لذة النص ولذة الموت في «موت صغير»
كاتبة سورية
لذة النص: يقول رولان بارت في كتابه «لذة النص» (إنّ نص اللذة هو النص الذي يرضي فيملأ فيهب الغبطة، إنّه النص الذي ينحدر من الثقافة فلا يحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة). تنطبق هذه المقولة إلى حد بعيد على رواية «موت صغير» للكاتب محمد حسن علوان، التي فازت بجائزة البوكر لهذا العام، إذ تقدم لنا الرواية سيرة حياة إمام المتصوفة محيي الدين بن عربي، وهو شخصيّة إشكاليّة ترتدي لبوساً أسطورياً عند المريدين، وترتدي قالباً أقرب للشيطنة عند المعارضين. غير أنّ علوان استطاع أن يخرج تلك الشخصيّة من قالب الأسطرة، ويقدّمها كشخصيّة روائيّة تعيش خياراتها وتفاصيل حياتها بعيداً عن كلّ ما قيل ويقال عنها. شخصيّة تمثّل الإنسان في جميع نزعاته الماديّة، وشطحاته الصوفيّة، في تجليات الجمال التي علت في سيرة حياة إمام عارف، قدّم الكثير من الكتب التي مازالت تدرس أسرارها وتفاصيلها في الشرق والغرب إلى الآن، ومن أهمها الكتاب الذي ألفه في مكة «الفتوحات المكيّة».
وعلى شهرة ابن عربي، لم يتطرق أحد إلى تقديمه بشكل إبداعي، على عكس جلال الدين الرومي، الذي حظي بالكثير من الاهتمام والاشتغال الإبداعي والفكري. أما في ما يخص ابن عربي، فقد اكتفى العالم العربي بالتعرف إليه، من خلال كتبه فقط؛ إلى أن قدّمه علوان لنا بقالب الإنسان العادي، الذي يعيش حياته بين جد ولهو، وفرح وتعب، وعلو وانخفاض، تقلبات مزاج الباحث عن خلاصه عن نفسه التائهة، وخلال البحث يتزوج وينجب ويحيا حياته بجميع التقلبات الإنسانيّة الطبيعيّة.
ربّما لا تخفى سيرة حياة ابن عربي على عدد كبير من القراء، فهو من الأئمة المشهورين، وقد كتب جزءاً من تلك السيرة بنفسه، ولاريب اعتمد علوان على هذه السيرة، فربط بين ثقافة القارئ ونصّه السردي، من دون قطيعة تجعلك تشعر ولو لوهلة بشيء من الشطط، وفي الوقت نفسه ترك القارئ متلهفاً لتتبع أحداث السيري في قالبه الروائي السردي، بلسان المتكلم «ابن عربي» نفسه، فكان النص على طوله، (ما يقارب 600 صفحة) مريحاً مرضياً، وممتعاً في آن.
أمّا بالنسبة للقارئ العادي الذي لا يعرف شيئاً عن سيرة تلك الشخصيّة، فسيتعامل معها بلهفة المشتاق لتلقف الأحداث، وسينشغل بها متابعاً بغبطة ومتعة تفاصيل سردية مكتوبة بعناية وبلغة عذبة وسلسة وممتعة، وبذلك يمكن تصنيف نص الرواية حسب مقولة بارت «نص اللذة».
لذة الموت:
«الحبّ موتٌ صغير» ربّما هذه هي المقولة الأشهر والأجمل لابن عربي، يلخص فيها سيرة الحبّ في قلب كلّ عاشق عرف الحبّ وذاق منه ما يجعله يذوب شوقاً، ومن ثمّ منع منه/عنه، فكان الموت الصغير الذي يرحل بالروح إلى عالم الأعراف تطوف الروح العاشقة فيه بين جنّة وصل مبتغاة، وجحيم شوق وانتظار. لذة الموت/الحب هذه تجلت في علاقة ابن عربي بأمه الروحية التي رافقته مقولتها «طهر قلبك، عندها فقط يجدك وتدك»، مروراً برحلات البحث التي خاضها ابن عربي منذ الجذبة الأولى، وهو يبحث عن أوتاده، إلى قصّة الحبّ الأجمل التي جمعت ابن عربي بنظام تلك الأنثى المتكاملة حسناً وأدباً وعلماً وثقافة، أحبّها وبادلته الحبّ بين تلميح وغمز وإطلالات سريعة، ووصل برسائل وأحضان وقبل حرّى.. ذلك الحبّ الذي أراد ابن عربي أن يتوجه بزواج، فكان رفض نظام موته الصغير الذي تركه في دوامة من الشوق إلى أن عرف أنّها وتده الثالث، وكان قد كتب فيها ديوانه «ترجمان الأشواق» الذي أدى إلى تأليب الناس عليه واتهامه بالزندقة. وكان اكتمال اللذة تلك بالتقائه بوتده الأخير شمس التبريزي ليخبره أنّ الإنسان لا يطهر قلبه إلا بالحب.
تفصيلات الحب/الموت/البحث/الخلاص/الطهارة «دين الحب» الذي أعلنه ابن عربي كل هذه كتبت بأسلوب علوان الشفيف والذي اشتهر به في رواياته السابقة، فكان لها الأثر الأعمق في تحقيق متعة النص ولذته.
موت آخر..
على الخط الزماني الآخر للرواية، قدم علوان سيرة مخطوط ابن عربي، الذي كان ينقل من مدينة إلى أخرى عبر أزمنه مختلفة، ليعاين الموت وتفاصيله من خذلان وذل وفرقة وتعصب وانهيار للمجتمع العربي. ليؤكد بانّ الموت الصغير/اللذيذ عندما يفقد يعلو صوت الموت الكبير بكل قبحه وجنونه.