arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في سقف الكفاية

جريدة الجزيرة

قراءة أولية، وأسئلة مثيرة حول رواية سقف الكفاية

أحمد الدويحي

روائي وقاص سعودي

حديث المنتدى

وصف عملاق الرواية الرائد عبدالرحمن منيف الرواية العربية، بأنها ذات معطى جمالي يتوفر لها ما لا يتوفر لغيرها من كنوز تراثية، وأشكال حياة مختلفة متنوعة، تحتاج إلى عين مثابر واعٍ وصادق، أما أجيال كتاب الرواية فهم عنده، كالعدائين في سباق المسافات الطويلة، كل منهم يأخذ الراية من الذين سبقوه، ليكمل بها مرحلة جديدة من السباق..

وأحاول في هذا ”المنتدى“، جمع شتات الأجيال، ولو شط بي المدار، حول تجربة ما من التجارب الروائية الصادرة حديثاً، فما أريد غير الفرح والاحتفاء، كيف لا؟ ونحن نشهد ولادة ستة عشر منجزاً روائياً في موسم ثقافي واحد، ونحن الذين كنا في الساحة المحلية، ننتظر عقداً من الزمن، ليجود علينا الحظ بهذا الفرح وليأتي لنا برواية واحدة.. وتكبر دوائر الفرح وتتسع، إذا كانت التجربة متكاملة إبداعياً ونقدياً متجاوزة تجارب أجناس أدبية، مرت بها الحركة الأدبية، لأن الرواية فن شامل، يتداخل مع كل الأجناس الأدبية من شعر، وقصة، ومسرح، وفلكلور، وما إلى ذلك..

وحول واحدة من هذه التجارب، تناثرت الكلمات هنا وهناك..

قيل تجربة شاب، لم يتجاوز من العمر الثالثة والعشرين، والرواية لا تكتب ولا تكتمل تجربتها غالباً في أكثر بلدان العالم، إلا بعد الأربعين سنة من العمر، لتكون التجربة والرؤية قد نضجت، فما بالك والتجربة طازجة غير مسبوقة..؟

قلت وبدعابة، هو من سلالة ”علوان“، أليس هو من بدأ الحكاية هكذا من قبل، وأنه من يصبغ الكلمات ب”ألوان“، وهي طائرة في الهواء، هو الذاكرة الحية الحاضرة الساخرة، دون انكسار كشموخ الجبال، وبرائحة عطر أشجارها المتنوعة، وأخطر من كتب النص السردي، كانت للقصة في زمن مضى شنَّة ورنَّة، وصاحب العبارة الشهيرة ”لا أحب أفعل التفضيل“..!

وظلت الكلمات تتساقط هنا وهناك، وذات ليلة اقتحم (المنتدى)، شابٌّ نحيلٌ، صادف أن تبادلنا النظرات ثم الاهداءات أذكر أني سألته ذات السؤال، أخذ روايتي الأخيرة (المكتوب مرة أخرى)، وأخذت منه إصداره البكر (سقف الكفاية)، ومضى كفارس في دروب الركض الطويلة، وظلت الكلمات تطاردني..

وأي كلمات..؟

وقلت في نفسي ولابد معزياً، إننا ننتمي إلى زمنيين مختلفين، وتجربتين مختلفتين مع أننا في ذات الخندق، ولن تخدعني كلمات من تلك المتناثرة، بأنها مجرد كلمات شعرية لاهثة، لرواية طويلة عبارة (منشور عاطفي)، سخيف، لن يكتب بعدها شيئا لأنها قد استترفت مخزنه، وسألوا بدهشة من أين له كل هذه التجربة المذهلة في هذه السن المبكرة، لكتابة رواية..؟

كلمات متناثرة، ودوائر الأسئلة تكبر وتتسع، والأصح بأننا ساحة بدون رصيد روائي، فالقصة قد وضعت بصمتها في السبعينات والثمانينات، وفتحت نفقاً كبيراً في جدار ذائقة تقليدية، ما فتئت أن صدمت بغير وعي، لتكرس لوناً آخر، وقد عكست تلك القصة جملة من التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون أن تجد تفاعلاً ثقافياً حقيقياً وصادقاً، لأننا أمة بذاكرة شعرية عصية محافظة إلى حد الخجل من أي لون جديد آخر..

وقتها فرحنا أنها لم تقع ضحية لمقصلة النقد، أي كلمات أريد أن أكتبها.. وأي أسئلة.. بعد أن مضت ومضات القصة القصيرة الحادة منها والخافتة، بكل أساليبها ورشاقة كلماتها، لتحل مكانها الرواية كمشروع جبار، ونهر متدفق يشق جفاف صحرائنا، وتلامس تخوم جبالنا الشاهقة ونسمات حواف الخليج، وروحانية الحياة في الديار الحجازية، ست عشرة رواية في موسم ثقافي واحد منها رواية ”سقف الكفاية“، للشاب محمد حسن علوان، أولى فلتات السرد المغرية، وقد قرأت منها «37»، صفحة، وتوقفت عن القراءة بسبب رأي أحترمه سبقني إلى قراءتها إليّ قال بأنها تدور الزمن حول نفسها..

وذات ليلة غريبة قبل أن أنهي قراءتها، فاجأني (ما غيره)، عميد منتدى السرد، الصديق الروائي (إبراهيم الناصر الحميدان)، بطلب غريب بعد أن وطنت النفس، على عدم حضور فعاليات المنتدى نهائياً، انتظاراً لما ستسفر عنه مداولات كثيرة، للوصول إلى منتدى حقيقي، وكان هو المحرض الأول لي على حضور تلك الأمسية، إذ قال بدعابة، وكأنه على علم بما يدور في ذهني: (الليلة ستحضر لتسمع شيئاً يخفف من غيوم الأسئلة التي تدور في رأسك حول رواية ”سقف الكفاية“، ولم أتردد إذ كانت أسئلة كثيرة، تتردد في اللقاءات المختلفة بيننا، وفي اتصالاتنا حول هذه الرواية بالذات، وهناك من تنبأ لها بمصير ”قوارب جبلية“..!

كانت الوجوه تلك الليلة غريبة، إذ أشاهدها لأول مرة تحضر منتدى السرد، وحول الرواية موضوع الحوار، كانت المداخلة الأولى مكتوبة للشاعر محمد الهويمل، وصبغ مداخلته تلك بلغة شعرية تمثل لغة الشاعر الناقد والرواية معاً، مما يعني هنا أن الهويمل أشار إلى تلك الخاصية للغة الرواية، وأنها ذات لغة متفردة، في تركيبتها وبنيتها السردية، لنموذج روائي آخر ذائع الصيت هو (ذاكرة الجسد)، للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، ومستعيرة أصواتاً شعرية عربية كثيرة، منها (أبو القاسم الشابي، بدر شاكر السياب، مظفر النواب، أمل دنقل، نزار قباني..)، والرواية في استعارتها لأحاسيس ولأصوات تلك الأسماء، تجيز إمكانية حذف ثلاثة أرباعها، ويبقى منها مائة صفحة هي ما يمكن أن ينسب للشاب الموهوب محمد حسن علوان.

والواقع أن قراءة الهويمل للرواية، هي إبداع جديد يضاف للرواية كما قلت ليلتها، وأقر بذلك ”علوان“، في نهاية الأمسية، حول هذه المداخلة والنقطة بالذات، وزاد من فرط توافقه مع ما قيل، بأنه حقد على الهويمل الذي يعده صديقاً له، قبل كتابة نقده للرواية ومازال يحاول زيادة الحقد بما يكفي..!

وفي انتظار الورقة الرئيسية، خيب الصديق عبدالله السمطي تلك اللهفة، إذ خرج عن النص المكتوب وبلغة شفهية شفوية خطابية، قال: بأن الكاتب علوان ”فذ“، يؤسس لمرحلة روائية محلية، ويجب ألا ننظر لمسألة العمر، وفي ورقة السمطي الطويلة التي استطعت أن أسترق النظر إليها، ورأيته يقفز منها صفحات كاملة أثناء قراءته، وركز على المحاور التي نسجت الرواية منها خيوطها، متتبعاً ذلك النسيج من خلال اللغة الشعرية، والنقد الاجتماعي، والحالة الكتابية، وهي ذات الفكرة التي تناولها الشاعر يحيى الأمير، إذ كان يميل وهذا ما أتفق معه فيه إلى الحالة الكتابية السردية، بعيداً عن الحدث والشخوص والكتابة التقليدية، وهو رأي قد لا يعجب العديد من المتلقين..

وكشف الاستاذ يوسف الذكير الذي يرفض أن يوصف بأنه ناقد ونحن الذين نعرف بأنه قارئ مهم جانباً خفياً من الرواية، لم يتعرض له من سبقوه عطفاً على المداخلات والأسئلة المطروحة من قبل، حول استعارتها أصواتاً ثقافية عربية شعرية وروائية، والخلل في النسيج السردي الذي وظف دون أن ينسجم مع الواقع الاجتماعي والمنطق السياسي والمعرفي، فالكاتب مثلاً في إشارات دلالية، شكلت بعداً للهزائم وحالات الإحباط العربية لأعوام 56677391م، وما بينها من حروب وقدم الكاتب في روايته رأياً جاهزاً جاء على لسان أحد شخصيات الرواية ”ديار“، عن تاريخ العراق، قال: الأستاذ الذكير حول هذه الجزئية: ”أنا من مواليد بغداد وعشت بها جزءاً كبيراً من حياتي، لم أسمع ولا أعرف كل هذه المعلومات الواردة في الرواية، لأنها تاريخ بعيد جداً، ولا أظن بأن كاتباً شاب في الثالثة والعشرين من العمر، ولو كان بطله عراقي الهوية، كان يعيش معه في الغربة في (كندا)، يستطيع أن يزوده بكل تلك الخلفية المعرفية والسياسية العميقة، ومن ثم يستطيع (علوان)، تضفيرها في نصه الروائي بهذا الجمال..؟!“

أما صاحبنا ”المظلوم“، الذي يحضر لأول مرة، القاص حسين الراشد الذي وزع مجموعته الأولى تلك الليلة، وقد وسمت ب”المظلوم“، فقد حاول أن يستفيد من ملاحظات، قالها من قبله الأستاذ إبراهيم الناصر الحميدان، حول جراءة الكاتب في تناول الشأن الاجتماعي، حاول حسين تلك الليلة، عطفاً على كلام الأستاذ الناصر المزايدة، مع أنه بلسانه قال بأنه لم يقرأ الرواية، ويتثاقف ويقدم لنا وللكاتب كلمة وعظية شديدة البؤس..

بين الداخل والخارج

تكتب الرواية عند محمد حسن علوان، إذا قفزنا مسألة ”عمر العاشق..؟“، كأول رجل يفعلها في التاريخ! ”قلت له بحرف وحيد، لك الفضل في كل ما نفعله وليس لي منه شيء! وجاءني صمتك المغرور، وكنت قد عشقت فيك الغرور، كما يعشق الآخرون التواضع..!“ ص38 وضعت في البداية جملة احتمالات وأسئلة مبيتة، تنفر من أفواه وعيون الزملاء ورؤوسهم حول مسارات الرواية وخصوصيتها..

كانت حركة السرد هي المؤشر في عقلي لمسار الرواية بين اليومي والتاريخي والسياسي، وأصوات الذاكرة والأحلام والأساطير، وتداخل الأزمنة والأمكنة بما لها من حساسية، لنعرف أن الكاتب قد اختار فصل ”الصيف“، بما له من دلالة إبداعية: ”بدأت كتابة روايتي مع اختلاف السنين“، ونعرف بداية تشخيص المكان أيضاً ”تنكبت شارع التخصصي شمالاً، اجتزت نفقاً، أنعطف يميناً بعد إشارتين، ووقفت عند الثالثة“ ص38.
ولم يطل بنا الزمن كثيراً لنتعرف إلى لغة الخطاب الروائي في رواية، تريد أن تأخذ بكل شيء من اللحظات الأولى، إذ أبانت عن ذاكرة لحظية..

والرواية فن يشبه النهر، ويصف الأستاذ عبدالرحمن منيف العطاء الروائي بأنه نوعان أحداهما ”خيّر“، كنهر النيل، والآخر ”شرير“ كنهري دجلة والفرات، والرواية فن يأخذ من الأجناس الأدبية الأخرى، الشعر والقصة والمسرح والفنون الاستعراضية والرقص والصحافة والحياة، و”سقف الكفاية“، نهر يصب من مكان محدد في زمن محدد، يعني بلغة العاشق القديم الذي يقف تحت الشباك الحبيبة ليلقي شعراً، أما والروائي المعاصر في هذا النص، له مسار بلغة الشعر في زمن (الهاتف المتنقل)، نوافذ الحرية الحديثة، ”كان الكلام مثل البحر لا يحده المجرى كالأنهار“، ص41.

وفي قلب الصحراء يجري نهر من الكلام، ليسكن في أرقى أحيائها الحديثة، كما سكن من قبل في أحياء الشميسي والملز في (سفينة الموتى)، وتائها متنقلاً من سيارة أجرة إلى أخرى في كل من أحيائها في رواية ”2 نوفمبر“، وفي أحياء الملز والعود في رواية (المكتوب مرة أخرى)، وفي رواية (الغجرية والثعبان)، وفي عشرات النصوص السردية القصصية المختلفة، منها نص يعنى بذات الحالة وسم ب (مطر)، لحسين علي حسين في شارع عسير، يشكل نهراً من الكلام السردي في الداخل والخارج، وكلها نصوص ”ضائعة“، تشير إلى حركة في أحياء المدينة وتستقرئها المدينة المرأة الحالة النص..!

والمرأة في رواية الكاتب محمد حسن علوان، امرأة ”ناجية من أسطورة الخوف في بلادنا“، التي سوف يكتب سيرتها في الثامن عشر من ”إبريل“، لسبب لست أدري، ما إذا كانت ولادة البطلة الروائية ”مها“، في هذا التاريخ، لها دلالة تعنى بسؤال، يقع بين ساعات بعد اللقاء الأول سيلتصق ب”السقف“ فعلاً، وتصل الحكاية إلى حدها الأخير، ويصبح ”الظن“، في نفس اليوم يقيناً، ويفصح الراوي عن تراتيل خطابه في تراكم لفظي ثقافي بلغة الشاعر القديم، يحدد لنا في شكل أولي نتيجة حالة الصراع المواجهة بين الشعر، الرواية فيما يعجزه الاختيار، إذ يمضي في دروب يحددها سلفاً، دروب الحكمة والفقر والمعرفة والحزن، دروب مضى فيها من قبل أبو القاسم الشابي وطاغور، ستقوده حتماً إلى تدشين رؤيته المسافرة في العشق، مكتفياً برائحة المكان ليمارس العزلة، وفي دور العاشق القديم بمفردات وأدوات العاشق الحديث..!

وأحسب أن المعرفة والخبرة عند الكاتب محمد حسن علوان قصيرة، إذ نلتقط خيط الكلام لنعرف أن الكاتب وظف المعرفة على امتداد زمن وفصول الرواية، فإذا كانت البداية بعد لحظة الولادة اليقينية بساعات، فإن عزلة السفر التي غيبت «مها»، الذاكرة الكتابية والأنثوية، قد حولت الكاتب إلى (مهلوس)، لأن الكتابة دون حب، ليست إلا حرفة!

والمرء يميز عادة ببصمة واحدة مع أن له عشرة أصابع، ولذا فإن شخوص الرواية مغيبة على ضوء بوح متدفق ولغة شعرية وحيدة مميزة تلك اللغة الشعرية بما لها من دلالات تؤجج بوحاً حارقاً، يطوعها الكاتب لخدمة نصه في ملمح، يعنى بقراءة دواوين شعرية وأصوات ثقافية مختلفة، يختلس أصواتها وحسها إلى جانب الأنوثة الطاغية ل”شهر زاد“، وكأنها الجسد المتفرد جنساً وثقافة مجتاحة جدران القصر العالية..

وإذ تهمش الرواية شخوص عالمها، وتتفرد تلك الذاكرة وحدها، مختصرة في شخصها كل الشخوص، ”كل يوم يكتبُ فوقك سطراً.. ويمحو سطراً كتبته أنا من قبل، سيترعني سالم من عينيك شيئا فشيئاً.. دون أن تشعري!، النساء دائماً.. أوراق قابلة لإعادة الكتابة.. ألم أكتب أنا فوق حسن؟ ألم يكتب حسن فوق عبدالرحمن..“ ص80.

تظهر في العالم الآخر، لعالم الروائي بشكل واضح امرأة، تؤدي حياتها بعد موت زوجها في شكل تقليدي، ترعى مسؤولية جيل جديد، لم تنته بقيام الأكبر ”عمر“، بلبس ثياب أبيه، ولا بزواج (عمر وخالد وندى وسحر)، وموت (يوسف)، الذي يعد فاصلاً بين جيلين، تأتي فاعلية (أروى وناصر)، في نهايته، حيث يمثلان جيل التحولات على صعيد حرية اختيار حياته، فأروى توءم روح ناصر، كثيراً ما انتقلت سماعة (الهاتف)، من غرفته إلى غرفتها، لأنه الوحيد داخل محيط الأسرة، يعرف بأن شقيقته على صلة برجل صار فيما بعد زوجها، وتنتهي بخروج ذيل فستانها، نهاية آخر بصمات عالم (السارد)، الداخلي..!

وفي إشارة ذات دلالة إلى (هوية)، كتابة الكاتب بين عالمين، العالم الداخلي المختلف تماماً عن العالم الخارجي، في مقارنة بين حالات المطر، إذ يحضر الشاعر العراقي الراحل (السياب)، في العالم الخارجي، مجسداً تلك الحالة في قصيدته ذائعة الصيت، لنلتقط أولى بصمات التناقضات بين عوالم الرواية، لشخوص العالم الداخلي والخارجي، فالكتابة التي أوهمنا الكاتب في البداية، بأن للمكان دلالته في إشارة صريحة، توحي بتوقف الكتابة بنهاية سفر الذاكرة (الأنثى)، وسفر الراوي، إذ يعلن في إشارة تالية عن تاريخ بداية جديدة، لمسودة حياة قديمة..

وإذ يحقق الكاتب شرط الكتابة الروائية الأول، كتابة يومية تدون تفاصيل الحياة العادية، وحركة ذاكرة سردية، وأسطورة الصوت المعرفي، المتمثل في استحضار الصوت الثقافي، كما في حالة التداعي الشعري والفلسفي، وجماليات الكلام المعبر في أرض الواقع، فالكاتب لا يترك شيئاً دون أن يخضعه في السياق الروائي، ويفلسفه مهما كان تافهاً في ذات اللغة الشعرية، ليمتد بنا الاقتباس إلى نماذج تمر في الذاكرة بدون خوف وبدون حدود وبدون حواجز، بدءاً من مدينة «فانكوفر»، أولى محطات الضياع لهذا ”الهارب من حزن الوطن إلى حزن المنفى، هذا المستجير من ضياع.. إلى ضياع“، ص94.

منشور عاطفي

يكتب محمد حسن علوان، بذاكرة البطل الروائي ”ناصر“ من الخارج إلى الداخل، لوالده الميت من عشرين عاما، ليربط سيرة بين عالمين في حالة واحدة، وحياة العشق والوجد المتمثل في ”مها“ الذاكرة الروائية، ليحافظ على حرارة السرد بذات اللغة ”بطلة“ الرواية الحقيقية، والمعادل الحقيقي للصمت، السكين المسافر في صندوق الأسرار.

وتأتي ”مها“ كوجه آخر للكتابة، أسلوب أنثوي يعكس على سطحه شخوص، بدأت وانتهت في كلمات محددة.

نتعرف منها أولاً إلى هذا السمات التي لم يستطع الكاتب، جعلها تتنامى على جسد الرواية، وليس وحدها الذاكرة الكتابية ”الأنثى“، حيث جاءت الحكاية مختصرة جدا.
سلمان العاشق الذي انتهى كما تنتهي عادة الشقاوات.

وعبد الرحمن استاذ الجامعة الذي يقطر ثقافة، منها مرة واحدة في المجلس الثقافي البريطاني، اذ ركع بين يديها، لينتهي كما تنتهي الخيانات.

أما حسن خط بارليف، الطارىء والعاصفة المقلقة من الرياض إلى مرسيليا، ليترك وشمه البدي، يحرق كل من يأتي بعده.. ولم يبق غير لغة بطلنا ”ناصر“ الحارقة ممتدة، لتخدمه ظروف أبعدته كما أبعدت ظروف المجتمع من قبله حسن، وحينما تريد الأقدار تأتي، ليظفر بها الرجل الأخير والخامس ”سالم“ في الزمن الضائع.

وهنا أستطيع أن اطرح سؤالي الأول بمنتهى الدقة، ويتناول جزئية فنية للكتابة، حول شخوص عالمين فنيين للرواية، ويأتي مستبطنا أولاً العالم الداخلي ”الأنثوي“ المتجسد في ”مها“، ذات الجدران العالية، إذ لا نعرف عن خصوصيتها غير الفعل اللغوي، المنتمي إلى عالم شعري – مع ملاحظة هنا – أن هذا الفعل يفتقد حركة السرد، إذ نرقب فعلاً لغوياً نارياً دون فعل، يكتفي منه بالإيماءات الساخنة والدلالات المجردة، ويلعب الكاتب لعبته بكل ذكاء واقتدار.

ف”مها“ الأنثى والذاكرة الكتابية، هي الصلة المباشرة بين مجموعة من حيث الانتماء إلى الفعل اللغوي، ونشاهد ذلك بكل يقين في وجوه وحركة وتفاعل عشاقها وصولا الى الحركة النهائية فعل ”الكتاب“، المتمثلة في فعل حركة ذاكرة البطل السارد ”ناصر“ الروائية.

هذه الذاكرة ليست مقنعة تماما، فهؤلاء الشخوص، بكل صفاتهم وتنوعهم الدلالي، يبدو أننا لا نعرفهم بما فيه الكفاية، لأننا لا نعرف منهم غير ما يود الكاتب سلفا أن يورده، كتابة وفعلاً بذات الحزن والحرارة، والفعل وحركة الحدث السردي الذي يغيب، كما تغيب المتعة لو فقدت الرواية زخمها الشعري، فلا رابط بين عوالم تلك الشخوص، سوى حرقة ذاكرة ”مها“ الكتابة الأنثوية، ولن نسأل – هنا – عن السياق المنتظم للخطاب الروائي، اذ نقفز مباشرة إلى الصورة الأخرى من العالم الداخلي للرواية، ونعطف على بطل روايتنا ”ناصر“ الذي يستعير أصوات في شكل أسطوري، ويحيا بذاكرة عدد كبير من المثقفين العرب، ويردد أصواتهم جميعا بحيادية، بدءاً من ”القوميين العرب إلى نصوص المتصوفة“، بذائقة توحي أنها قادمة من العالم الخارجي للرواية، يحسن – تعاطفا – أيضاً تأجيل تناول تفاصيل شخوصه تلك الآن. فقد وزع الكاتب ”الشاعر“ الأدوار الشحيحة بين أهله، أمه وسيرة الراحل والده، فالدور الأكبر له البنات والبنون، بما يخدم النص المنتمي الى ”الذاكرة“ الأنثوية للكتابة ”مها“، فالدور الذي لعبته الأخت الصغرى ”أروى“، يكفي لاعتباره معادلاً موضوعياً للفعل الكتابي الأنثوي الممتد في الرواية، مع انه في الواقع ينتهي فور خروج ذيل فستانها من الباب، في يد ”عشيقها“ الذي صار زوجها.

ولا نكاد نعرف عن حياة وأدوار بقية الأشقاء شيئا، الأحياء منهم ”والميت الحي“ الشاعر يوسف، الذي يستعير الراوي ”ناصر“ صوته أحياناً، غير أنهم جميعا أولاد تزوجوا وأنجبوا، ويعيشون في ثبات وبنات شأنهم شأن الملايين في هذه المدينة، تشتعل ”هواتف“ سكانها في منتصف الليل عشقا.

ونخلص إلى أننا في نهاية هذا الجزء الأول الذي – وسمته – بالعالم الداخلي للرواية بالنسبة للشخوص، أننا في مواجهة عالمين، عالم ”مها“ بطلة النص وعشاقها، والأنثى الذاكرة الكتابية للرواية، وعالم السارد الراوي ”ناصر“ بطل النص أسرته أشقائه وأمه وخادمتها، وسيرة الراحل والده، اذ تعد هي الجزئية القصيرة المنتمية إلى عالم فن السرد، ولا شيء غير هذا ينتمي إلى عالم السرد، بل ان سؤالا مهما يطرح نفسه، حينما ندرك مساحة القضايا التي طرحتها الذاكرة الخارجية الأخرى، ما إذا كانت الرواية فعلا مقارنة بما طرحته من قضايا، تنتمي إلى العالم الداخلي.

أما أصوات وحساسية جملة من المثقفين العرب، ووردت في ذائقة لغوية لقربها من الشعر، فلا تشكل أهمية بالغة خارج سياقها اللغوي، والرواية برمتها تسقط، ولن تصنف أبدا إلى الجنس السردي إذا فقدت هذه الخاصية نهائيا.

”ترى في أي جامعة تراك تدرسين الآن“ ص119، مدخل لفاعلية الفعل الأنثوي الكتابي الممتد في سؤال الذاكرة، في مواجهة دور جديد ومهم منتظر كعالم خارجي، تدور شكوك وأسئلة أكثر حرارة من هذا الاعتراف الذي يبوح به ”ناصر“ للذاكرة المنتظرة الراصدة للعالم الخارجي للرواية، والبصمة التي يتضخم دورها، ليخرج الرواية من النفق الضيق والفقر السردي الذي لا يمثل صورة كاملة عن واقع، يريد الكاتب أن يقودنا إليه، وهو في ذات الوقت ليس حالة متفردة، لترمز إلى جيل بكامله يعاني من الكبت والضياع، ليغرنا بنفس الجرأة لتلمس أوضاعه كفنان، يشير وعلى الآخرين تلمس مواقع الخلل والعلاج، ففي العالم الخارجي الذي مضى بنا الكاتب إليه، نجد وضوح الشخوص تماما من البداية ”لقد غير ديار في حياتي عادات كثيرة.. لم يلقني.. تعلمت أن السلكين إذا توازيا ربما تنتقل شحنة أحدهما إلى الآخر.. هكذا غيرني ديار“.

وهكذا بكل بساطة تحولت الذاكرة الأنثوية من دور تلعبه «مها» في الغربة، وقد أعلن الكاتب لسبب وهمي توقف الكتابة عنده، وتحولها إلى مجرد شحنة، تنتهي في عالم خارجي ورجالي، وكذاكرة كتابية مهمة يمثل ”ديار“ محورها، ولتتوالى الأسئلة، حول مجمل هذا الدور، الذاكرة الجديدة.

ويستعير – الكاتب هنا – بداية ذاكرة مجردة أخرى، ل”تؤم روحه“ شقيقته الصغرى في حوار يمتد إلى العالم الخارجي، ولن يتحول إلى غثيان فكري مجرد، لنرى ”أروى“ التي تصبح من شخوص العالم الخارجي فجأة، ففي هذا العالم الخارجي الذي سيكون ميداناً للأسئلة، نلمح أن شخوص الرواية في هذا العالم أكثر سردية من شخوص عالمها الداخلي، حيث يفترض أن تكون هي الأقرب إلى عالم الروائي أولاً.

ونلتقط صوت ”ديار“ من اللحظة الأولى، وليدخلنا الراوي في حوار كان غائبا بين شخوص الرواية ليبدأ الحوار ميدانيا في مقهى بباريس مع رسام مغربي، يرسم صور العابرين مقابل مبلغ زهيد، لتختفي حمرة الحب اللاذعة، ويحل مكانها الحوار الجميل الكاشف الذي لابد منه، حول هوية وفلسفة وذات الآخر «مررت على مكتب بريدي، دسست اللوحة في مظروف، أرسلتها إلى عنوان ”أروى“ في لوس انجلوس (ص124).

ويظل دور ”أروى“ سطحيا في سطور قليلة، لا يرقى الي دور ”مس تنغل“ مثلا، فقد نعرف تفاصيل حياتها من ثلاثين عاما، ما بين موت زوجها ولوحاته وإطعام حيواناتها وبرامجها اليومية ورحيل ابنها إلي الملجأ، أكثر مما نعرف عن ام الراوي ذاته، ففي حضورها نكتشف كما قال لي عبد الله السمطي – سرا في اول مرة تحاورنا فيها حول الرواية، بأنها رواية تدور حول – تيمة – صغيرة يعيد الكاتب روايتها، بنفس الحالة وبنفس المفردات أحيانا، ويحقنها بجرعة جرئية تتناول وتمس ”المحاور“ المحرمة المعروفة، يقحمها في كل فصل ويعزف عليها بذات الإيحاء، ليعطيها تلك الحرارة المتوقدة من الأسئلة ذاتها، حول الفعل واللغة لتبدو الرواية في جزئيها الداخلي مجرد رسالة عاطفية طويلة متأججة، ولتأت الأحداث والتفاصيل صغيرة، غير ذات أهمية في سياق الخطاب الروائي.؟

العالم الخارجي

ويمتد حوار الذاكرة الجديدة (ربما كنت أحتاج ذاكرة أخرى.. وبلدا أخرى، أنا الذي التحف بالغربة قبل أن يفقد قلبي حزنه، وقبل أن أجف في صحراء بلادي، قررت أن أركم كلماتي على بعضها قبل أن يستفحل الصمت في جسدي!).

ولست في مجال المقارنة بين سبب غربة الراوي الذاكرة الجديدة (ديار)، فالأول هرب من ذاكرة (أنثوية) أورثته الحزن، ويريد أن يبتعد لينسى، والذاكرة الجديدة تقاذفته الأعاصير موجة بعد موجة حتى وصل إلى هذا الشاطئ، باختصار خرج..
– ديار.. من بغداد
– ناصر.. من الرياض
إذ يبدأ هنا – حوار من نوعية أخرى، ويتحول الحدث العاطفي إلى حدث سياسي صارخ فجأة! (وانقلب الشارع عن بكرة أبيه إلى أفواه لا يخرج منها إلا السياسة!، حتى الأطفال بدؤوا يتشدقون بما يسمعونه من آبائهم، وعطلت المدارس، وتمدد الصيف شهرا آخر، والجميع ينتظر إشارة البدء في الحرب..) ص158.

وتجود علينا الذاكرة الجديدة، بما لم يكن في الحسبان، وبما لا يمكن توقعه، فبجانب التاريخ السياسي العراقي الذي أشار إليه في اندهاش من قبل الأستاذ/ يوسف الذكير، وهو الذي ولد وتربى وعاش في الشارع العراقي، واستمع دائما إلى أصوات مثقفيه، وذلك التاريخ الطويل وتلك الأصوات، في وطن الخوف إذ لم تبق فيه قامة عالية إلا قامة الموت.. وقامة المهيب العفن)، وقد اختار بعضها الموت بنفسه صارخا، كالسياب في مرضه (أريد أن أموت أن أموت!) ص163.

وأخرج من هذا العالم الخارجي لهذه الرواية، المليء بلغة الموت والظلم والقهر والغربة والسواد والخيانات والقتل الذي حل فجأة على جسد الرواية، وتلبس خطابها لسبب غير واضح، بهذه الأسئلة والعبارات لتكون نموذجاً عما أردت السؤال حوله يقول: (لماذا الشعراء – منذ سنين – هم أكثر صادرات العراق.. إلى المنفى؟، ماذا يبقى من شعب بدون شعراء؟، ولماذا يدفع الشعراء دائما فاتورة الألم..؟!)، لنعرف بالضرورة إلى أي ذاكرة مختلفة جدا، قد أخذتنا روايتنا الجميلة، وتغير خطابها من منشور عاطفي إلى ذاكرة تعنى بغيره..؟

ولأن (العادات تغيرت والملامح تشوهت والأقلام تكسرت، والمزاج تغير مثل ضفدع نهري في مستنقع آسن.. وسينكرون على كل حرف وكل ضعف، وكل حماقة، سيقيسون الحكاية بميزان الأسوياء – وسيقول بعضهم أنني أكتب منشورا محرضا) ص180 – وص202.
ولعل ذاكرة الحزن – العنصر – الوحيد المشترك بين ذاكرتين، يكون هو النافذة المشتركة بين شخوص رواية، بثت كلماتها متدفقة بدون حدود، والراوي بصراحة وقد ذهب إلى حد الخوف أن يفسد على جملة العشاق عشقهم، لو ألف كتاباً عما فعله، فما علي غير التنازل أيضا عن كثير من التفاصيل التي ستقودنا إلى نوافذ جديدة، اظن أن المجال والظرف قد لا يستوعبها، وقد وردت جزئية كبيرة مما أردت الإشارة إليه..

سيناريو حزين فعلا، ولكن.. من الممكن أن يكون..

أما و(ديار) يحزن كحزن كربلاء، ويتوعر مثل جبال الشمال، وينتصب صمودا كنخيل البصرة، ولن يكون باردا كدكة غسل الموتى!، فقد كان بودي أن أستريح هنا- من هذا الحزن وأسئلة الشك الحادة، فليس من حيلة وقد غشاني (حزن) ديار العراق، منتظما مع جفاف صحراء (ناصر)، متمنيا أن أستطيع فعل هذا، قبل أن أصل إلى مسار أسئلتي المتصاعد تجددها، كما وجدت زفرة (بؤس) في صدر الراوي، ومزيدا من قسوة ديار..
ولست أستطيع قلب المعادلة أيضا هنا- فالقوة ولو كانت حرائق الحب، لا تعادل قوة المعرفة وبيان مسار الحياة، فليست الأولى خيالات وأوهاماً وما يقوله الآخر حقيقة!، فهما شحنة واحدة (بعض الكتب تبدأ من حيث تنتهي الذاكرة، وتقف إلى حيث يبدأ الوجع، الكاتب الذي يوحد ما بين أقداره، وأقدار قرائه.. هو كاتب يجيد الكتابة.. بصدق) ص229.

وقد خشيت وفي جعبتي، استنفرت أسئلتي كل أسلحتها، وخوفي أن أقع فيما وقع فيه الكاتب بمداخلاته مع رواية أخرى، قيل فيها من قبل أكثر مما قد يقال عن (سقف الكفاية)، للكاتبة أحلام مستغانمي، وكنت على وشك الخوض في حديث آخر..؟

نحيت عن اسئلتي جموحها، فقد تجلى سواد ليلها.. ولا مانع أن تظل حية حتى تجد اجابتها الشافية، كما ظل بطل روايتنا (البائس) ناصر، ممعنا البحث حتى يجد فتاته وذاكرته المسلوبة، وكم ذاكرة معه ساهمت في كتابة هذا النص البديع، المتلبس حزناً ومعرفة أجزم أنها أكبر من العمر الحقيقي لكاتبها، فلماذا لم تنمُ الاحداث بشكل تصاعدي؟ واذا سلمنا بأنها مجرد حالات، فهل كان كل هذا الدفق الانساني والكلام الموزع بعناية بين السطور مجرد (سرقة) بريئة في وضح النهار، لأحاسيس ومشاعر ثقافية متعددة على خارطة الوطن، ولماذا لم تكن شخصيات الرواية الرامزة متنامية الحدث والصورة البارزة (ديار)، وكيف يمكن أن تكون عليه الرواية، لو تم حذف الجزئية المتعلقة بما تحمله من خلفية سياسية وثقافية ودينية، لبلد محدد يبصق (البطل) في نهايته عروبته، وهل يمكن أن يغني التأويل وتداعٍ لفظي، سيطر على أجواء الرواية عن خطابها المنتظر، وهل ساهم طول النص (404) صفحة في تجربة تنظوي على لغة جميلة، ومغامرة جريئة جدا، وهي لا شك كتبت بلغة شعرية عفوية يومية مرسلة في هذا الانفلات، اكتفت من كل شروط فن السرد بالزخم اللغوي، وهل كتبت موازية لنموذج آخر قريب من البال!، وهل يمكن اعتبار (مها) هي النموذج والرمز الدال لحالة، يريد الكاتب توصيلها، وإذا كانت كذلك، فهل نجح في مسعاه، أم هي مجرد (أنثى) لذاكرة كتابية، قد تخص كاتبنا الزميل الروائي الموهوب/ محمد حسن علوان، وبالتالي هل تجريد بقية شخوص الرواية والأمكنة من الدلالة المعرفية كأحدهم دون غيره من الناس (الكتابة ليست مشروعا انعزاليا أبدا، إنها لغة التواصل..)،؟

وأجزم في النهاية، ولم يبق من أسئلتي غير السؤال الأخير، بأن الرواية نص جميل وغير عادي، بالضرورة سوف يحرك خمول المشهد الثقافي، ويثير أسئلة قد تصل إلى الذهنية العاجزة ذاتها، وقد يطرح أسئلة جديدة لي في حالة قراءتها مرة أخرى، وآمل أن يحدث ذلك فهي لا شك تستحق الحفاوة..