arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

اندبندنت العربية

“ابن عربي” يستأنف رحلته مجدداً بعد “موت صغير”

مصطفى الأنصاري

كاتب وصحفي

“أعطاني الله برزخين: قبل ولادتي، وبعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني، وفي الثاني ابني وهو يدفنني. رأيت أبي يضحك مستبشراً ببكره الذكر، وزوجتي تبكي مفجوعة في زوجها المسن”.

هكذا استهل الروائي السعودي محمد حسن علوان سفره الأول من روايته “موت صغير” التي اجتهد ما أوتي من خيال وبيان في بث روح “الإمام الأكبر” بين أسطرها، وإشعال فتيل فضول القارئ وعواطفه، وهو ممسك بزمام جواد “الإمام” يطوف به حيث شاء، فإما يشعل الأشواق بأعواد “الكبريت الأحمر” كما كان يلقب، وإما يفيض بـ “الفتوحات المكية” بين دهاليز الحجاز وأثافي دمشق وجداول الأندلس ومرابع المرابطين ومآذن الموحدين في حمراء المغرب الأقصى، ومجالس وخلوات القاهرة وقونية وبغداد.

ومع أن الشاب السعودي، أسر إلى أحد جلسائه ذات يوم بأن الرواية تنزل عليه إلهامها بغتة، حيث لا يتوقع كثيرون في كندا يكابد البرد والغربة والصقيع وهو ابن الرياض ذات الطقس المغاير، إلا أنه على الرغم من ذلك استطاع بخياله الجامح أن يطوح بعيداً مع ابن عربي مقيماً ومرتحلاً، ثم متصوفاً عاشقاً، يرى الحب في كل شيء حتى في أحزانه ومصائبه، فأسرى بالقارئ قروناً وعاد به القهقرى حتى أبصر محيي بين أسوار “مرسية”، وهو يضيق بها ذرعاً وبقرب والده من السلطان، فيودعها غير مأسوف عليها حين سقطت بين أيدي “الموحدين”، نحو “إشبيلية” حيث وجد والده مجداً آخر وسلطاناً يقربه، لولا أن الولد المتمرد على صنعة الأب، جعل يشب عن الطوق، ويصطفى ولياً يدعي أن حجب الغيب له تتكشف، و”أوتاد” الأرض تدنو إليه وتتقرب.

“خسئت والله ما أنت بولي”

لكن جليس السلطان لم تزده تلك الدعاوى على ابنه إلا قلقاً وحدة، فها هو ذات مساء عندما عاد محيي إلى منزل العائلة في حال يرثى لها بعد أيام قضاها في المقبرة، يكيل له الوعيد في حوار يجسد بعد الشقة بين الشخصين، على الرغم من أواصر القربى.

يا بني قل لي ماذا ألم بك، وإياك أن تخفي عني شيئاً؟

إنها جذبة الصوفية يا أبي!

وما جذبة الصوفية هذه؟

إنها ملاحظة العناية الإلهية للعبد باجتذابه إلى حضرة القرب. لاحظني على غير الحال التي اصطفاني لها فجذبني لعنايته.

فكيف (لاحظك) أنت من دون العالمين؟

لأني ولي من أولياء الله!

ثم ينقلب الحوار فجأة إلى خليط من العنف اللفظي والسخرية التي يخالطها عطف الأب الذي لا يتحول، “يا بني أفق مما أنت فيه ولا تسدر في غيك. أي ولي هذا الذي عمره 22 سنة ويقضي ليله سكراناً مع القيان والغانيات؟ هكذا بكل بساطة نسكر كي نصبح أولياء”؟

ومع أن محيي حاول تقريب واقعه لوالده أكثر، إلا أن القاسم المشترك بين ابن عربي الابن والأب لم يكن روحياً في مستوى النسب والدم، فتطور الحوار إلى تقريع من قبيل قول الأب “والله يا بني لقد رأيت الصالحين والطالحين والأوابين والعصاة والأبرار والفجار، ولا أعرف أي صنف منهم أنت. ولا أظنك إلا قد ذهب بعقلك الغرور وصرت تظن نفسك ولياً وما أنت بولي، وتدعي التقوى وما أنت بتقي، وذلك لعمري من فرط فراغك وقلة واشتغالك”.

يأتي الجواب بارداً ذابلاً، “إني منشغل بذكر الله وفراغي مليء بنوره”، فيكون الرد “خسئت والله. بل مشتغل بالقيان والخمور ثم بمزاحمة الموتى في القبور. ثم اعلم أني مسلط عليك الرقباء، ووالله إن سمعت عنك ما أكره سماعه لأرينك ما تكره رؤيته”. (ص 156)

على هذا المنوال مضت العلاقة، إلا أن لقاء محيي بمواطنه الشهير الفيلسوف “ابن رشد” في مجلس السلطان ذات يوم شكل تحولاً لافتاً أوقع المتصوف الصغير فيما كان يحاذر من المضي على خطى والده في منادمة ذوي السياسة والوجاهة، غير أنه ظل يحاول عدم التفريط في المنزلة التي يرى أن القدر اختاره لها، أن يكون ولياً من أولياء الله، فغدا يطارد أوتاده بين مراكش وبجاية في الجزائر إلى القاهرة ثم مكة وبغداد ومالطيا (تركيا) ودمشق، التي جعل يروح عليها ويغدو بين إقبال منها وإدبار حتى ضمت رفاته، إذ لا يزال قبره شاخصاً وشاهداً على تاريخ لم يزل حتى اليوم يثير الجدل، وهو الذي قال إن اختيارها لمماته لم يكن عبثاً، وإنما جاء انتظاراً لعيسى ابن مريم الذي تؤمن أديان سماوية عدة بنزوله من السماء آخر الزمان.

وفيما يعيد بعض النقاد اهتمام الغربيين منذ القدم ببطل الرواية إلى علاقته النظرية بالمسيح، فإننا لا نعرف، ما إذا كان ذلك البعد سيقرب النسخة الإنجليزية من الرواية للمجتمع الغربي أكثر أم لا، فهي على أي حال من جنس “الأدب الصوفي” الذي يربط باحثون مثل الأكاديمية المصرية هالة فؤاد اهتمام المجتمعات المعاصرة بفنونه وأشخاصه، بطغيان المادية على المشهد، على حساب “الروح” الذي يبث الحياة في الانسان، ويعطي الحضارات أبعاداً أكبر، ويغني حتى المنجزات والصناعات بالمعنى والأثر.

لكن رائعة الأديب السعودي “موت صغير”، لم تشأ أن تقف كثيراً عند الجانب المسيحي في الشخصية التاريخية، بل جعلت المركز الأغنى في حياته الروحية مكة المكرمة، إذ شكلت حلوله وسط آياتها البينات، موئلاً انهالت عليه فيها ألوان من “الكشف” والعلوم والمعاني والعشق الإلهي، فكتب فيها موسوعته “الفتوحات المكية” المعدودة أم المدونات الصوفية ومرجعها الأول حتى اليوم، ومن أفكارها وعلى منوالها نسجت مئات المؤلفات المنسوبة إلى ابن عربي زعماً أو حقاً.

على خطى “عمرو بن ربيعة”

لكن المفارقة الأشد أن مكة الطهر والقداسة عند سائر الديانات التوحيدية، كانت أيضاً محل تنزل فيض الشعر والحب في معناه الأرضي والسماوي على ابن عربي، فكتب فيها أيضاً ديوانه “ترجمان الأشواق”، الذي أثار الجدل كثيراً حتى احتاج المؤلف إلى إلحاقه بنسخة سريعة، يشرح فيها ما أراد من مغزى وأفكار، فهمها من يصفهم بالعامة وكثير من أهل زمانه على أنها أشعار غزل ومجون وعشق في فتاة أصفهانية أحبها في مكة على طريقة فتى قريش الأشهر عمرو بن ربيعة، لكن للمتصوفة طريقتهم في التأويل التي جعلته يصرف ما قيل في معشوقته “نظام” إلى منزلة أعلى وأجل.

وهكذا اعتبر غاية هيامه بابنة أصفهان، وصلاً للمحبوب الأعظم رب العالمين الذي تنتهي كل مشاعر المحبة إليه طوعاً أو كرهاً، وذلك أن الإنسان في منتهاه لا يعدو أن يكون عند محيي “المصباح والفتيلة والمشكاة والزجاجة”، ترمز لفعل الحب الذي هو قطعاً عنده “لله وحده”، ولهذا كان توقيع الكاتب علوان ذكياً عندما جعل موقع “الإهداء” قول ابن عربي “إلهي ما أحببتك وحدي، لكن أحببتك وحدك”، فالفتاة التي شغفته حباً في المدينة المقدسة لم يلبث أن اكتشف أنها “وتد” من أوتاده، فحل بذلك لغز رفضها الزواج منه، بعد أن وقع في حبها لدى مصادفتها عند عمتها “فخر النساء”، فظل الاثنان (محيي ونظام) يطلبان عندها العلم، قبل أن يتحول الغرض إلى أشياء أخرى.

وفي هذا السياق، ترى الكاتبة الجزائرية خديجة بلخير في دراسة حديثة لها عن ابن عربي أن بين سمات نهجه الإقرار بأن “للمرأة دور كبير في حياته، فهو والمتصوفة يرون الجمال الإلهي في المرأة، والمفتاح للطريق إلى الله”.

هذا المعنى (الحب المتناسل) الذي يشكل المحور الجامع لفكر الشخصية التاريخية، قد يلخص أيضاً أسباب النقمة عليه من تيارات إسلامية عدة اتهمته بالزندقة مثل ابن تيمية، نظير غموض الفكرة ولوازمها التي يرونها شططاً في الاعتقاد لا يغتفر، فمنه أتى معنى “الحلول والاتحاد” الذي أثار الحفيظة الأكبر ضد ابن عربي، بوصفه تجاوزاً في حق الله أن يعتقد المرء أنه يحل في مخلوقاته ويتحد معها، فيما هو عند مناصريه معنى مجازي يريد به المتصوفة معية العلم والتدبير لا حلول الذات.

اتسام معاني بطل الرواية في مدوناته بتعقيد وغموض رأى بعضهم أنه كان مقصوداً، بين الجوانب التي تجعل من رواية الكاتب محمد علوان “تحفة نادرة”، فقد استطاع بلغته الرشيقة أن يقدم تاريخ البطل في ثوب قصصي سلس، أحاط بمعظم أفكاره المثيرة للجدل في قالب لغوي سهل ممتنع، امتاز به عن عدد من الروائيين الذين تناولوا هذا الحقل، مثل إلف شفق في روايتها “قواعد العشق الأربعون”، التي كان حضور أفكار أبطالها في كثير من الأحيان متكلفاً، كما لو أنها أقحمت مبتورة في غير سياقها، وإن كان بعض النقاد أعاد ذلك إلى قصور الترجمة.

بين الأصل والترجمة

قد تكون خشية ذلك النوع من القصور، هي التي دعت الكاتب ودار النشر إلى التريث في إخراج ترجمة “موت صغير” الفائزة بجائزة “بوكر العربية” 2017، إلا أن ترجمتها إلى “الإنجليزية” لم تصدر غير قريب (الشهر الماضي)، ولكن عن دار نشر تتبع لمؤسسة أكاديمية عريقة هي “جامعة تكساس”، مما يجعلها أكثر حرصاً على إخراج العمل على النحو الذي يحافظ على قيمته الأصلية، هذا إن لم تضف إليه لمسات تساعد في تقريبه للناطقين باللغة الجديدة، في مثل إخراجها الغلاف على نحو مغاير للأصلي، فعادت إلى الصورة الذهنية التراثية لابن عربي ومدرسته الصوفية، وما تمثله من الانحياز للمعنى والمخبر، على حساب المظهر.

كما أن العنوان المترجم أصبح أكثر مباشرة، فكان “ابن عربي موتاً صغيراً”، كأنه يقول إن موتة الطائي الأندلسي صغيرة، فهو ليس كسائر الأموات، وبمعان كثيرة لا يزال حياً، كلما غاب برهة قصيرة بعث بروح أخرى جديدة، بينما يحيل المعنى الذي بالعربية إلى إحدى مقولات البطل “الحب موت صغير”، وقد وضعها الكاتب عتبة لأحد فصول الرواية الـ 100، التي خصص لكل واحد منها جملة مقتبسة من أقوال ابن عربي الأثيرة، مثل “من غفل أفل” و”الناس نفوس الديار” و”الحب سر إلهي”، و “أي شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه”.

الدار نفسها وكذلك المترجم وليام هتشنز الذي وصف المؤلف علوان ترجمته بـ “البديعة”، كانت لهما تجربة مماثلة في ترجمة روايات من هذا الصنف من العربية إلى الإنجليزية للروائي الليبي إبراهيم الكوني، الذي تتناول معظم رواياته الصحراء من أبعاد فلسفية غارقة في الرمزية أحياناً، واستنطاق المعاني التي ترى الصحراء ينبوعاً وواحة، بل “ناقة الله” التي لا تنضب.

وعرفت الدار الرواية على موقعها الإلكتروني بأنها “عمل خيالي تاريخي شامل ومبتكر يؤرخ لحياة المعلم والفيلسوف الصوفي العظيم ابن عربي، المعروف في الغرب باسم “معلم ابن الرومي”، المعروف بأنه “شاعر وصوفي اعتنق الحب دينه”.

“ابن عربي” من منظور غربي

تقديم “ابن عربي” في ثوب جديد إلى الغرب بعد ترجمة “موت صغير”، يضاف إلى “آلاف التآليف والشروحات” التي قالت الباحثة حكيمة بوشلالق إن المستشرقين تناولوا فيها محيي الدين من زاوياه المتعددة شاعراً وصوفياً وفيلسوفاً، مما قد يمنح الرواية في نسختها الإنجليزية حظاً من الاهتمام كما في بيئتها العربية أو أكثر.

ورصدت الباحثة على سبيل المثال اهتمام خمسة من أولئك المستشرقين والمؤلفين في حقب متباعدة بإعادة إنتاج أفكار الصوفي العربي وتقديمه، مثل الإسباني ميغيل أسين بلاثيوس الذي تحدث عن أثر مواطنه الأندلسي في الغرب المسيحي ولكن من زاوية تبشيرية، فحاول أن يعيد الفضل في ذلك إلى الأصول المسيحية التي زعم أن محيي الدين استلهم منها معانيه عند حلوله بمصر وفلسطين وسوريا وما بين النهرين.

وتتلخص سمات مذهب ابن عربي في التصوف، طبقاً لما وثقت بوشلالق بقول بلاثيوس إن “أول خاصية تبرز للعيان هي الأثر الأفلاطوني المتغلغل في كل مذهبه، بخاصة تصوفه ورغبة ابن عربي الشديدة في تكييف تحليل الظواهر الصوفية مع المصطلح الأفلاطوني، وأن تصوفه يكشف عن طابع من المذهب المستتر معناه غير ميسور لعامة الناس، فهو من شأن الخاصة، حتى أضفى على كل مذاهب الروحانية في المسيحية طابعاً أسماها وأصفاها”.

إلا أن إحدى المهتمات بثقافة ابن عربي وهي سعاد الحكيم اعتبرت أن سر الشغف به غربي وكوني، يعود لانطلاقه من “الأفق الإنساني الواسع، فصار صاحب هوية إنسانية واحدة بذاتها، متكثرة بوجوهها وتوجهاتها وبالرقائق الممتدة منها إلى كل شيء وكل أحد، وبالتالي صار قادراً على التواصل الشامل مع محيطه البشري والطبيعي”، وذلك في معرض تقديمها ترجمة كتاب “ابن عربي سيرته وفكرته” للكاتبة كلود عداس، الذي أقر علوان بأنه أهم المراجع التي اعتمد عليها في العمل الذي لقي اقبالاً نادراً من القراء العرب، فهل يفتح “المتصوف الأشهر” نقاشاً روحياً في الغرب الجديد كما أشعل السجال في المشرق والدهشة في الغرب القديم؟

وكان أستاذ اللاهوت الإسلامي في جامعة بوسطن جيمس موريس ممن يرى أن ابن عربي شكل ظاهرة روحية كونية، فترك سلسلة معقدة كاملة من التأثيرات تمتد حتى يومنا هذا، تلقفها المغول والفرس والتتار والأتراك والعجم والمسلمون من كل الأجناس.

وذكر بين الأمثلة على ذلك عند حديثه مع “قنظرة” الألمانية، تأثر الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي الذي عاش بعد حوالى 100 عام، العميق بتعاليم ابن عربي، ومن ثم بعد قرون عدة تعلم الشاعر والأديب الألماني “غوتة” الفارسية ليقرأ شعر حافظ.

محيي الدين بين “أجنحة الرغبة”

وأضاف، “ليس فقط كتاب غوتة الشهير (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، بل أيضاً كثير من مسرحيته “فاوست” تستند بعمق إلى فهم القرآن الذي نقل إلى الشاعر الألماني من طريق شعر حافظ، وحتى في يومنا هذا حين نواجه إعادة السرد الاستثنائي لفاوست في فيلم المخرج الألماني فيم فيندرز الشهير (أجنحة الرغبة)، تبقى القصة بشكل مذهل قريبة إلى تعاليم القرآن، لدرجة أنني غالباً ما أستخدمها لتعريف طلاب السنة الأولى بالقرآن”.

ومع أن الروائي علوان بدأ نشاطه الروائي في وقت باكر مطلع الألفية وأثار اهتمام النقاد، إلا أن الترجمة الحديثة لروايته تأتي في خضم حراك ثقافي سعودي متعدد المشارب الأدبية والتراثية والسينمائية، يؤمل المراقبون بأن يعيد إلى القطاع الزخم الذي تستحقه بلاد لها إرث ثقافي عربي عميق الجذور، وتاريخ مشترك مع كثير من الحضارات يمتد لآلاف السنين، مثلما برهنت الاكتشافات الجديدة شمال غربي السعودية.