arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

صحيفة القدس العربي

رواية "موتٌ صغير"

الحكاية والمعنى الآخر

رامي أبوشهاب

كاتب فلسطيني أردني

تأتي رواية «موت صغير» لمحمد حسن علوان – الصادرة عن دار الساقي في بيروت سنة 2016- بوصفها نصاً سردياً بينياً، يتكئ على متخيل تاريخي سيري؛ ما يحفز إطلاق أسئلة تتشكل في وعي القارئ، في ما يتعلق بالحدود بين هذه المستويات الثلاثة، وبينها تبقى القيمة النصية المعنية بالفعل الوصفي الذي يتجاور مع مكونات دلالية، ومن هنا، فإن النص يبقى غير محسوم في توجهاته النهائية، ولاسيما من ناحية التمكين الدلالي القائم على مستوى الأفكار أو الأيديولوجية التي سعى علوان إلى جعلها غير معلنة، إنما مبطنة، وبهذا يبقى النص في حدود التجسيد السّردي لسيرة الشيخ الأكبر «محيي الدين بن عربي» ظاهراً، وبين ثنايا هذا العنف السردي الحكائي، يُناط بالقارئ تلمس الأبعاد التي تتوارى في مكامن النص، أو بين ثناياه، بغية تفكيكها، ومحاولة توجيهها وجهات يمكن أن تضفي على العمل قيمة ما، مع الإشارة إلى أن العمل قد نال الجائزة العالمية للرواية العربية، ما يدفع به إلى بروز مسؤولية الاستنطاق، والاكتناه المعمقين من قبل القراء الذين غالباً ما يسعون للبحث عن مسوّغات هذا الاحتفاء من قبل مانحي الجائزة، أو المحكمين لهذا العمل دون غيره من الأعمال.

لا ريب في أن العمل برمته يجسد فعلا محايداً للوهلة الأولى على الصعيد الدلالي، إذ لا يبدو على المستوى الظاهري معنياً بالاشتباك مع أيديولوجية معنية، إنما معني في المقام الأول بتمثل سردي لعوالم «محيي الدين بن عربي»، ومن هنا يسعى الكاتب إلى بناء الشخصية ضمن مواصفات متكاملة، من حيث التشييد السردي، إذ نواجه البيانات والمواصفات السردية الخاصة بتكوين الشخصية على امتداد البنية، ضمن كتل نصية بدت متضخمة إلى حد ما، وهكذا، فلا جرم أن يبقى التلقي مشدوداً إلى صحبة ابن عربي، بدءاً من مرحلة الطفولة إلى لحظة الوفاة، ضمن وضع إمتاعي ينطوي على كافة القيم الحكائية بامتياز.

يلاحظ أن المتلقي يشهد وعي ابن عربي الذي بدأ بالتشكل في ظلال البحث عن ذاته، حيث نصحبه كقراء في مساعيه للتخلص على امتداد النص من عوالم المادة، سعياً وراء مراتب الروح، ما يعني أن الكاتب كان على وعي بأدواته السردية، من حيث تخصيب النص ببذور الثقافة الصوفية، وأن يجعل القارئ يمضي في تشكيل النص (تخيلاً مشاركاً) من أجل الارتقاء مع ابن عربي، في البحث عن أوتاده الأربعة في جميع أنحاء الأرض، انطلاقاً من الأندلس وصولاً إلى أمصار الشرق، وفي كل ارتحال كانت ثمة إشارات تزيد من فائض المتعة السردية القائمة على هذه الحيلة التقنية.

لا شك في أن قارئ النص في بعده المتخيل يلمح – إلى حد ما – ذاك التماثل على مستوى الخطوط العامة لحياة ابن عربي مع مرجعياته التاريخية، أو ترجمة حياته، كما جاءت في المصنفات، غير أن بين ثنايا هذا التمثيل السردي نسقا دلاليا مضمرا، يتحدد في تجسيد العلاقة الجدلية بين العالم أو المتصوف والسلطة، ومع أن هذا المستوى يبدو شديد التواضع قياساً إلى نسبة المتن السردي المعني بتأملات ابن عربي، وترحالاته وصداقاته، فضلاً عن قصة عشقه لنظام، كما بحثه عن خلاصه، غير أن محنة النص تمتثل في جدلية العلاقة مع السلطة ممثلة في أكثر من مستوى، وتتبدى في غير جملة سردية، يبثها الروائي بحذق ومهارة. لقد سعى علوان إلى استخدم استراتيجية مخاتلة في نصه، بحيث يجعل من الرواية بما تحفل به من متخيل، معنية بتخليق عوالم الشخصية، ومستوى صراعاتها الداخلية والخارجية، وهكذا ينشئ للقارئ وعياً بسيطاً مأخوذاً بمتعة الحكاية، بالإضافة إلى هذا الفيض المعرفي الذي يتأتى من البنية السردية – السيرية، غير أن النص كان يمضي حقيقة إلى خلق نسق هامشي، يجسد إشكالية السلطة وتعالقها مع المثقفين، وشيء من الإسقاطات التاريخية، مع بيان أثرها على الوعي المغترب، ولكن هذا لا يتقدم على تلك الثيمة القائمة على التردد في تفضيل العقل على القلب أو الروح، وهي إشكالية فلسفية، أو فكرية أو صوفية، تنعكس على واقع الإنسان بتجرده التام في أي مكان، وزمان.

ضمن البعد الآخر نلاحظ أن ابن عربي يقترب من السلاطين، أو الأمراء، أو السلطة عامة، فقد خبر عوالمهم في مستهل حياته، ولكنه لم يأمن بطشهم، وعلى الدوام كان يتوجس من السلطة؛ لهذا سنجد أن الرواية في مستواها الباطني، يتصدرها نقد لعلاقة أبيه مع السلطة، ورغبة الابن (محيي) بأن ينأى بنفسه مفضلاً العلم والمعرفة وقيم التأمل. ومع تقدم النص سنجد أن ابن عربي في اقترابه من السلطة يناله شيء من شررها، حيث يسجن، وفي موقع آخر يطلب منه أحد الأمراء أن يدلو بدلوه في ما يتعلق بأفكار بعض العلماء، ما يتسبب بأذية بعضهم. في حين أن وجوده في مجال السلطة يفتح له مجالاً من فعل التكسب والعطاء، وهذا ما يجعل العلم في حاجة السلطة، ولا سيما للإنفاق على حلقات الدرس… وهكذا فإن أي مواجهة مع السلطة ستنتهي على حساب المثقف، وهكذا، فلا جرم أن ينتهي ابن عربي في ختام الرواية عاملاً بسيطاً يعمل بأجر بسيط في إحدى المزارع، كي يعيل أسرته نتيجة تحول السلطة، ونقمتها على الفكر أو مذهب التصوف.

يمكن القول بشكل عام بأن السلطة تتسم بعلاقة سلبية جدلية مع العلماء والمثقفين، وهذا نسق مهيمن ما زال قائماُ إلى الآن حيث نجد أن السلطة لم تتمكن من ممارسة مدنية حضارية في تعاطيها مع الثقافة أو المثقفين. فثمة في النص بنية ثنائية تتخذ أكثر من إحداثية، قوامها العلماء الذين يعانون من السلطة، ومنهم ابن رشد، وغيره الكثير، علاوة على مسالك السلطة التي لم تجلب سوى الخراب والدمار للمالك، فنقرأ نقداً لتخاذل بعض السلاطين، وتآمرهم على بعضهم بعضا، كما تفريطهم بالمدن الإسلامية، ومنها القدس.

لا بد من الإشارة إلى أن النص يمتلك نزعة اغتراب واضحة، ونعني اغتراب الوعي حسب هيغل، وهنا نستدعي في هذا المحفل سلسلة العلماء والفلاسفة الذين حوربوا ولم يقدروا في زمنهم، أو كانت أفكارهم أعلى مما يحتمل مزاج سياسي ما. وهذا ما يجعل من ابن عربي في حالة اغتراب ممتدة، ومتعددة الأبعاد، فنجد اغترابه عن المرأة، وعن العائلة، وعن الوطن، وعن العامة، وعن السلطة، فصداقاته قليلة، بحيث تكاد تقتصر في نهاية الأمر على شخصين صحباه في رحلته من الأندلس إلى الشرق. هذا الاغتراب في عالم لا يدرك حقيقة الأمر كان نسقاً مسيطراً على بنية العمل على المستوى الفني، كما الفكري أو المقصدي. فابن عربي لم يحقق أي فعل تواصل أو اتصال «حقيقي» مع أي امرأة، بمن في ذلك «نظام» التي أحبته وأحبها. فقد تزوج ابن عربي في البداية من فتاة تخلت عنه بعد وفاة ابنتهما، ومن ثم تزوج امرأة كان قلبها معلقاً بزوجها المتوفى الذي تعود له بعد أن يثبت بأنه لم يقتل في الحرب، ومن ثم يتزوج ابن عربي من زوجة صديقه رغبة في تربية ابنه، وكرامة لصديق عمره، أما «نظام» معشوقته التي جعل لها كتاب «ترجمان الأشواق» فقد نأت بنفسها عن هذا الحب كي تعيش في عالمها، ولتكون وتده الرابع في هذا الأرض؛ ما يحول دون تواصلهما معاً.

ولعل هذا المستوى من الاغتراب يتحقق على مستوى العلاقة مع المكان، حيث تبقى الأمكنة التي ارتحل إليها ابن عربي في وضعية جدلية من حيث الصفاء، فتقترب منه تارة، وتقصيه تارة أخرى، فابن عربي يرتحل من مكان إلى مكان كي ينهي هذا الاغتراب الروحي، ولكن الأمكنة لا تلبي له حاجته، على الرغم من كثرة المريدين، غير أن ثمة الكثير من العامة، والحاقدين، وضيقي الأفق الذين يحولون دون اكتمال عالم ابن عربي، فتناصبه هذه المجموعات العداء، وبذلك يبقى ابن عربي من النوابت المتوحدين، الذين ينظرون إلى العالم من منظور مختلف، ولعل هذا يماثل رحلة مخطوط ابن عربي التي تبدأ ضمن فصول الرواية، بوصفها حكاية موازية لحكاية ابن عربي. فالمخطوط ينتقل في بنية زمنية متعددة، تنتهي إلى العصر الحديث، وفي كل رحلة ثمة تموضع للمخطوط في أكثر من بقعة في العالم الإسلامي، وكأن إرث ابن عربي لا يقبل التثبيت الهوياتي، فهو عابر للثقافات والقوميات، كما الأديان، إنه إنساني. في حين يلاحظ بأن المخطوط يتحول إلى شاهد على ذلك الانحطاط الذي وصلت له الأمة، فالمخطوط من لحظة تشكله إلى آخر محطة يصلها، يشهد في كل مرحلة جزءاً من السقوط الحضاري، وهذا يتجلى أو ينعكس عبر طريقة التعامل مع المخطوط، والاهتمام به، وبالتحديد على هامش بعض الأحداث السياسية القائمة على الدسائس، والعزل، والانحدار القيمي، بالإضافة إلى الخلافات المذهبية، وهي ناتج فعل السلطة.

لا يمكن أن ننكر بأن هذا التوصيف الرؤيوي يقترب من نزعة ابن عربي الإنسانية القائمة على نبذ الحروب، وكراهتها، ولعل المقاطع الأخيرة من الرواية تشي بالكثير، وذلك من حيث تقدير تموضع السلطة في نطاق سلبي حيث يصور النص خروج الناس لنصرة «العز بن عبد السلام» بوصفه مثقفاً، وعالماً، غير أن جند السلطان يقومون بضرب الناس وترويعهم؛ ما يتسبب بأذى للشيخ ابن عربي الذي تصادف مروره في المكان، ولكنه سرعان ما يتجاوز آلامه لينهض متجهاً إلى البستان الذي يعمل فيه (أجيراً) كي يؤمن قوت يومه. وعلى ما يبدو، فإن ابن عربي لا يحفل بأسباب الفعل ونتائجه، إنما يحفل بأن يؤمن لقمة طعام لعائلته، ما يحملنا إلى تقدير دلالة مهمة عن موقف العالِم، أو المثقف تجاه السلطة، وما يحدث، ولا سيما في وجود الظلم، والانحطاط القيمي، وبهذا فإن ثمة آلة دلالية تعمل في خلف النص، والبنية الحكائية التي بدت شديدة الخصب والثراء على مستوى التحبيك والتشييد، غير أنها استطاعت أن تركن إلى شيء من التفاعل مع القيم المعاصرة ضمن سياسة خطابية مخاتلة، أعتقد بأنها جاءت موفقة إلى حد كبير.