتحقق، لأن تيار حياتنا لم يعد آمناً للسباحة!
وأحلام صغرى، لم تعد ذات قيمة، لأنّ تحققها صار يشبه احتفالاً صغيراً، في مدينة منكوبة!»«ص342».
ثم وجه هذه الشخصية الآخر، بضحالتها وضيق أفقها، خانعة مستسلمة؛ صورة ذلك الشاب الضعيف، المريض حبّاً، الهزيل فكراً، المهتزّ كياناً ووجوداً.

أتلك شخصية واقعية، بالمعنى الفني، أم هي شخصية مضطربة التركيب؟ شخصية حشاها المؤلف بكل ما توفّر عليه من مواد معلوماتية متنافرة، واستعمل لها شتى النصوص المقتبسة. يبحث عنها ليحشرها من كل حدب وصوب. ذلك فضلاً عن أنها شخصية جاءت جوهرياً ثمرة التياثٍ روائي بمسّ شعريّ؟! ولولا هذا كله. تُرى أيّ رجل عاشق هذا الذي كان يمكن أن يقول عن صاحبته ما قاله البطل «ص277»، متضاحكاً بشكل صاخب مع صاحبه ديار!

على أن القارىء قد يعجب لشخصية ناصر من وجه ثالث. ذاك أنه الى دعاوى تلك الموسوعية المعرفية، لابد أن ينطرح على الكاتب سؤال حول ذكريات ناصر في كندا، وهو: كيف تسنّى له مع غضاضة سنه – في العشرين من عمره – وعقب وصوله الى هناك، فإقامته القصيرة في فانكوفر، أن يجري بينه وبين تلك العجوز الكندية «مس تنغل»، التي اكترى لديها شقته، كل تلك الحوارات الواسعة والمناقشات الفلسفية الدقيقة في شؤون الإنسان والروح والحياة، حتى لقد تمّ لها بنفسها بعد تلك العشرة الفكرية واللغوية، «القصيرة في واقعها المضخمة في نصها»، اكتشاف ان الرجل شاعر؟! «ص240». كيف تهيأ لجدار اللغة بينهما أن ينهدّ بهذه السرعة؟ وأنّى كان لحاجز الثقافة أن يتلاشى بهاتيك السهولة؟ حتى لكأنهما كانا منحدرين من ذات الأرومة والثقافة واللغة! أومن طبائع الأمور أن يتفق ذاك في غضون عام دراسي أو نحو عام؟! لكن فيم الغرابة، والبطل قد كان يُحسن مختلف اللغات! فهو لا يتقن الإنكليزية وحدها، بل لقد كان مثلاً في فرنسا يوماً ما، ولقد قرأ ذات مرة عن الانفعال العاطفي «في كتاب فرنسي قديم!» «ص112».

تلك شخصية البطل في «سقف الكفاية»، فماذا عن شخصيات النص الأخرى؟ ذاك مدار التحليل في المقالالتالي.

النهاية الحلم

أودّ في مستهلّ هذا المساق ان أوضح نقطتين مهمتين. أولاهما: ان نقد عمل ما لا يعني بالضرورة الغضّ من قيمته أو قيمة صاحبه. ولو لم يكن العمل يستأهل الدرس لما التفت إليه أصلاً. وثانيتهما: ان القول إن عملاً ما ليس برواية، لا ينفي عنه أدبيته، وإبداعه، وإنما قد يرى فيه ما هو أكبر من الرواية، أي اختراقاً لأعراف الجنس الأدبي المألوفة، وتوليد جنسٍ ذي شخصية مستقلة جديدة.

أما بعد.. فلقد رأى القارئ في المساق الماضي كيف تعامل المبدع محمد حسن علوان مع شخصية بطل نصه «سقف الكفاية». وما قيل هنالك، عن المبالغة المسرفة في رسم شخصية البطل ناصر، يصدق هنا أيضاً على رسم شخصية صاحبته «مها». وذلك مراوحة بين وجهين اثنين: تحلّلها المتمرّد على قيود القيم الأسرية والأخلاقية للمجتمع – باسم الحب المنفلت من كل الحدود- في نحوٍ لا نظير له حتى في حكايات الجواري بألف ليلة وليلة! تلك الفتاة التي يصفها بأنها «تجاوزت منطقة الوأد.. وحلّقت أنثى.. فوق مجتمع الصيادين..»، «ص 396». وهو ما كان يمجّده فيها البطلُ الراوي. ثم على الطرف النقيض يظهر ضعفها المستكين، الذي عزا إليه تخلّيها عن حبه بسهولة – كما تخلّت عن رجال سابقين تعاقبوا عليها! – وانقيادها طواعية للزواج برجل آخر لا تحبه، اسمه «سالم». إنها شخصية تظل افتراضية، متناقضة كشخصية ناصر. وهي غير مقنعة، لا من الناحية النفسية فحسب، ولكن أيضاً من حيث هي تسبح خارج السياق الزماني والمكاني، والروحي والثقافي. ولا يمكن تبرير صورتها إزاء تلك المعايير، وإن التمس الكاتب تعليلاته لها، من قبيل قوله: إنها كانت مريضة بالتمرّد على قسوة الأسرة – في مقابل تعلّله هو بقسوة عشقه إيّاها- أو أنها كانت «محشوة بالخوف الرجالي منذ المراهقة، وهي التي رأت من قسوة إخوتها الذكور ما رأت..» «ص 239»، أو ان أنوثتها تتسع لأكثر من رجل «!!». «ص 270». هذا علي حين لم تتسع رجولة ناصر لأكثر من امرأة واحدة، هي «مها» التي عدّها «سقف الكفاية» من العالم!.

ثم ماذا عن شخصية ديار؟
يذكر الكاتب عنه أنه كان طفلاً في السابعة من عمره إبان الحرب العراقية الإيرانية، «ص 317». وانه عاش سن المراهقة في بغداد، ثم تزوج هناك وأنجب، ثم توفيت زوجته بعد ولادة ابنهما، الذي فقده هو الآخر بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق. وحين قابله ناصر في كندا كان قد أمضى فيها سبع سنوات. فإذا عرف القارئ أن حرب العراق وإيران كانت بين 1980 و1988، بدا له أن دياراً لم يكن يكبر البطل – الذي كان كما قال الكاتب يتعثر في عتبات العشرين – إلا ببضع سنوات، أي أنه هو الآخر في العشرينيات. وهو ما يؤكده الكاتب في الصفحتين 351 – 352، حين يذكر أنه إنما يكبره بسنوات قليلة. إذن إن دياراً في حوالي الخامسة والعشرين حين تعرّف به ناصر. وهذا يعني أنه قد هاجر الى كندا في نحو الثامنة عشرة من عمره. وأنه قبل هذه السن كان – كما يصف الكاتب – قد مر بسنّ المراهقة في بغداد، ثم تزوج ثم أنجب، ثم ماتت زوجه وطفله، ثم ساءت ظروفه، فهاجر. على أنه يشير أيضاً الى ان لديارٍ أخاً أصغر منه يعمل في المخابرات العراقية، كان يستدعيه وينتظره ليكون جلاّده! ويدلّ على أنه أصغر منه قول ديار عن أم أخيه: حملته بعيداً عن أهلها بعد وفاة أبي» «ص 392».

وإذا لم يكن تلاؤم كل هذه التفاصيل مستحيلاً واقعياً، فإنها تظل غريبة الاتفاق.

والأهم من ذلك أنها بعيدة عن شخصية ديار العامة، بما درج ناصر على نسبته إليه من النضج في التجربة، والحكمة في النظر، والعلم الدقيق بتفاصيل تاريخ العراق، الحديث على الأقل. «ص 161 – 166». هذا إضافة الى جسارته، كالشنفرى، إذ يفتك بزنجي كندا، الأضخم منه مرتين «ص 214 – 215، 349». ثم ما تمّيز به من نظره الصائب للأمور، ووعيه العميق في العلاقات الإنسانية، وخبرته الواضحة في الحياة. ولكن لا غرابة، ما دام هذا العبقري قد كان منذ نعومة أظفاره مثلاً – حسب زعم الراوي- يحاكم، بعقل طفل، خلافات السنَّة والشيعة، ثم يقوم بكتابة تحليلاته المذهبية واستنتاجاته عنها في أوراق، يخفيها عن عيني والديه وأهله. وهكذا استطاع ان يتخذ له مذهباً خاصاً، لا سنياً ولا شيعياً! «انظر: ص 252». بل لا غرو أصلاً، ما دام البطل نفسه بتمتع بكل تلك العبقريات الاستثنائية، التي لا يشقّ لها غبار، لو لا أن سَبَتْه فتاة واحدة، قضمت أخضره ويابسة!.

أمّا نهاية هذا العمل، الذي اختيار له صاحبه اسم رواية، فجاءت بمثابة صفعة لتوقعات القارئ الروائية، هكذا:
بعد شهر، كنت أجلس في المجلس الصغير الذي كتبتُ فيه الفصول الأخيرة، أكنسُ المكان وراء ذاكرتي بهدوء، عندما دخلت مها..»

هكذا.. ببساطة، ودون مقدمات! ويا للنهاية المعجزة! ويا لخيبة القارئ الفنية- بعد عناد الصبر على كل الشكوى من حب مستحيل بقي الراوي يجأر به- حينما يصل الى نهاية سحرية كهذه، بلا أحداث ولا مقدمات تكافئ توقعات الصفحات «المهلكة» التي مرت به! إنها نهاية قصيدة رومانسية لا نهاية رواية! أو إن شئت هي نهاية فيلم سينمائي عربي قديم، ينتهي دائماً بزواج البطل بالبطلة، وليتهنَّ سعيد بسعيدة! إلا أن سذاجة النهاية هنا تتدنى عن تلك النهايات الكلاسيكية لتصل الى درجة أشد وهماً، إن في مستواها الواقعي أو مستواها الفني. ولئن كانت الأمور كما شاهدها القارئ في هذه «القصيدة – الرواية»، فما أسهل الحياة وما أيسر الكتابة الروائية!.

وليست هذه بالنهاية المفتوحة. لأنه لم يكن هناك أصلاً شيء من المفارقات في النص ينتهي بنا الى تعدّد الاحتمالات وانفتاح التوقعات! بل هي نهاية واضحة الإشارة الى انه «مها» طُلقت – كما كان ناصر يحلم ويتمنى – ودخلت عليه أو دخل عليها، سيان، بما يوحي به الدخول من زواجهما.. وكفى الله العاشقين العناء!.

وبهذا قفز المؤلف الى النتيجة قبل ان تفضي إليها صيررورة الأحداث نفسها، مع ان القصة في حقيقتها هي فنٌّ في تصوير صيرورات إنسانية ما، لا مجرد عرض نتائج كان المؤلف يرتب لها ويسعى الى الوصول إليها منذ البداية، ومن ثم فإن على من يأخذ الرواية مأخذ الجدّ ان يعتني بما يحدث لا بنتيجة ما يحدث فقط، كما ينّبه الى ذلك «ويليك، رينيه، أو ستن وارين، 1987» نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي «بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، 225.

وإذن بعد أن أرهقت الكتابة الكاتب والقارئ معاً، أنهاها صاحبها في سطرين.. ثم وقّع اسمه وأرّخ! ويا للفاجعة!.

كيف يتخلص من عبء نهاية صاعقة لنص طويل كهذه؟ جعل قبل السطرين سطرين، قال فيهما ما يلي:
وانتظرت أياماً حتى تبرد عاطفتي من حرارة البوح، ثم حمل البريد روايتي الى بلد بعيد، لم أكن بالغه.. إلا بشق «الكتابة»!!.

كأنه يقول إن رواية ناصر قد أدّت الى حلّ العقدة، فحل الحب والسلام ساحة العاشقين! مع ان نشر رواية كهذه، باعترافاتها الصاخبة، وفي مجتمع محافظ، وأسرة قاسية – تحدث عنها الكاتب طويلاً، وعزا إليها حرمان ناصر من مها- كل أولئك كان حرياً بأن يعقد مهمة البطل أمام صاحبته وأهلها ولا يسهّلها! أليس في سلفية تلك التركيبة القيمية الاجتماعية مثلاً ان أهل ليلى قد حرموا قيساً منها لقصائد قالها فيها؟! مع أن هذا البائس الأخير لم يبح بشيء بينهما أكثر من كلمات حبّ عذرية!.

ومع هذا، فقد جاءت هذه النهاية ل«سقف الكفاية» متوقعة تماماً من قبل قارئ ناقد. متوقعة تماماً من حيث كان الكاتب شاعراً لا راوياً.. أو ان شاء، هو شاعر راوٍ، يمارس «قصيدة – رواية». ولذلك جاءت نهاية نصّه حُلُماً شعرياً، لأن النص كان منذ مستهله يدوّن بأحلام شاعر. ومن ثم يصح القول إن البطل الحقيقي في هذا العمل هو «الشعر»، وما عداه ثوب فضفاض اتخذ شكل السرد الروائيّ.

الجنس الروائي.. وشرف الإنجاز المختلف

رأينا في المساق السابق كيف جاءت نهاية نص «سقف الكفاية» للشاعر محمد حسن علوان، فاجئة ومفتعلة. وليس يبرر مثل تلك النهاية – روائيا – الزعم ان ذلك يمكن ان يقع في واقع الحياة، أو حتى ان مجمل تلك الأحداث قد وقعت فعلا. وهل سرد ما يقع في الواقع يصنع رواية؟! ذلك ان للفن بناء خاصا، ووظيفة تعبيرية إنسانية عامة، تسمو على مجرد نقل المجريات كما وقعت، أو كما يفترض وقوعها، وهو ما كان الكاتب يحاول إيهام القارىء في عمله.لقد بدا جليا ان علوان يحاول جاهدا ان ينقل الى القارىء تفاصيل الأحداث، كما وقعت في الحياة بالضبط، أو كما يفترض وقوعها فيها. ولولا تلك الأمانة في نقل الواقع، لتجاوزت شعرية الكاتب – المتألقة لغويا – ميدانها اللغوي لتفعل فعلها في تشكيل شعرية روائية. ساعتئذ كانت سترتفع الى التأثير في هيكلية التركيب السردي للنص، وبوساطتها لربما تجنب النص ان يبدو في نهاية المطاف قصة بلا قصة أو رواية بلا رواية.أما الواقعية – على نحوها الحرفي الذي تناط على خلفيته التبعات – فلا يتوهمها إلا من التبس عليه أساسا مفهوم «الواقعية الفنية» ب«الواقعية الحياتية»، فظن الأولى مجرد نقل حصيف، وتقرير توثيقي عن حالة قائمة بالفعل أو الافتراض! وهذا مالا يزعمه أشد المستمسكين بالمدرسة الواقعية تمذهبا، من حيث ان فلسفة الواقعية ليست بمجردة عن المثالية الجمالية، أي تلك المثالية الجمالية، أي تلك المثالية التي لا تقف عند حدود الواقع بل تتخطاه الى ما يعد فنا، حتى أن «بلزاك» – رأس الواقعيين – يشير في مجموعته القصصية «الملهاة الإنسانية، 1842 إلى التداخل بين مثالية الفن وواقعيته، حينما يذهب الى انه يهدف من وراء واقعية قصصه الى «غاية خلقية، هي إيقاظ روح الفرد، والتعالي بخلق المجتمع». «ينظر في هذا: هلال، محمد غنيمي، 1987، النقد الأدبي الحديث، «بيروت: دار العودة»، 292»، وأخذ الرواية على انها وثيقة تاريخية، أو اعتراف، أو تقرير عن حالة، أو القول: «إن هذه القصة حقيقية، إنما هي إعلانات ترويجية تقال أحياناً بقصد المخادعة، كما يعبر «اوستن وارين». «ينظر: «ويليك، رينيه، اوستن وارين، 1987»، نظرية الأدب، ترجمة: محيى الدين صبحي «بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، 221 فحقيقة الأمر أن الرواية – ما دامت أدبا – وجب عليها أن تمتلك بنية خاصة، وهدفا جماليا، وتلاحما، ومفعولا. نعم للأدب صلة بالحياة، ولكنها صلة ذات طبيعة انتقائية، نوعية، هادفة، وصلات الأدب بالحياة شديدة التنوع: يمكن ان تكون السمو بالحياة، أو الاستهزاء بها، أو مناقضتها، «ينظر: م.ن». وهكذا فالخيال الفني قيمة محترمة لدى مختلف المذاهب الفنية.وتخيل التعارض بين الخيالية الفنية والصدق الواقعي – ومن ثم بين فني الشعر والرواية في هذا الشأن تحديدا – إنما هو وهم لا أساس له.ولذا، يمكن اختزال القضية هاهنا في القول: «إن الفن القصصي عموما هو: بناء خيالي يبدع بحضور الواقع».مفارقة حقا أن يكتب فتى في العشرينيات رواية بحجم «سقف الكفاية». المسألة ليست بمسألة خوارقية مبكرة، يعلن عنها الكاتب في جرأة، لتواجه بالتبجيل أو تجابه بالنكران بمجرد النظر إلى عمر المؤلف. بيد أن الرواية – بصفة خاصة، وبخلاف الشعر – هي عمل العمر والتجربة الحياتية والثقافية. انها جنس أدبي مركب كأشد ما يكون التركيب، على الصعيد النفسي والاجتماعي والثقافي والفلسفي.ومن هنا تبدو التجربة الحياتية والثقافية لكاتب الرواية ملازمة لنضج التجربة الكتابية الروائية لديه. ومن ثم فان طول النص السردي أو تطويله لا ينتج بالضرورة رواية، بمعناها السائد، وان أنتج بلغته الشعرية ما يمكن ان يدعى «قصيدة رواية».وهكذا، يفضي القارىء إلى حقيقة أن الموهبة اللغوية وحدها لا تكفي بحال لكتابة رواية ناضجة، بما يعنيه هذا الاسم من معنى.

المساق الأخير

هذا هو المساق الأخير حول نص «سقف الكفاية» للشاعر محمد حسن علوان، ولعلي قد سعيت عبر المساقات الماضية الى تقديم قراءة مستفيضة في هذا العمل الجدير بالقراءة، لا لجماله الفني فحسب، ولكن أيضا لما يمثله مع جملة نصوص أخرى من السرد المنتج مؤخراً في المملكة من ظاهرة مزيج أجناسي جديد، رأيت افتراع تسميتها ب«القصيدة الرواية». نعم هو مصطلح جديد غريب غير مسبوق، أتحمل وحدي وزره من عمل به، ولكنني أزعم أنني قد حاولت في المقالات السالفة من هذه الدراسة تقديم مبرراتي لاتخاذه، كما سأتبع هذا إن شاء الله بدراسة نصوص أخرى من هذا القبيل، وفضل تبيان لما أدعوه ب«القصيدة الرواية».

أعلم أن هذا لا يرضي عادة نزوع من شغفهم وهج «الرواية»، ولكني أرى شرفهم أهم من شغفهم فشرفهم الحقيقي يكمن في الإنجاز النوعي لا في الإنجاز المدجن الذي هم به مستمسكون، وبتبعية تقليدية للنمط الغربي، حذو القذّة بالقذّة. وأدري أن كلمة «نقد» كذلك ترادف في الآذان والقلوب «العربانية» غالباً كلمة «عيب». ولذا سيلحظ المتابع أن شبابنا وكذا كهولنا حراص على ان يُكتب عن أعمالهم وحقَّ لهم ذلك غير أنهم يخشون في الوقت نفسه معرّة النقد، وإنما يترقبون أن تُكال لهم مدائح رخيصة تروج لأعمالهم وتروي عطش النرجسية المتفتحة في صدورهم. ذلك ان النقد من جهة أخرى في سياقنا «العرباني» تحديداً يقترن في كثير من ممارساته بالهجاء على الطريقة القبلية، اللاموضوعية، ترى صاحبه وإذا هو قد بيت بليل ما سيقول صباحاً عن «عنز ولو طارت»، لا يطيق امتلاك أدوات النقد وممارسته بوصفه علماً من العلوم يقوم على درس الظواهر والنصوص، بتقديم الحيثيات والأدلة والبينات، ولكن بوصفه وسيلة تصفية حسابات بين شخوص، بعين رضا تارة أو عين سخط أخرى. ولست أحسب محمد حسن علوان أبداً من هؤلاء ولا هؤلاء.

هذا، ولقد حدث لأمر تحرير من قبل «الجزيرة» ان اختزل المقال الماضي وضغطت فقاره، ولم ينشر كاملاً، حتى لقد بدا عنوان المقال «الجنس الروائي.. وشرف الإنجاز المختلف»! غير واضح الصلة تماماً بمضمون ما تحته؛ لأن إشارته كانت الى ما جاء في الجزء المرجأ، الذي أورده فيما يلي.

لقد يرى بناءً على ما سلف من تحليل لنص «سقف الكفاية» أنه قد كان لعلوان من تجربته الجميلة في كتابة القصة القصيرة مثلاً إن كان يود الخروج الى فن سردي نثري، ينطبق عليه مصطلح جنس أدبي مستقر، ما هو أولى منه بالاحتفاء والتركيز في مرحلته هذه على الأقل. لقد يُرى ذلك أولى له من قفزة هكذا الى «سقف الرواية»، ولا سيما ان القصة القصيرة قابلة بطبيعتها لإرضاء بعض نزوات الكاتب الشعرية. ولقد يكون في نتيجة كهذه ما يكسر مطامح كاتب في إنجاز رواية، بمقدار ما قد يكون فيه مما لا يرضى المتعاطفين مع تجربته أيضا! ولكن أغاية النقد أن نوجه الناس الى تدجين نصوصهم وفق الشروط النمطية المتعارف عليها سلفا منذ عشرات الأجيال أو مئاتها؟ أم أن همه الأول والأخير أن يشخص بين يديه حالة كتابية، غير معني بقسرها على ما ليس فيها، كما ليس معنيا بما قد عُلّقت عليها من آمال وما قد ينجم عن حكمه عليها من آلام؟

لقد قام هذه الأطروحة إذن حول هذا النص وغيره مما سيتبع من نصوص لتقول في النهاية إن الرواية ليست بآخر العالم الكتابي. فلئن بدا الناقد يهجو روائية نص وفق الخطوط العريضة أو الدقيقة لجنس أدبي عتيق فلعله إنما يسعى بذلك الى أن يضعه بصيغته الحديثة في نصابه الصحيح، بوصفه شكلاً إبداعياً مختلفاً.