موتُ صغير
نص يُلبس التصوف ثوب الرواية
روائي كويتي
تبدو المقارنة ظالمة بين قراء كتب التاريخ وقراء الرواية حول العالم، فمؤكد أن قراء الرواية يزيدون بأضعاف مضاعفة عن قراء كتب التاريخ. لذا فإن الأهم فيما أقدم عليه الروائي السعودي الشاب محمد حسن علوان، حين كتب روايته “موت صغير” الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2016، هو أنه انتقل بالمتصوف الكبير محي الدين بن عربي (1164- 1240) من أضابير وكتب وخلافات وجهات النظر التاريخية والدينية، ليصعد به إلى سماء الرواية. هذه الانتقالة الذكية خلقت حافزاً محركاً لدى عدد كبير من القراء حول العالم للبحث عن حياة وتاريخ المتصوف ابن عربي.
رواية “موت صغير” الصادرة عن دار الساقي بطبعتها الأولى 2016، ولأنها رواية تاريخية بامتياز، فمؤكد أن محمد حسن علوان قد قرأ ودرس عدداً هائلا من المراجع التاريخية المتعلقة بحياة ابن عربي، مثلما قرأ مؤلفات الشيخ المتصوف، ومن ثم اتخذ قراره بكتابة رواية تخص الرجل، ويأتي معظمها على لسان الشيخ الأكبر وبصيغة ضمير المتكلم.
ابن عربي المولود في مرسية بالأندلس، والذي نشأ في بيت علم، وتعلقت روحه باكراً بالطرق الصوفية ما لبث أن اتخذ طريقه نحو إكمال مسيرته الصوفية، المتمثلة في عثوره على “أوتاده” الأربعة، وظل طوال عمره مرتحلا من بلد إلى آخر، أملاً في العثور على هؤلاء الأوتاد. الذين استغرق البحث عنهم والتعرف إلى عوالمهم عمر المتصوف وأكسبه الخبرة الحياتية والدينية، التي ارتقت بسمعته وكتبه حتى صارت زاداً قائماً إلى يومنا هذا.
محمد حسن علوان، وبقدر ما رسم رحلة الشيخ الأكبر نحو بلوغه غايته الأهم بتعلق قلبه بمحبة الله، وما يراه من كشوف تدفع به إلى مزيد من البحث، فإنه، وربما كان هذا هو الأجمل في الرواية، قد نزل بالشيخ الأكبر من مكانته الدينية والصوفية العالية، ليقدمه كإنسان بمشاعر وأحاسيس وضعف وقوة. وهذا ما جعل القارئ يلهث في تتبع مسيرة حياة الرجل.
أمران أود التوقف عندهما، الأول ما كتبه البعض فور إعلان النتيجة بفوز رواية “موت صغير” بجائزة البوكر، والمس بلجنة الجائزة، وأن الرواية لا تستحق الجائزة، فهناك في القائمة القصيرة كتّاب روائيون أكثر استحقاقاً للجائزة من محمد علوان. وهذا كلام لا طائل من ورائه، خاصة إذا جاء بنفَس فوقي كريه يرى في الخليجي أقل استحقاقاً لأي جائزة، لا لشيء إلا لكونه خليجيا. وهذا يعني بين أمور أخرى النظرة الدونية الممجوجة التي مازالت تسكن صدور البعض مهما حاول إخفاءها.
وترديد النغمة المشروخة بالمراكز والأطراف، مع أن العيش العصري اليوم في القرية الكونية ما عاد يحتمل الحديث بهذا الفكر البائد. الأمر الثاني يخص الكثير مما أثير حول الرواية، وكون محمد حسن علوان قد تناص في بعض أجزاء من الرواية، مع ما سبق وكُتب عن حياة ابن عربي، وتحديداً مع ما كتبه الأستاذ كلود عدس في كتابة “ابن عربي… سيرته وفكره”. مع إغفال أن محمد لم يخلق ابن عربي من عندياته كشخصية تاريخية، لكنه خلق ابن عربي كشخصية روائية سكنت بين دفتي رواية “موت صغير”، وعلوان بذا خلط خلطاً ذكياً ومقتدراً بين سيرة محي الدين بن عربي كوثيقة وبين كتابة روائية تتخذ من اللغة والتخييل وسيلة لرسم شخوصها وعوالمها. ومؤكد أن كل من يقرأ الرواية سيجد صعوبة بالغة في فك التداخل المبدع بين الوثيقة والتخييل، وهذه وحدها هي لعبة محمد المتقنة التي حملت روايته للتتويج.
رواية “موت صغير” رواية ممتعة تتخذ من تفاصيل ومنعطفات حياة المتصوف الأكبر ابن عربي حكاية لسردها، وهي عبر 591 صفحة تبقى مشوقة، وهذا وحده أهم شرط يجب توافره في أي رواية مبدعة.