arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في طوق الطهارة

جريدة المدينة السعودية

الإيجابية في طوق الطهارة

جابر مدخلي

كاتب سعودي

طوق الطهارة تفجير لغوي صادق، وتصورٌ لحجمِ هذا البُعد العشقي الناضح به شابٌ أديب أنيق على وجوه العشاق الحيارى، وعلى أنفس المتعبين من الحب.

اختار الكاتب عنواناً ينزف به على أوراقه ليكون هو أُضحية الحب لعيد العشاق في الأرض، ولعيد ميلاده الثالث.. ( طوق الطهارة ) رواية أراد أن يحصد فيها خيار الكتابة ليس لنيل شهرته على ساحات الكتّاب والروائيين العرب، فهو قد حاز جائزة قلوب القراء العرب في رائعتيه سقف الكفاية، وصوفيا الموت. إنه انفعلَ كثيراً في طوق الطهارة بل كانَ حسان كطبيب قلب مفتوح داخل غرفة العمليات وبين يديه مشرطه وقلبٌ مريض، وخبرته.. وإما أن يحييه بخبرته ودرايته بممرات الدماء، وتكاثر الشحوم المترسبة والمسببة انغلاق الشرايين، وتكاثر هذا الصديد الجامد، وإما يميته. لقد أرادَ وكان الطبيب، وفتّش في قلبه عن غالية، وعن الجورية، وعن أنفاس الأمكنة التي تبرزُ بريقَ هذا الطوق فهبط تلك المزرعة التي يدخلها بواحدةٍ، ويخرجها بأخرى لينسف هذا البُعد العشقي الكبير الذي يوازي مساحة الأرض، والرياض، والصحاري، والأمكنة كلها، والتي لم تحفل بإسعاده تماماً رغم ما يوفره له أيمن، ووزان من تجاهلٍ وتغاظٍ تام لممارساته ونزواته..!

الكتابة في طوق الطهارة كما قالها علوان: (تشبه زرع حقل من الأفيون يخدّره إلى أجل مسمى) ظهرُ الغلاف عباراته معبرُ الرواية تماماً كمعبرِ رفح.. غير أن معبرَ علوان أراد أن يبقيه مفتوحاً إلى الأبد، فالأجواء السياسية بمنأى عن الطوق، ولا شأن لحسان بشيء إلا بالحب هنا. وتستدلُ من الغلاف إلى أنّ ثمة إدمان عشقي رهيب سيبلغهُ القراء داخل هذا الحقل الورقي الكبير؛ ولكن هذا الحقل يا علوان خدّرَ قراءك أيضاً وجعلهم يزيدون إدمانك ولنحنُ جميعنا محظوظون بأن حقولك هي مصدر إدماننا وأنتَ مزرعة الحب الكبيرة التي يحرثها مدادك الذي لا ينضب عن مصارحتنا بالحب، ونضح أرواحنا بمياهك العشقية. الرواية بنظري قامت على محور الحب هذا الكائن الأحفوري الذي قال عنه علوان: (أنا أحب أن أكتب عن الحب، هذا كل شيء. وأجدني أكثر صدقاً عندما أتناول هذه الحالة الشعورية الرفيعة. الكتابة وفق قيمة واحدة ليست خطأ، كما أن التنوع ليست واجباً كتابياً مفروضاً على كل كاتب. بالنسبة لي، إذا لم أكتب حول ما يشغل ضميري وقلبي، أجدني عاجزاً عن الاستمتاع بما أفعله. وحالياً، ما زال عندي الكثير لأقوله عن الحب، وقد لا أنتهي).

وكعادته جاء بموسمين متألفين وزاد ألفتهما لينهش كل الأعضاء التي تتقدم إلى الصلاة بمحراب أوراقه اليابسة من آثار الحزن، والبكاء على موسوعة الأموات، وموسوعة الفراق الكبير، وموسوعة العشق المهدد برؤى اجتماعية.

جغرف الكاتب كثيراً من روحه المخنوقة، وتعثّر بحب غالية، وتحرك بوريدها وهصر للقارئ ما يسد جوعه بفواكه الحب، والعشق، وبثمار الجسد التي تلفها الأفواه الحزينة الجافة.
الكاتب في طوق طهارته حفر قبور الموت من جديد كما فعلها بصوفيا، لكنها هنا أتت قبور على هيئة وفيات الحب، في طوق الطهارة أحرمَ بالحب من ميقات حزنه، ورداءه عشقه لغالية.
الحب وحده الذي يغرق صفحات علوان، ووحده الذي يعصر الأرواح العربية.

وجهٌ أسلوبي جديد تعرّض له الكاتب ولم يشأ أن ينساه.. لقد تحدث عن طبقة العمال الكادحة في وطنه وأبطن لها سطوراً من الولاء حيث قال: (كان قراري أن أعمل لأني أغبط الناس الذين يعملون لا سيما إذا كانوا منهمكين في أعمالهم على ما يكسو وجوههم من ملامح تركيز وجدية).

كما استعرض جوانب اجتماعية عدّة في هذا الطوق الطاهر وكأنما ينادي بفتح مسرح كبير لتُعرض فيه مسرحيات لها علاقة بعلاج الأفكار، ولها قدرة على اقتلاع سلبية التعامل، وعنصرية الرجل، وقسوته المبهمة والغير مبررة تجاه الأنثى. بل إنه جعل من أوراقه صحافة صادقة، وقادرة على نشر كل المقالات التي لا يمكن لأي رئيس تحرير أو لصحفي أن يلتزم الصمت حيالها. تعرّض إلى علم النفس، وجلب للعيادات النفسية زبائن وكأنه يقدم دعوة لشعبه الخائف من ممارسة التوجه إلى العيادات النفسية خوفاً من الوصمة! إنه أراد أن يقول لهم إذا ما انخلقت داخلكم الأوجاع، وحلّت بكم الأحزان والآلام فثمة مرض نفسي يجب علاجه واجتثاثه.. فلا تخجلوا من التوجه إلى وزان ورفاقه.. إنكم ستجدون الشفاء، وستستريحون وإن لم يك الأطباء النفسيون كوزان.

استعرض أيضاً خطاباً اجتماعياً لحالات المرأة وتخيّر (المطلقة) في أوطانه والمجاورة كلها وكيف أنها تحت رحمة الرجل (الزوج) السابق أو اللاحق، وتعمّق كثيراً في حياة عشقها، وحبها وأن هذا الحب كجنين يجب أن يجهض لإخفاء معالم الزنا، أو وصمات العار التي قد تلحق بالمطلقة..! لا شك أنه عصر روحه لينتج عقاقير فكرية لهذا الشعب المتضارب، ولهؤلاء الأزواج الذين اعتصموا بزوجات بعد مرحلة طلاقهم.. نساء ربما هن اللاتي يعرّضونهن، ويحرصن على معايشة لذة الانتقام كمسلسلٍ لا تنتهي حلقاته.

كم امرأة كغالية قرار زواجها أوقف دونما وجه حق!؟
إنه كاتبٌ عبقري وباعتقادي أنه أنجب غالية بصعوبة واختارها من الجنوب ليأتي بها ويستحضر ثقافتها ويملأ بها الدنيا كلها كرسالةٍ عريضة يقدمها لمجتمعه ولجيران مجتمعه. لقد أنجب علوان غالية من ضلعه ليستعرض هذا السؤال الأصعب.. كم امرأة تشبه غالية بالمجتمعات؟ وما ذنب من يحبها؟ ولماذا تحرّمُ عليها الحياة بعد الطلاق!؟
إنه أراد أيضاً أن ينتشل النساء من قاع الألم ليفتح لهن فرجات، وإيقاعات أمل ستغيّر أفهام وأعراف هذا الجيل القاسي.

لقد فتح علوان في طوق الطهارة طريقاً جذاباً من لغته المعتادة، يجذب القراء أجمعين. إنه غضِب كثيراً على حبيبته وعلى النساء كلهن، لكنه تصالح مع نفسه في حقل أحزانه العميقة، وبكى.. بكى كثيراً كما عودنا أن البكاء المدادي الفاخر، هذا البكاء على الأوراق الذي يرى فيه أنه علاج الكبار لأنهم لا يستطيعون البكاء أمام الناس؛ غير أنه أراد أن يخرج هذا الكنز البكائي كما أنجبه، وكما خلقته روحه ليعبر أرواح الناس صادقاً ويسكن بهم؛ لقد ضحك بكاءً ، وبكى ضحكاً.

في طوق الطهارة علّمنا حسان أن الحب هو المقود الوحيد الذي يجيد قيادة إطاره بمفرده، وبمفرده فقط استطاع أن يخلق أبطاله لينزلهم في كتابٍ ينشرُ بيد ليست يده، ويطبع، ويختار له قرار إحراق تليق به، وجنازة مناسبة لأوراقه، ودفنٌ يليقُ برماده الموزعُ بالرياح. إنه أراد أن يستعيد بهذا الكتاب أوزان أحزانه التي عادت إليه عن طريق عشيقته بعد علاج نفسي طويل كلّفه الكثير من النساء، وكلفه الكثير من الاغتسال، وكلفه الكثير الكثير من البكاء اللائق بحزنه.

إنه اختار لنفسه اسم جميل وبطولات حزنٍ تليق به، وأدار مداده في صحراء أوراقه الكبيرة التي تحولّت بفعل براعته روائياً عظيماً إلى جنات وبساتين.
إنه عبّر عن الموت، والقدر، والحب، في سياقٍ مثمر، وكذلك صوّر حزن العشاق كما ينبغي لكاتب فعل ذلك.

الكاتب تميز في روايتين وجاء من بورتلند بثالثة أعمق حزناً، وأكثر موتاً، وأشدُ استهلاكاً لروحه من أختيها؛ وكأنما أرادَ أن يجعلَ من رواياته بأن تذكّر إحداهما الأخرى بحزنٍ فاخر، ونجاحٍ أنيق، وعشق عصرَ كثيراً من مخه، وأسقط شيء من شعره ليعيده إلى داخل جمجمته.

أنهى علوان طوق طهارته ببراعة، وأناقة حسان.. حيثُ أنه قرر أن يعود ليغسل نفسه مجدداً من الحزن تحت صنبور الألم؛ تاركاً مكالمة.. لم يقم حسان بالرد عليها حتى الآن.